القاهرة 16 يونيو 2020 الساعة 10:57 ص
إعداد
مختار سعد شحاته
الجزء الثاني
أسباب جديدة للتهميش:
يكثر بعد الأحداث العظيمة حدوث ما يشبه الطفرة المجتمعية، وكثيرًا ما يصاحب فترة الثورات ظهور ما يمكن اعتباره حالة أدبية وفنية طارئة تفرز كثيرا من الأصوات، وتختلط فيها الطليعية بالمحافظة المؤسسية، وإن اختلف الخطاب والرؤية لدى كل منهما، وسرعان ما تنحسر تلك الحالة لتخلف لنا في الواقع الأدبي والفني ما أحب تسميته بـ"الجيوب الثقافية" –وهي تسميتنا الخاصة- والتي تتطور بذاتها أو باحتكاكها ببعضها البعض، لتخلق آلية جديدة يتحدد عليها المتن والهامش في واقع الأرض، وفي تلك الفترة تحدث التحولات الكبرى ما بين التدجين والطليعي، وكلها محاولات إما لكسر هيمنة الهامش في منطقة أدبية وفنية أو كسر هيمنة السلطة البرجماتية في زاوية أخرى. ويأتي أعجب ما في تلك الحركة هي آلية الانتقال ما بين الهامش والمتن، إذ فجأة يتحول البعض من هامشه إلى متن المشهد أو العكس، والأعجب في ذلك هو ما يقدمه المتحولون من تبريرات لهذا التحول لا يقل في العجب عنه قبوله من الطبقة والفريق الذي انضم إليه، حتى ولو كان الانقلاب من جانب الهامش إلى متن السلطة المحافظ.
وفي الحالة السكندرية؛ فإن كان هناك من يُعدد أسباب التهميش الاجتماعي في الواقع الأدبي، ويعلل له بظهور الجماعات الإسلامية وما حولها أو بالعولمة وما بعد الحداثة(1)، إلا أنه قد تلجأ الجماعة الأدبية إلى كسر حالات الجمود التي تكونت داخلها –الطليعة على وجه الخصوص- لتخرج إلى حالات جديدة تتحول معها إلى الهامش الأكثر صغرًا، حتى ولو كانت بالأساس في الهامش العام.
فمثلا؛ شعراء قصيدة النثر ومحاولتهم التعاطي مع الشكل الجديد للقصيدة، ربما كانت تلك محاولة لكسر التعاطي النمطي –المحافظ والطليعي- مع القصيدة العربية –التفعيلة والخليلية- وكذلك مع شخصية الشاعر التي صارت نمطية إلى حد ما بعد انتشار قصيدة التفعيلة وما شابها من شبهة الغموض، فنجدها لجأت إلى هذا الشكل الجديد لتخلق بذلك نموذجًا جديدًا من الهامش ربما يكون هامشًا داخل هامش أكبر، هو الهامش الطليعي، ليتحول فيها شاعر قصيدة النثر إلى الطليعي ويتحول غيره إلى المؤسسي والمحافظ حتى وإن كان بالأساس طليعيًا. وهو ما يتقاطع مع دوائر جمهور المثقفين في الجانب الطليعي الذي مثل الهامش فيما سبق، فتنجذب إليه بعض الدوائر، وتبدأ تتشكل دائرة جديدة للهامش الجديد.
ولا يقتصر النموذج على الهامش الطليعي بوسط الإسكندرية، فالحقيقة ومن واقع الرصد والبحث في الجماعات والكيانات الثقافية بالإسكندرية –كنموذج للبحث والدراسة- فإن الحالة التي تتخلق فيها تلك الهوامش الجديدة ليست مقصورة على منطقة الهامش الطليعي –الهامش الطليعي مقارنة بالمؤسسي المحافظ- بل نجد داخل المؤسسات الرسمية –وهي راديكالية بحكم التبعية للدولة والسلطة- بعض أشكال الهامش الطليعي في التكون، إلا أنها وبمجرد الإعلان عن نفسها يتم تدجينها من قبل المؤسسة سريعًا كمثال جماعات أدبية كثيرة تكونت وضمت الكثير ممن جاءوا نتاج الحالة الثورية أو نتاج الفترة السابقة للثورة في المجتمع، والتي كانت بالأساس تعتبر من نفسها غير موجودة أو على الهامش، وبعد حدوث الحالة الثورية ورضوخ المؤسسة لحين من الوقت ريثما تتشكل قواعد جديدة للتدجين السلطوي، تبدأ في جذب الكثير من هؤلاء أو ممن لفظهم الهامش الطليعي تحت وطأة نخبوية وطبقية تميز هامش الطليعيين في كثير من الأحيان. وتأتي بعض الجماعات الأدبية التي تكونت داخل مكتبة الإسكندرية دليلا على ذلك، استطاعت المؤسسة أن تدجنهم بشكل ما، واستسلم لهذا التدجين الكثير فباتوا وقودًا في قاطرة الرديكالية، وحشوًا داخل المتن المؤسسي في مقابلة الهوامش الطليعية التي تتكون باستمرار.
الهامش والمجتمع والتماس بينهما:
يتحتم على الأديب أن يكون على خط التماس المجتمعي، وبقراءة سوسيولوجية يمكن أن نفهم ظهور هذه الموجة من أدب المهمشين، وكذلك فهم أسباب ظهور جماعات لمهمشين داخل الجماعات في الهامش الطليعي، وذلك باعتبار الأديب فرد داخل جماعة لها ظرفها السياسي والاجتماعي، وهو ما تؤكده كتابات الفيلسوف المجري جورج لوكاتش(1) عن سوسيولوجيا الأدب، والتي اعتبرها البعض تطويرًا للتحليل المادي الماركسي للأدب.
