القاهرة 30 يونيو 2020 الساعة 10:42 ص
إعداد: مختار سعد شحاته
الجزء الرابع
صراعات الهامش الداخلية:
تشهد تلك الجماعات المهمشة على المستوى الجماعي التكوين أو الفردي الشخصي مجموعة من صراعات داخلية، ربما بدأت بتنافسية يكون المستفيد منها في النهاية قوة الجبهة الطليعية في عمومها في مواجهة تلك الجبهة المحافظة، وعلى عكس المتوقع تتخذ الأفراد –بشكل شخصي- أو الكيانات المستقلة خطًا للصراع تضيفه إلى أزمة صراعها مع السلطة أو المؤسسة، وهو ما يعجل بانطفاء شعاع طليعيتها، ويصب بالنهاية في صالح السلطة، بل وتستغله وتستثمر فيه، بما يضمن لها قوة في هذا الصراع غير المتكافئ بين الجبهتين.
لعل من أطرف ما يحدث في داخل هذه الدائرة ما يمكن اعتباره -مجازًا- إزاحة، فالجماعات الأدبية والأفراد يطبقون نظرية الإزاحة الأدبية ويحولونها إلى إزاحة اجتماعية، وتلك الإزاحة تلعب دورًا كبيرًا في تكوين الهامش الطليعي، بل وتكوين الهامش داخل الهامش نفسه، إذ تجد بعض الجماعات في الهامش تعمد إلى إزاحات فردية –في غالبها- يتم على اعتبارات منها الأدبي ومنها غير الأدبي أو الثقافي الفني، فلا شك أن الصراعات الشخصية الإنسانية وصراع القيم يلعب دورًا عميقًا في تلك العملية، وهو ما يقف وراء تحالفات نراها في الهامش تتكون أو جماعات ومشاريع أدبية تخرج إلى النور وسرعان ما أن تنتهي. والحقيقة لا يمكن إغفال دور سلطة المال في هذه الحركات والتفتتات التي تحدث في غالبها لا على أصل اختلاف فني وأدبي، بل على اعتبارات مادية واتهامات كانت هي الأساس الأول في هامشهم الكبير، والتي يصل بالبعض إلى حد وصفها بالفساد في المؤسسة الأم.
ويبدو المجال العام لقصور الثقافة والثقافة الجماهيرية منصة واسعة لتلك الصراعات والاختلافات، فيمكن أن ترصد مجموعات أدبية تكونت من رحم المؤسسة، واتخذت شكلها الطليعي بناء على اتهامات فساد المؤسسة وشخصها الاعتباري، وفي ذلك تأتي جماعة "حالة الأدبية"، أو تكتلات البعض داخل أندية الأدب، ومن هنا يمكن فهم العديد مما يحدث في انتخابات اتحاد الكتاب بفرع الإسكندرية، وما يراه طليعيو الأدباء طامة كبرى وفسادًا عظيمًا.
هكذا تستمر الأدوار وتتوالى الإزاحات بشراهة مرة، وبلين مرة أخرى، وقد تصل إلى حد الاتهامات الأخلاقية والتشكيك في قيم الأفراد الإنسانية لا الفنية والأدبية، حتى إن البعض منها في بعض الحالات في الإسكندرية وصل إلى حد الاتهامات الشخصية وهتك العرض في مخالفة صارخة لما ينبغي أن يكون عليه هذا الجانب الطليعي، وهناك كثير من المشاريع في الإسكندرية تم إلغاؤها بسبب تلك الاتهامات، بل تم الانفصال الإنساني بين مؤسسيها بناء على ذلك.
آفات التهميش الداخلية وخطورتها على الهامش:
يبرز السؤال عن سرّ بقاء جماعات في الهامش في داخل هامشها طوال الوقت دون أن ينتبه إليها من هم خارج دائرة الضوء لها؟ وتكمن الإجابة في ذلك إلى عوامل خارجة عن إرادة الهامش وحتمتها الحالة المجتمعية، أو مجموعة القيم المحوكمة في الإطار العام المجتمعي، والتي ترى في هذه الجماعات كسرًا لنمط الحياة، بل وتشكل تهديدًا للهوية في حالات من الهجوم المبالغ عليها، وهذا لا يمنع عوامل أخرى تساهم في ذلك الأمر، إلا أنه هناك ما يمكن رصده من داخل الهامش ويبقى أخطر ما يهدده، والمتمثل في الشعور بالنضج والاكتمال، وهو شعور متوهم يطغى على كامل شخصية المهمش إذا ما بدأ ينتبه إلى حدود هامشه ثم يتعامل معها باعتبارها حدود العالم. وهنا يركن كثير من أفراد الهامش إلى اعتبار قيمهم التي يتبنونها، هي وحدها القيم الأصيلة، وأن أفكار العالم دونهم ليست سوى عفن لم يرقَ إلى مساحة العبث.
