القاهرة 11 يونيو 2020 الساعة 10:05 ص
إعداد: مختار سعد شحاته
الجزء الأول
تقديم
يجد الباحث الأدبي في مدينة الإسكندرية تفردًا خاصًا للمدينة كذاتها المتفردة، إذ تمثل حالة فريدة من حالات الثقافة المصرية، والتي لم تتوقف عن ضحّ كثير من المبدعين في كل المجالات الأدبية والفنية وغيرهما، ممن لهم أياد بيضاء على المشهد الثقافي المصري، وهو ما حفز الباحث لاختيارها نموذجًا لدراسة صراعات تلك البيئة.
اعتمدت هذه الدراسة على مجموعة من المقابلات التي أجراها الباحث خلال عمله على بحث دوافع الإبداع في البيئة السكندرية، ووجد أن صراع الهامش والمركز، أو المحافظ والطليعي شديد الوضوح في بيئة المبدع السكندري، وهو ما حرض على كتابة هذه الدراسة الموجزة.
ويتناول الباحث مصطلح "التهميش" بالتعريف ثم بتحليل أوسع، وكيف يمكن فهمه من خلال ما يحدث في البيئة الثقافية بالإسكندرية، وهي محاولة لتقريب المسافات حاول فيها الباحث أن يلتزم الحياد إلى أقصى درجة، وإن كان لا ينفي تورطه الشخصي باعتبارات المجايلة في بعض الأوقات.
ويأمل الباحث أن تتحول تلك الدراسة الموجزة إلى بحث أكثر اتساعًا وشمولاوتحليلا في المستقبل أو أن تنبه باحثين آخرين لثراء هذا الصراع ما بين الهامش والمركز.
الباحث.
التهميش:
جاء في معجم المعاني الجامع التهميش مصدرًا للفعل همَّش من المادة الصرفية (هـ، م، ش)، ومن جملة معانيه معنى اللا اهتمام، إذ جعل الشيء على الهامش يعني عدم إعطائه أهمية بقدر ما، كما يجيء في معناه ومفهومه -عند الباحث– ما هو تذييل وتعليق على المتون بتلك الهوامش في الكُتب.
إذن؛ الهامش كيان منفصل بذاته لحقَ بالمتن لغة الارتباط، وهنا نقصد ذلك المعنى؛ فالهامش الأدبي يشمل جملة كيانات بعيدة عن المتن الرسمي، لا تعطيه المؤسسة قدرًا من الاهتمام، باعتبار نظريتها إلى مركزيتها وارتباطها –المؤسسة- بالدولة، وهو ما يسهم في تكوين مجموعة من الجيوب الثقافية يتشكل منها الهامش باتساعه واختلافها الأدبي. وهو ما سترصده تلك الدراسة بإيجاز.
ويجب أن نشير هنا إلى أن مصطلح التهميش والهامش السوسيوثقافي أفردت له الناقدة د. هويدا صالح فصلها الأول من كتابها "الهامش الاجتماعي في الأدب"، وشرحت باستفاضة لتاريخ المصطلح الأدبي وأسباب ظهور التهميش(1)
إرهاصات التهميش والتدجين:
لا يُغفل الموقف السياسي في مصر بعد تأميم قناة السويس1956م، وكيف سعت الدولة الرسمية الناصرية لتكوين مؤسساتها، وضم كيانات تحت عباءتها لضمان السيطرة على الحقل الثقافي بعد أزمة 56 وما قبلها من أزمة كان على النظام أن يواجهها مع نخب المثقفين من الشيوعيين والليبراليين وحتى الإخوان المسلمين، والتي انتهت بسجن العديد من هؤلاء الفرقاء إزاء مواقفهم من السياسة، وهو ما حدا بالبعض إلى ما يشبه التقوقع أو الانتحار الإرادي –معنويًا وسياسيًا وثقافيًا- حينها.
بدأت الدولة الناصرية ومؤسساتها تستقطب أكبر قدر ممكن من ممارسي الفن والأدب في أكبر عملية تدجين ثقافي للدولة المصرية بعد المرحلة الكولونيالية والملكية، فيما يمكن اعتباره احتكارًا ضمنيًا من قبل الدولة، لتبدأ الهوامش تتشكل بشكل تخلقت معه ثنائية مشهورة بـ"مثقفي السلطة ومعارضيها"، وهو ما نبه إليه ريشار جاكمون في مقدمة فصله الأول "جيش الآداب" من كتاب "بين كتبة وكُتاب".(1)
وظهر كثير من الأصوات الزاعقة التي أسست مجموعات الهامش الأدبي، أو آثرت ذلك الهامش على مزرعة التدجين الناصرية، كان محركها الأصيل اعتبار فساد التجربة الناصرية وقمعها –من وجهة نظرهم- ما يجعل من المبدع الحقيقي –من وجهة نظرهم أيضًا- أشبه بـ"دون كيشوت" المصارع لطواحين سلطة مجتمع انهارت فيه قيمة الأدب والفن بعد تدجينها داخل المؤسسة الرسمية، وفي ذلك نحتمل تأويلات لبروز نجم صوتي –بعيدًا عن الموهبة الفعلية- مثل "أحمد فؤاد نجم" -"الفاجومي"- والذي نبني منه على أن المشافهة والقصيدة العامية كصوت زاعق يمكن أن يصير واحدًا من أهم علامات الهامش، وإن تطورت فيما بعد عند أصوات غير زاعقة في أجيال السبعينيات والثمانينيات، من شعراء قصيدة التفعيلة، وميلهم إلى مساحة ما من هامش اكتنفه الغموض –على حد قول مهاجميهم من المؤسسة- وإن تم تدجينهم فيما بعد.