وربما جاءت قصيدة النثر –كما أسلفنا في تأويل ظهورها- يتماس مع ما جاء به غولدمان في كلامه عن سوسيولوجيا الأدب، ومع ما قاله لوكاتش حين يصرح: "ترتبط البنية الحقيقية لعمل أدبي ما بعملية تحسين الصورة التي يرسمها العمل للعوامل الاجتماعية الأساسية التي تحدد صورة العالم المرسوم"(2). فشعراء النثر إنما جاءت تجربتهم -في الأساس منها- لتطوير الصيغ والأساليب الممكنة للأدب من خلال تلك القصيدة. يكاد هذا المعنى حول قصيدة النثر يؤكده ضمنيًا خالد فوراني في مقدمة واحد من مقالاته حول "الشكل الشعري، العلمانية والحداثة". وهو ما يتناسب تمامًا مع تلك المغايرة والبحث عن تغيير في الشكل النظري والعملي معًا.
وبجملة القول؛ فإننا يمكن بشكل ما أن نستعير نظرية السلطة لميشيل فوكو(3) حين نبدأ بتحليل شمولي لمثل بيئة المهمشين وللهامش الذي صنعته قصيدة النثر حين تخلت عن مسلمات وأفكار حول القصيدة بشكل عام.
كما أنه يمكن لنا اعتبار نقد الواقع بما دعت إليه من تقويض للثقافة الرأسمالية التي تجذرت إبان حكم السادات والانفتاح وما تلاها من تفحل الرأسمالية في عهد مبارك، وكونها تدعو في مجملها إلى التحرر البشري وتغيير المجتمع على كافة الأصعدة، وبعد ذبول النظرية الماركسية قبلها، قد يكون ذلك من أهم مؤسسات ظهور هامش قصيدة النثر التي سعت إلى مزاوجة ما بين النظري والعملي، فجاء نقد شعراء قصيدة النثر هو نقد سلبي إيجابي لواقع الشعر بل واقع الثقافة المصرية التي ارتاحت إلى سيطرة الدولة وهيمنة السلطة.
لذلك فإن نقد الواقع الذي مارسه شعراء قصيدة النثر –باعتبارهم هامشا بقدر ما للقصيدة خاصة وللثقافة عامة- هو واحد من أهم دواعي هذا التهميش حين اعتبره البعض خروجًا على مقدرات السلطة المتمثلة في مؤسساتها المحافظة التي نجحت في استقطاب كثير ممن بدأ حياته على الهامش الطليعي.
والأمر لم يتوقف عند قصيدة النثر، وإنما تعداه إلى الهامش الطليعي بشكل عام حتى داخل المؤسسات المحافظة نفسها، إذ كانت تتكون دوائر للمهمشين يمكن اعتبارها طليعية بقدر ما ليس الهامش الطليعي بوسط الإسكندرية، بل امتد إلى هوامش أكثر بعدًا وصغرًا داخل ضواحي المدينة وأحيائها الفقيرة والعشوائية. منها جماعة شعراء "حالة الشعرية" التي خرجت من عباءة قصور الثقافة ونوادي الأدب، وإن استمرت في صراعها وتكوين هامشها بنفس قواعد وقيم المؤسسة المحافظة، إلا أن خروجهم كان بمثابة حالة طليعية لهذا الهامش الجديد شديد الشبه بقصيدة النثر. وهذه الجماعة اختفت تمامًا بعد ما حدث من إزاحة الإخوان عن السلطة، فعلى ما يبدو كان كثير من المؤسسين لها مدعومين بغطاء سياسي أدبي، وهو ما فعلته الجماعة كنوع من التدجين السلطوى حتى وإن اتخذ مسميات مختلفة تنتمى تحت ذهنية التنظيم. وهذا لم يمنع الاتصال ببعض الأفراد الطليعيين المهمشين من اتجاهات فكرية وسياسية أخرى، رأت في الجماعة فرصة للظهور، وأنه لا مانع من الانتماء لها بشكل أدبي، مؤكدين في قرارة أنفسهم أن الأدب –في هذه الحالة- بمعزل عن السياسة، وهو ما يناقضه تاريخ الأدب العربي بشكل خاص على مدى تاريخه الطويل، والذي ارتبط بالحالة السياسية للدولة الإسلامية العربية، بل وأبعد من ذلك حين كان الشاعر قبل الإسلام هو الناطق السياسي باسم القبيلة.
العجيب أن شعراء وكتاب من المحسوبين على الجانب الطليعي –كجماعة "حالة الأدبية"- لم يفلحوا في التخلص من قيم المؤسسة المحافظة فاتخذوا موقفًا يشبه الموقف المحافظ تمامًا، وهو ما يثير العجب حول علاقات تلك الهوامش ببعضها البعض، فحين يسخر شعراء قصيدة النثر من مقولة أحد رواد ومجلس إدارة اتحاد الكتاب بفرعه بالإسكندرية حين قال "قصيدة النثر مؤامرة على القرآن الكريم واللغة العربية"، تجد بعضًا من جماعة "حالة الأدبية" يعتمد نفس الفكرة، وإن ظلّ على صراعه مع قائلها وزمرته التي مثلت له السلطة القاهرة لهامشه الذي حصر التغيير في مجرد تغيير الوجوه وفقط، وتلك إشكالية أخرى ينتجها الهامش داخل عباءة المتن المحافظ الرسمي.