يمكن رصد هذا الأمر بقليل من التدقيق داخل الجماعات التي تم تهميشها بدورها داخل الهامش الطليعي بالأساس، والحقيقة التي وقفنا عليها في بحثنا وملاحظتنا لكثير من تلك الجماعات التي تأسست داخل الهامش نفسه، وتعاملت مع هامشها باعتباره المتن السلطوي، وهو ما برر انزياحات للبعض منها إلى الجانب السلطوي في مرحلة ما، دون انتباه إلى الصراع الحقيقي بين المحافظ والطليعي أساس التهميش الذي تهمشوا في داخله، ففي حالات كتابية وفنية ومسرحية ستجد بعض المتدربين على تمارين الكتابة ممن يمارسون الفعل لأول مرة في حياتهم، أو ممن كانوا يتحرجون من الكتابة، وكذلك ممن مارسوا المسرح –عمليًا- من خلال المسرح المدرسي أو الجامعي –وهو مسرح له صفاته وسقفه- تجد هؤلاء بعد وقت قصير للغاية يتصدرون المشهد باعتبارهم مدربين، وبعد اصطياد بعد دور النشر –المشهورة باستغلال الكُتاب الجدد- تبدأ في نشر أعمال أولى لهؤلاء ممن لم يمر عام واحد على ممارسته الفعل الكتابي، ويصدرونهم باعتبار اللقب "كاتب/ روائي/ قاص/ شاعر"، والمثال ينطبق تمامًا على المسرح.
وما دمنا بصدد المسرح ففي مقابلة مع "أ. س" مخرج ومسرحي سكندري، أخبرنا بأن الكارثة الحقيقية تكمن في نقل الخبرات، ونصًا جاء كلامه كالتالي تعليقًا على تلك الظاهرة: "إذا كان المتدرب الطليعي أخذ عن مدربه ما أراه نسبة 20%، وذلك نظرًا لضحل الثقافة أو القراءات وغيرها، ثم يقوم هو ذاته بتلك النسبة بالتدريب، فماذا تتوقع أن ينقل للمتدربين على يديه من نسبة "20%"؟ أظنه لن ينقل أكثر من "5%" وهنا مكمن الكارثة، مضافًا إليها جداول العروض التي تقدمها الوزارة، وهي كفيلة بتهيئة المناخ للفراغ المسرحي".
لعل تلك الملاحظة التي رصدها المخرج السابق، لا تقل في خطورتها عن آفة جديدة تسود الهامش الطليعي، فجُل المتابعين يأتون من تلك النسبة أو بينها "20% - 5%" وهو ما يجعل هذا الجمهور –وله حق متعته الخاصة وذائقته- غير مؤهل للحكم النقدي على العمل، فمثلا في مقابلة مع الفنان "ماهر شريف"(1)علق على ذلك قائلا: "العجيب أن المبدع لا يلتفت وقتها إلا إلى المشجعين غير الواعيين بمناهج النقد، بل ويهاجم المبدعُ –في المسرح وفي مجال الكتابة- كلَ من يقدم رأيًا نقديًا يخالفه، وهو ما يزيد الوضع والمأساة".
إذن؛
فحصول الفرد المبدع في هامشه على بعض الورش ليس كافيًا ليتصدر المشهد ويتحول من متدرب غير مكتمل النضج إلى مبدع ناضج له مشروعه الإبداعي الواعي بكل أبعاده، ومثل هؤلاء يجدون من يرعاهم من داخل هامشهم الضيق، فيحدث ما يمكن تسميته جيوب ثقافية سرعان ما تتلاشى وتذبل وردتها الإبداعية سريعًا، ولعل الذي يتحمله المبدع هنا هو غفلته عن التفريق بين الناقد والمشجع والجمهور والذي يختلط الآن ما بين علاقات اجتماعية يحولها المبدع إلى مساحات من التشجيع وخلق مساحة من التشجيع الخاص به.
يُضاف إلى ذلك ما أنتجه لنا العالم الافتراضي من دوائر تنغلق على بعضها البعض كمجموعات الفيس بوك، والتي بدأت في "مترسة" قيمها الخاصة، وحتى لغتها وشكلانيتها الخاصة مما يزيد الأمر تعقيدًا ولا يدفع إلى فك الاشتباك بين جوانب الهامش بعضه بعضًا قدر ما زادها وحولها من اختلافات نقدية وفكرية وفنية إلى عداوات وخصومات شخصية، وتلك هي الطامة الأكبر في جماعات الهامش، حيث الغفلة عن الحدود بين الشخصنة والإبداع، فتتحول كل خلافات الإبداع إلى شخصية، وكل الخلافات الشخصية إلى خلافات إبداعية.