القاهرة 23 يونيو 2020 الساعة 11:05 ص
إعداد: مختار سعد شحاته
الجزء الثالث
خلافات الهامش والمحافظ وتصوراتهما:
يبدو أن لكل مجموعة من تلك المجموعات التي نعتبرها ضمن نطاق الهامش بشكل ما، تبدأ نوعًا من الصراع دون أن تنتبه يتمحور عنه غلبة السلطة المحافظة، بل وتعتمد تلك السلطة في متنها على إفرازات تلك الصراعات، وتغذيتها واستقطابها بشكل ما، فتتيح المؤسسة لبعض المنتمين إلى الهامش قدر ما من رعاية مبطنة تسمح فيها بالقضاء على الهامش المتكون داخل متنها الصلب بالأساس، ويتحول أعداء الأمس –الشباب الطليعي- إلى ضيوف اليوم لدحض هذا الهامش المحافظ بامتداده الفكري والمتكون داخل المؤسسة، وهو ما يفسر لنا استضافات من مؤسسات مثل اتحاد الكتاب أو مكتبة الإسكندرية أو قصور الثقافة لأصوات من الهامش الذي أعلن ضرورة التغيير الكامل في مقابل تقزيم هامش المؤسسة الداخلي، وهو ما يثير صراعات نفسية بين كل تلك الهوامش.
ويأتي الانغلاق على الذات في ضوء الماضي، ومحاولة الانفتاح على الآخر في ضوء مطالبات التغيير هو السمة السائدة في تلك الصراعات بين المحافظة وهامشها الداخلي، بل وتبني عليه كل من المتن والهامش المحافظين داخل المؤسسة مقومات الصراع بينهما، دون أن ينتبه من يأتون من الهامش الطليعي خارج المؤسسة أنهم مجرد بيادق دخلت اللعبة وتم استغلال انفتاحها على الآخر بشكل ما.
الحقيقة أن الهامش مُلزم لفهم المتن بتمامه، فإذا كان الأدب المحافظ هو المتن داخل المؤسسة فإن الأدب الطليعي هو المكمل لفهم طبيعي لأدباء المؤسسة، فكلاهما لازم لفهم الآخر، إذ لا يمكننا فهم الموقف الطليعي بمعزل عن الموقف المحافظ السابق عليه والساعي إلى تهميشه، وهو ما يزيد فرص التأويل طبقًا لنظرية السلطة لفوكو.
وهنا يمكن أن نفهم مدى الفائدة التي يحققها الهامش من خلال هذا التأويل، وهو ما عززه الشاعر السكندري "حمدي زيدان" في واحدة من مقابلاتنا البحثية معه، إذ قال "لعل الهامش على الدوام هو الربح الحقيقي للمتن"، ويبدو أن ذلك المكسب يتحقق دون انتباه من أطراف المتن المحافظ أو الهامش الطليعي.
هذا الحراك ما بين المحافظ والطليعي تجده بشكل فج في افتتاحيات الصحف القومية التي يمكن أن تتغير بأقلام كتابها حسب المنطقة التي توزع بها الجريدة(1)، وهو لا يختلف عن هذا السقف الذي يضعه إخطبوط الجوائز العربية وجُلها راديكالي التوجه، وهو ما يفسر تباين وتحول الطليعي إلى راديكالي مدجن أو العكس نادرًا. وهكذا ستجد كثيرًا ممن كانوا محسوبين على جيلي الستينيات والسبعينيات "الجيل المحرض" ممن يمثل لهم الشاعر "أمل دنقل" –بقصيدته لا تصالح وغيرها- تمثيلا جليًا، وقد حولهم هذا التدجين الآن إلى مجموعة من الذين ينظر لهم الطليعة الآنية باعتبارها ثقلا راديكاليًا مؤسسيًا.
تتضح زاوية اقتصادية سياسية ربما تتحكم في تشكيل تلك المجموعات وحركة الأفراد داخلها، فما دام المبدع في تلك الدوائر المهمشة لا يحقق من الأدب –كمهنة أو صناعة يمارسها- مدخولا ماديًا، فإن هناك ما يمكن تسميته برأس المال الرمزي أو المعنوي، الذي يجمعه المبدع ويسعى إلى زيادته باستمرار، ربما حتى إشعار آخر.
