القاهرة 07 يوليو 2020 الساعة 10:04 ص
بقلم: حاتم عبد الهادي السيد
تطرح قصيدة الشاعر عطية معبد "أحدثكم عن النمل" عدة تساؤلات حول وظيفة الأدب/ القصيدة، الشاعر ، وهل يمكن للشاعر أن يتحول الى سياسي، عبر الأيديولوجيا الاشتراكية، والديمقراطيات التي تتشدق بها دول العالم عبر قنوات حقوق الإنسان التي لا تنظر للفقراء بقدر ما تمثل بروباجندا سياسية وأيديولوجية تختفي خلفها أطماع الدول الاستعمارية التي تنهب ثروات الشعوب والأمم وتتركهم يواجهون حكومات ضعيفة لا تستطيع ميزانياتها أن تسد رمق الأفواه الجائعة، ولا تجد فرص عمل متكافئة، ثم ماذا عن وظيفة الشاعر: هل يمكن أن يتحول مصلحاً اجتماعياً،- وهذا دوره القيمىّ في الأساس على مستوى الشكل، لكنه ليس دوره بالكلية كذلك – وهل سيظل الشاعر يرفل في برجه العاجي الذي صنعه من خيالاته ليجلس متفرجاً عما يحدث حوله في المجتمع، دون تدخل منه، أو حتى توجيه لتصحيح مسيرة الشارع/ الدولة/ المجتمع؟
لقد كشفت الثورة المصرية طبقة المثقفين وتناقضاتهم من تطبيق ما نادوا به كثيراً في قصائدهم، وأدبياتهم ، فوجدنا – أغلبهم – قد جلسوا وأحبوا دور المتفرج، دون تشاركية حقيقية مع الشعب في تحقيق مطالبه الإنسانية ، وكان حريا بهم الوقوف في الصفوف الأولى أمام الثوار؛ لأنهم يمثلون الضمير الوطني كما يقولون، أو كما أوهمونا كثيراً بذلك، ومع أن هذا ليس دورهم، إلا أن طبيعة المواقف الاجتماعية تتطلب منهم – في أوقات عصيبة كالثورات– أن ينزلوا من أبراجهم التنظيرية للوقوف والاصطفاف إلى جانب جموع الشعب الغفيرة التي تطالب بما طالب به الشاعر كثيراً، في قصائده كذلك.
إن هذه الازدواجية في القول والتطبيق، في سلوكيات المبدعين والشعراء، قد صرفت الناس إلى الاستماع إليهم، وهم الذين كان الذين كان يخشاهم الرؤساء ويزجون بهم في المعتقلات، خوفاً من فكرهم التنويري، وربما الإصلاحي كذلك، وعلى حد تعبير جوبلز: كلما رأيت مثقفاً تحسست مسدسي، لتنكشف علاقة السياسي بالمثقف، وعلاقة المبدع المثقف بالشعب؛ لكننا اليوم وجدنا –الكثير منهم– أبواقاً للسلطات والأنظمة ضد مقدرات ومصالح الشعب!!
وشاعرنا/ عطية معبد ليس من هؤلاء، ففي قصيدته/ أحدثكم عن النمل، قد رأيناه يجهر وحيداً، وخائفاً كذلك من تغول السلطة وتكميمها للأفواه فنراه ينتهز وجود "وباء كورونا" ليحدثنا عن أوجاع الفقراء"، عن البسطاء، رمل الأرض، وملح الطريق -كما أسماهم- عن جموع الشعب المصري الفقير الذين أدهشتهم مخاوف الطبقات التي حولهم في الركون إلى المنازل والعزل، والتباعد الاجتماعي، وهم يعيشون ربما أسوأ من حال الذين أصابهم الوباء، وهؤلاء البسطاء لا يخرجون عن الناموس، ولكنهم يستنكرون ويتهكمون من القرارات التي جارت بها الحكومات عليهم، وليس لهم أى مصدر رزق دائم في الحياة.
ويباغتنا الشاعر عطية معبد عبر العنوان المخاتل "أحدثكم عن النمل"، فنتهيأ عبر الذهنية لموضوع شيق، عن النمل فإذا هو يحدثنا عن البسطاء والعمال الكادحين، عن وباء كورونا وما فعله بالبسطاء الذين يستنكرون دعاوى الحظر والجلوس في المنازل اتقاء لشر هذا الوباء، دون أن تضع الحكومة حلا لهؤلاء البسطاء، فهم ليست لهم ماهية آخر الشهر لينفقوا منها على فواتير الكهرباء والمياه والغاز وغير ذلك، وإذا جلسوا فمن أين يأكل هؤلاء، وهم يعيشون يوماً بيوم، وكأنه ينبه الحكومة -عبر تلفازاتها اليومية التي تحذر المواطنين من الخروج إلى الشوارع- إلى هؤلاء: عمال اليومية، الأجراء، الكادحين الذين يعيشون حد الكفاف في مجتمع تسوده الطبقية: الفقراء البروليتاريون، مقابل طبقة الموظفين الذين يمثلون الطبقة المتوسطة. والرأسماليون الذين لا يهمهم الجلوس أو الخروج من منازلهم، وكأنه يعيد تذكيرنا بالأدب الاشتراكي، يعيد إلينا الاشتراكية، ويطلبها من جديد بعد أن غابت في ظل الحرمان والعوز، والفقر والجوع والمرض والأمية؛ إذ إنهم بالكاد يعيشون حياة كوفيد (كورونا) قبل أن تأتى ولا يشعر بهم أحد، يقول:
أيها الحمقى
لا تطلبوا منا البقاء في البيت
نحن تراب الشارع،
أبناؤه
أنبياؤه التافهون
الذين لا تعرفهم مهيات الحكومة
لا يملكون أرصدة بنكية
ولا حسابات في البريد
ليس معنا "فيزات"
ولا أية ميزات..غير أننا (بطريقة ما)
لم نزل على قيد الحياة
ليس عندنا سيارات
ينبهنا المذيع المتحذلق كمن يباغتنا
أن نطهر مقابضها
أيها الحمقى
لا تطلبوا منا البقاء في البيت
نحن ملح الارض،
نملها الفقير..
