القاهرة 30 يونيو 2020 الساعة 10:31 ص
بقلم: زينب محمد عبد الرحيم- باحثة في الفولكلور والثقافة الشعبية
يحتفل المصريون في الثلاثين من يونيو بذكرى الثورة الشعبية الخالدة وتعديل المسار، بعدما تعرضت ثورة يناير للإجهاض تحت تأثير الشعارات المتأسلمة، فوجد الشعب نفسه يسير نحو عصور الظلام السياسي والاقتصادي والاجتماعي، فلم يجد أمامه سوى الثورة والمقاومة الحاسمة في سبيل الحفاظ على الهوية الشعبية المصرية التي كادت أن تُطمّس لولا تشبث الشعب ونضاله وتمرده من أجل الإطاحة بالقوى الظلامية، واختار الشعب أن يحتمى بالجيش وأبطاله في ثورة شعبية سلمية مُتحضرة ستُخلد في صفحات التاريخ بحروفٍ من نور.
وعبر مراحل التاريخ والعصور المختلفة التي عبرتها مصر نجد أن الأدب بشكلٍ عام والأدب الشعبي بشكلٍ خاص له دور بارز في توثيق لحظات الثورة والمقاومة وليس التوثيق فقط، ولكن التعبير الشفاهي أيضًا الصادر من الجماعة الشعبية والمتفق عليه بين أفرادها متوسلًا بالكلمة الصادقة للتعبير عن آمال الشعب وآلامه ولا تخلو ثورة أو اتتفاضة شعبية مصرية من الهتافات الشعبية والأناشيد والأغاني التي تُصك باسم الشعب وباسم الثورة ؛ وقطعًا لا يوجد انفصال بين ما يبدعه الجمهور بشكلٍ جمعي وبين ما يُبدعه الفنان الجماهيري بشكلٍ فردي مثل (سيد درويش) فقد كان يُلقب بشاعر الشعب وشاعر الثورة وحُفرَ في ذاكرة الفن النشيد الوطني بألحانه الخالدة وكذلك الأغاني الوطنية التي لطالما كانت الشعلة والطاقة الحماسية لكل المصريين الأحرار مثل (قوم يا مصري، مصر دايمًا بتناديك) فالشعب المصري يعرف جيدًا متى يسخر من أعدائهِ شر سخرية ومتى ينفد صبره وتكون الثورة واجبا وطنيا.
وعند النظر إلى تراث المقاومة الشعبية سنجد أن التاريخ دائمًا ما يُخبرنا بنضالات الفلاح والعامل المصري البسيط الذي تكبد مرارة سنوات الاحتلال الإنجليزي والتجنيد الإجباري وأنشد الوجدان الشعبي معاني الألم، وقال:
بلدي يا بلدي
وأنا بدّي أروّح بلدي
بلدي يا بلدي
والسلطة خدت ولدي
فقد قام المؤرخ عبد الرحمن الرافعي بتقديم صورة لما فعله الإنجليز في مصر من أعمال التجنيد الإجباري للعمال والفلاحين من مختلف أرجاء البلاد لاستخدامهم في أعمال الجيش البريطاني وكانوا يؤخذون كُرهًا تحت اسم التطوع وكانوا يُعاملون معاملة المُعتقلين، ويمكننا أن نلمح تلك الصورة تتجلى في الموال القصصي شفيقة ومتولي ومأساة تجنيد متولي وتركه لأسرته، ومن ثم لم يكن لتلك الأسرة عائل
–مادي- فتلجأ شفيقة لبيع جسدها إلى آخر الأحداث، فقد تركت تلك الفترة علامات غائرة في أجساد المصريين جعلتهم يطوقون للتحرر ضد هذا الاستعباد.
