القاهرة 14 يوليو 2020 الساعة 09:50 ص
كتب : أحمد مصطفى الغر
"ألا تستطيع أن تفهم أن كل من يمارس العنصرية، هو إنسان مفلسٌ قد تم تجريده من إنسانيته؟! بل ويعاني من تشوهاتٍ نفسية عميقة وخراب وتشوه داخلي. العنصرية داء خطير لم يدرسه أحد كمرض نفسي كما يجب"، بهذه الكلمات ردّت الكاتبة والروائية الأمريكية من أصولٍ إفريقية "توني موريسون" على رجلٍ أبيض كان قد سألها: "ما هو شعوركِ حيال العنصرية؟"، عندما أجابت "موريسون"، التي هى أول كاتبة من أصول إفريقية تحصل على جائزة نوبل للآداب، لم تكن الولايات المتحدة قد شهدت بعد هذه الحالة غير المسبوقة من المظاهرات والاحتجاجات ضد العنصرية وعنف الشرطة وإهدار حقوق الأقليات، وخاصةً ضد أصحاب البشرة السمراء.
تتذكر "موريسون"، المولودة في عام 1931م، لياليها الطويلة التي كانت تقضيها في الكتابة، دون أن ملل أو كلل، ودون أن تأبه لكلام والدتها، التي كانت دائما ما تقول لها: "نامي يا ابنتي، إنهم لا يأبهون بالسود"، إذ تقول أن مثل هذه العبارات المسكونة بالشجن واليأس والحسرة، كانت هى سلاحها الذي يجعلها تلحّ في الكتابة للوصول لأفضل ما لديها، فـ"موريسون" ترجع الفضل في صبرها على الوصول للأفضل إلى قصص التمييز العنصري في أمريكا والتي سمعتها من والدها، وعاشت بعضاً منها في طفولتها وخلال دراستها، بل وحتى عندما تخرجت وأصبحت تدرس في الجامعة، فراحت تبحث في التاريخ القديم للولايات المتحدة، وتتذكر تلك المرحلة التي اضطهدت فيها أمريكا الشعوب واستعبدتهم، وترصد ما فيها من معاناة الأفارقة مع أسيادهم البيض وتجار الرقيق، فكانت كتاباتها هى صوت المستعبدين وآهات المتوجعين، ولا سيما النساء منهم.
ذات حديث قالت "موريسون"، واسمها الحقيقي "كلوي ووفورد"، أن "شخصي الأسود وهويتي كامرأة، جعلا قلبي يجيش بمشاعر لا ينعم بها أحد، فلم ينكمش إطار عالمي بسبب كوني كاتبة سوداء وامرأة، على النقيض اتسعت آفاقه"، فرأينا منها المقالات والمحاضرات والروايات والجوائز التي جعلت منكها واحدة من أشهر الكاتبات الأمريكيات في العصر الحديث، لقد نجحت في أن تفلت من الفخّ الذي كثيراً ما يسقط فيه الكتاب المدافعون عن قيم وقضايا كبرى، أو يسعون لنقاش تلك المواضيع الشائكة مجتمعيّاً، إذ لم يتحول أدبها إلى وعاء تٌفرغ فيه غضبها وشعورها بالظلم ومطالبتها بالعدالة على حساب مهارتها ككاتبة، بل على العكس تماما، حيث نجحت في الانحياز لرصانة اللغة وشعريتها، وحساسية الشخصيات التي أبدعتها في مختلف رواياتها، فكتب عن نفسها بلسان حالهم، بصدق شديد انطلاقاً من موقف قوة.
وبالرغم من كل هذا الميراث العنصري، إلا أنه لم يقيدها ولم يجعلها ترضخ للمجتمعٍ الذي نبذها بسبب لون بشرتها، لمجرد كونها سمراء، أو لكونها أنثى تحمل في داخلها تاريخاً من العبودية المقيتة، فهى ـ بحسب وصف "إسكندر حبش" مترجم روايتها "فردوس" إلى اللغة العربية ـ استطاعت أن تعرف كيف تضيف إلى آلام شعبها وإلى صرخات المنبوذين فيه، موسيقاها الخاصة وإحساسها المتوحش ورعبها من الأشياء، ومما يذكر لها أيضا أنها كانت من المناصرين للقضية الفلسطينية، ففي عام 2006، شاركت مع 17 كاتباً في رسالة تندّد بالإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني، إذ وصفتها بدولة الفصل العنصري والاحتلال غير الشرعي الذي يهدف إلى تصفية الشعب الفلسطيني، وتم نشر هذه الرسالة على نطاق واسع حينها، وتعرضت حينها مع آخرين لسهام النقد اللاذع من الصحافة ووسائل الإعلام الإسرائيلية.
في عام 1988م؛ فازت بجائزة "بوليتزر" للسرد الأدبي عن روايتها "محبوبة"، حينها عرّفت نفسها في حوار صحفي بأنها قارئة نهمة في المقام الأول، وأن عملها كمحررة في دار نشر "راندوم هاوس" قد منحها متعة الغرق في الكتب، وحين سألتها المحاور لماذا إذًا قرّرَت أن تكتب، كانت إجابتها ببساطة "كنت بحاجة إلى قراءة قصة تُشبهني، وحين لم أجدها قررت كتابتها بنفسي"، هذا الشغف لكتابة مادة أدبية تشبهها، جعلها تترك وراءها 11 رواية بالإضافة إلى مؤلفات نقدية أخرى، وتوزعّت أعمالها بين الكتابات الأدبية والتدريس الأكاديمي في عدد من الجامعات، آخرها أنها كانت أستاذة للكتابة الإبداعية في جامعة برنستون لمدة 17 عاماً، قبل أن تصبح لاحقاً أول امرأة أفروـ أمريكية تحصل على مقعد فخرى في ذات الجامعة، بعد أن كان ذلك حكراً على الرجال البيض فقط.
رحلت "توني موريسون" في عام 2019، بعد عقود من النضال الذكي لأجل انتزاع حقوق السود، ومقاومة التمييز العنصري ضدهم، عن طريق كشف الزيف الأمريكي حيال حقوق الإنسان وحماية الأقليات، لكنها للأسفت رحلت قبل أن ترى تلك الانتفاضة الأخيرة عقب مقتل المواطن الأمريكي من أصول إفريقية "جورج فلويد"، وما أعقب ذلك من مظاهرات واحتجاجات واسعة تطالب ما نادت به هى ذات يوم، وناضلت من أجل الوصول إليه عبر أدبها وكتاباتها، لم يسعفها الزمن كي ترى ما يحدث، لكن على أي حال فهى مثلهم، نالها الكثير مما نالهم، على أرض تلك البلاد، التي وصفتها يوماً ما بـ"أرض الثعابين اللعينة".