لعل تلك الأوامر الرسمية بإنشاء المجالس المختلفة إبان الناصرية كانت بمثابة الإعلان الرسمي عن تكون جبهتين؛ هما الجبهة المؤسساتية "المحافظة فيما بعد"، والجبهة الطليعية التي واجهتها، وكان منها الفاجومي، والشاعران"أمل دنقل"، و"نجيب سرور"، وغيرهم فيما تلا ذلك من سنوات، كانت تتبدل فيها الأصوات والمواقف، حتى أن السلطة استطاعت فيما بعد في فترة حكم مبارك أن تضم إليها بعض الأصوات التي كانت تحسب فيما سبق على التيار الطليعي، وفي ذلك يأتي الشاعر الغنائي وشاعر العامية "عبد الرحمن الأبنودي" مثالًا محترفًا.
نعجب حين نلاحظ أن التدجين هو رحلة طويلة تمثل شكل الآليات التي لجأت الدولة –المؤسسة المحافظة- إلى اختراعها لجذب مجاميع من هؤلاء الطليعيين، لتضمن تدجينهم بعد حين، في واحدة من أفدح المساومات التي تمت بين السلطة وبين الهامش الطليعي الذي يجد من ضديته للمؤسسة أكبر حوافز إبداعه، حتى وإن كانت في السجن والاعتقال بالنهاية. وأذكر أنني في صيف 2012 في مقابلة مع الكاتب صنع الله إبراهيم، قال بعد انتهاء حدث ثقافي كان هو نجمه، بأنه يتعين على المبدع الموهوب أن يظل على يسار السلطة على الدوام، بل عليه أن "يخترع" لنفسه سلطة ويعارضها، كي يضمن لروحه ألا تقع فريسة تدجينات السلطة المستمرة. هنا يجب الإشارة إلى ما يُشاع في الوسط الثقافي المصري عن بقاء كثير من هؤلاء الطليعين كموظفين في المنابر والمجلات الثقافية التي تم إنشاؤها بأمر من السلطة السياسية، في محاولة للسيطرة عليهم ولو بأقل الأضرار، فأن يكون في معيتك مثلا 300 كاتب وصحفي في مؤسسة تابعة للدولة ولو عارضوها سياسيًا، ذلك أفضل من تسريح هؤلاء فتتلقفهم أنظمة سياسية معادية وتتيح لهم "شتم" النظام كل صباح على صفحات المجلات والجرائد. يحيلنا ذلك إلى سؤال، لماذا استمر هؤلاء المعارضون للنظام السياسي في تقاضي رواتبهم من سلطة يناصبونها العداء ويتهمونها على الدوام بإفساد المناخ الثقافي والتضييق على مسيرة التنوير الثقافية الطامحين إليها؟!
لعل فكرة الجوائز التي تقدمها المؤسسة المحافظة، هي أكبر فخ تم نصبه للمبدع الطليعي طوال تاريخ صراعه مع المؤسسة، وهو فخ يمتد أثره، ويتسع ليشمل العالم العربي بأثره، وفقط بملاحقات بسيطة لتواريخ الجوائز العربية الأدبية والفنية، وتتبع التسريبات عنها، يمكن أن تعرف كيف رسخت تلك الجوائز الفخ لسياسة التدجين لدي معظم الأصوات الطليعية التي لها تاريخ يحترم، لكن الإنصاف يقتضي أن نذكر أنه في خلال برنامج تليفزيوني يهتم بقضايا الكتابة الإبداعية، صرح محكمان في جوائز عربية ومصرية، بأن الجوائز حفزت الإبداع وطورته، ومنحت للمبدع فرصة حقيقية للتقدير المادي والمعنوي في ظلّ ظروف المثقف العربي المادية الشخصية شديدة الصعوبة، وهو ما اختلف فيه ضيف آخر لنفس البرنامج حين قال بأن الجوائز الأدبية مثلت تدميرًا ذاتيًا للمواهب خاصة الصاعدة منها