الموعود بملكوت السماء.
إنها قصائد المعارضة، الرفض، الجأر بالفقر ليشعر بهم من لديهم الأمر، ولكى يبعد عنه المسئولية رأيناه يتحدث بترميزية، فهو خائف إذن، لا يستعدى النظام بل يلفت نظره بهدوء عبر من شبههم بالنمل، ملح الأرض، الذين يعيشون عيشة بالكاد تكفي لسد أفواه الصغار الجوعى، لذا يتهكم ويسخر من الإعلاميين الذين صدعوهم، فإذا جلسوا في بيوتهم هل ستوزع عليهم الحكومة الطعام، وهل ستعفيهم من رهق الفواتير والضرائب والمواصلات وإذا مرض أحدهم أو أصيب هل سيجد ثمن المواصلات لينقل إلى المشفى ثم لو افترض وتم الشفاء هل سيوصلونهم لبيوتهم أم سيرمونهم في الشارع ؟ أسئلة كثيرة يطرحها علينا الشاعر/ عطية معبد عبر رائعته الجميلة، وقصيدته البسيطة ذات اللغة الرامزة التي تشبه لغة "كليلة ودمنة"، ودون أن يجرح، أو يسب، لكنها تحمل ثورة نفسية، وتنذر بكارثة فماذا لو ثار الجوعى؟ يقول:
لقمة عيشنا في الشارع؛ ومنه
نجلب قوت عيالنا (يوما.. بيوم)
لا نهتم بخدمة التوصيل للمنازل
فليس لدينا منازل
كالتي تطلون منها علينا
منازلنا
أربعة حيطان مسقوفة بالستر
لذا.. لا نعرف صبية (الدليفرى)
تنبهنا المذيعة الجميلة
بملامح تطفح تعاليا وقحا
أن نتعامل معهم.. عن بعد!!
أيها الحمقى
لا تطلبوا منا البقاء في البيت
محصلو فواتير الحكومة
يطالبوننا بسدادها
كأننا استدنا منهم شخصيا!!
من منكم سيدفع عنا؟
من الذي سيسدد الأقساط الأخرى؟
أو يدفع لنا في المواصلات؟
حتى إلى المشفى
من الذي سيدفع ثمن الأدوية؟
...
إذا شفينا..
سوف ترموننا في الشارع (نعرف)
إنما إذا متنا..
هل
ستحرقوننا
فعلا؟!.
إنه يلفت النظر إلى الثورة القادمة، ثورة الجياع، المرضى، الفقراء، العاطلين،وينبه بإصرار، فيقول: إذا لم تتحرك الحكومات وتنظر إلى تحسين حياة هؤلاء البسطاء، ملح الأرض، ورمل الشارع وحطب الحياة الممتدة، ولنلحظ جمالية الصور، وبساطة التعبير وعمقه، وما خلف ظاهر المعنى الترميزي، وهذا يعيدنا إلى سؤال رولان بارت الشهير: من سرق المشار إليه في النص؟!
ولعل الحكومة في مصر قد تنبهت إلى هذا الخطر بصرف بدل البطالة بناء على ضغط هؤلاء، أو ارتفاع أصواتهم بالنداء. ومن هنا تصبح للشعر وظيفة اجتماعية وإصلاحية، ويصبح للشاعر دوره الاجتماعي لقيادة الأمة والمناداة بآلامها وآمالها، وإلا فكيف نقول عنه إنه ضمير الأمة دون أن يقوم بهذا الدور على أرض الواقع، وإن كان هذا دوره ليس في الأساس، لكن دوره ليس مقطوعاً بالكلية عن الشارع والشعب، إذ هو أحد هؤلاء، بل أنه يمكن أن يكون أكثرهم فقراً كذلك.
إن الشاعر هنا ينزل من برجه العاجي إلى الشارع، يقود جموع الشعب الحزينة، ينادى بآلامهم وآمالهم، ويدعو إلى العدالة الاجتماعية، ومبادئ الثورة المصرية.. خبز، حرية، عدالة اجتماعية ، كرامة إنسانية لجموع الشعب المصري الفقير الذين يشبهون جيوش النمل؛ بينما تتركز الثروة في أيدى 5% من المحظيين.
إن القصيدة تطرح الكثير من الهموم التي تعانى منها طبقات الشعب المصري الذين يعيشون تحت خط الفقر عبر مجتمع لا يلبى طموحاتهم، وعبر الغابة الكونية الشاسعة.