وعندما قام سعد زغلول بالتوجه إلى مكتب المندوب السامي البريطاني لعرض مطالب الأمة وأخذ الوفد في التحرك نحو كسب الشرعية من خلال الحصول على توكيلات من الأمة بتمثيلها؛ وكانت صيغة التوقيع: (نحن الموقعين على هذا، أنبنا عنا حضرات سعد زغلول باشا، وعلي شعراوي باشا وعبد العزيز فهمي بك، ومحمد علي بك، وعبد اللطيف المكباتي بك، ومحمد محمود باشا، وأحمد لطفي السيد بك، ولهم أن يضموا إليهم من يختارون في أن يسعوا بالطرق السلمية المشروعة حينما وجدوا للسعي سبيلًا في استقلال مصر استقلالًا تامًا).
وكان أعضاء الوفد المصري موكلين بجمع التوقيعات من المواطنين للمطالبة باستقلال مصر التام ورفع قيود الحماية والوصاية عنها وبعد رد فعل الاحتلال على تلك المطالب بالاعتقالات ثار الشعب رجالا ونساء في كل المحافظات معبريين عن اعتراضهم على تلك الاعتقالات، وكتب الطلاب المعتقلون:
ياعم حمزة.. إحنا التلامذة
واخدين ع العيش الحاف
والنوم من غير لحاف
مستعدين.. ناس وطنيين
ودايمًا صاحيين
إحنا التلامذة
وبعد أن خرج الشعب نساءً وأطفالًا أنشد الأطفال في الشوارع:
يا مصر ما تخافيش
دا كله كلام تهويش
احنا بنات الكشافة
دا بونا سعد باشا
ويمتد النضال إلى ما بعد ثورة 19 إلى الخمسينيات من القرن العشرين،
وتذكُر د. نبيلة إبراهيم في ختام سيرتها الذاتية: ‘‘كنا ونحن صغار نهتف من قلوب مفعمة بالأمل والشجاعة: يا مصر ما تخفيش ده كله كلام تهويش، وكانت العبارة التي حفظناها جميعًا تعبر عن بلدٍ صاعدٍ وأبناءٍ يصعدون رجالًا ونساءً، يعيشون أحداث عصرهم يهتفون "مصر والسودان لنا وإنجلترا إن أمكنا".
وقد خرجنا بزعامة حكمت أبو زيد نهتف دفاعًا عن بلدنا عن كرامته استجابة لنداء مجهول: أن انهضوا ببلدكم وانهضوا بأنفسكم؛ فلا نهضة لبلدٍ لا يعي ذاته ولا يعرف عبق تاريخه ولا يضع عينه وقلبه على المستقبل، ولا سبيل إلى ذلك إلا بهتاف الطفولة: يا مصر ما تخافيش ده كله كلام تهويش، تلك المقولة المستقاه من وحي الأدب الشعبي الذي لا يعرف الكذب ولا يعرف النفاق.. وكم علَّمنا الأدب الشعبي أنَّ
"التهويش" في الأقوال والأفعال إن هو إلا عمل رخيص، وأنَّ الزبد لا يمكث في الأرض، وإنما يذهب جفاء. ولأنه لن يبقى في ذاكرة التاريخ إلا ما هو حق وخير وجمال، بعيدًا عن الزيف والكذب والرياء‘‘.
وما أشبه اليوم بالأمس، وكأنّ التاريخ يُعيد أحداثه إجباريًا؛ فتقوم حملة تمرُد بجمع التوكيلات من المصريين ليترك (مرسي الحكم)
ويهتف الشعب قائلًا (يوم 30 العصر مرسي بره القصر)..
وبعد أن تتحقق آمال المصريين يكتب الخال الأبنودي (رحمه الله) في حب ثورة 30 يونيو :
‘‘أول كلامى أصلّى ع النبى العربى
نبى ما كان يكره إلا ريحة الخايْنين
وَافْتَّح كِتابَ مصر واقرا القصة بالعربى
وما جرى فيها فى يونيه فى يوم تلاتين.
****
يا مصر مدّىْ الخُطى.. وحققى الفكرة
إنتى ابتديتى الكتابة والفنون والدين
لو شايفه بكرة أكيد راح توصلى لبكره
وارمى وراكى اللى قاصدين يبقوا مش شايفين‘‘.