محاولة تطبيقية لرأب الصدع بين الهامش والمتن المحافظ:
حاولت المؤسسة المحافظة "السلطة" محاولة نفي صدامها مع هذا الهامش الطليعي، ففتحت مساحات للأدباء من خارج المؤسسة أو من داخلها ممن يتبنى غير أفكارها، أو يتماس معها، ومن خلال الملاحظة للجماعات الأدبية بالإسكندرية بشكل عام ما بين جماعات السلطة وجماعات الطليعة، يأتي نموذج "مختبر السرديات بمكتبة الإسكندرية"(1) نموذجًا لذلك، حيث تستغل السلطة جهد مؤسس المختبر –وهو جهد فردي طليعي بالأساس رغم تكونه في داخل المتن المحافظ- لتحوله إلى المؤسسة بالرعاية، وتدعو لجلساته مختلف التيارات، وإن كانت في مجملها تتخذ الشكل المحافظ الثابت الذي يصل حد الجمود، وهو ما يؤخذ على التجربة، حيث تدار جلسات المختبر بنفس الآلية تقريبًا كل مرة، ولهذا خطورة لا تغفل، إلا أن وجود الآلة الإعلامية إلى جانب دعم المؤسسة، فضلا إلى الجهد الشخصي للأديب "منير عُتيبة" مؤسس المختبر، ضمن له الاستمرار والوقوف على مساحة وسط، فكان أرضًا بين بين أمام هؤلاء الطليعيين والمحافظين من جموع الكتاب، والحقيقة أننا بعين الباحث نشير إلى إمكانية فتح الباب أمام هذه التجربة التي لم تأخذ حقها من الاهتمام لاعتبارات كثيرة، وأن هذا المختبر يجب الإشارة إليه بحجم ما حققه من شهرة في أوساط عربية أخرى في الشرق والغرب العربي، بامتدادات بين المغرب ومكة المكرمة وسلطنة عمان، فالمختبر يمكن أن يكون مفرخة جيدة لمجموعة من النقاد الأدبيين من الجيل الطليعي حتى ولو كانت مؤسستهم الراعية هي مؤسسة سلطوية كمكتبة الإسكندرية. الحقيقة أن الجانب الطليعي في مثل هذه الحالة يفضل الهجوم على المؤسسة على أن يتصل بها ويستغل الإمكانيات التي تقدمها له المؤسسة، وإن كان اعتبارات الصراع بينهما لا يمكن إغفالها، وهو ما يسعى المختبر إليه باجتذاب نماذج مختلفة منها ما هو محسوب على الجانب الطليعي، ولا يرى مانعًا من التعامل مع السلطة واستخدام مؤسساتها للترويج له باعتبارها بالأساس ضمن مؤسسات الدولة التي يدفع فيها المواطن المصري ضرائبه، وفي محاولة لنفي شبهة الأستاذية التي تكونت داخله، والتي رأي البعض من شباب المبدعين أنه كرس لأبوية أدبية بشكل ما، وهو ما يُصر مؤسس المختبر على نفيه، ويسعى لتلافيه وله جهد في ذلك لا يُغفل، لكن الأخطر أن هذا المبدأ غير المعلن تمّ تكريسه رغمًا عن الجميع وفي هدوء يبدو أنه تسرب نحو المختبر، وهو في ظن الباحث ما يهدد التجربة ويحولها إلى دفة المحافظين أكثر من دفة الحالمين بالتغيير الجذري كواحد من تأويلات فهم دور الأدب..
ربما استطاع هذا المختبر أن يخلق منطقة وسطى يمكن للطرفين اللقاء فيها بشروطهما الخاصة دون أن ينتبها لهذا التقارب ودون أن يتعمداه، وهو ما يلفت انتباه الباحث فيما يقدمه المختبر من جلسات يمكن وصفها جلسات البين بين ما بين الطليعية والمحافظة. ويمكن التدليل على ذلك من طبيعة النقد الأدبي الذي يقدمه المختبر في كثير من جلساته النقدية، والتي تؤكد أن للطرفين –المحافظ والطليعي- يد في الجلسات، إذ نراه يعتمد على تحليل عتبات النص والنص الخفي، حيث يلتزم غالبية النقاد فيه ممن يقدمهم المختبر باعتبارهم الأدبي أو يقدمهم لأول مرة كنقاد جدد، يعتمدون عتبات النص وتحليل صورة الغلاف والمقدمات والتوطئة وغيرها، إضافة إلى بعض التحليلات في النص الخفي للعمل المطروح للنقاش والنقد، ولذلك أصداء مما قاله "جيرارجينيت" حول عتبات النص الأدبي.(1)
هنا تبرز حقيقة أن جماعات الهامش تتبنى موضوعًا مختلفًا عن موضوع المتن المحافظ، ويبدو ذلك جليًا في كل تعاطيها وفاعلياتها أو طرق إدارتها لأزمتها مع السلطة، إلا أن الفريقين بشكل عام يتفقان في الإطار العام الذي ينتميان إليه وهو حقل الأدب والفن والثقافة بوجه عام ويتحركان فيه بشكل عام بكل ما بينهما من توازيات وتجاذبات ومقاربات، وأحداث تختلف في رؤيتها وجهات النظر وتتباين بالقرب أو البعد، ويعتمدان في ذلك مجموعة واحدة –في غالبها- من القيم، لكنهم يختلفون حول فهمها والعمل عليها.