القاهرة 26 مايو 2020 الساعة 01:07 م
بقلم : د. حسين عبد البصير- مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية
مدينة الإسكندرية الجميلة هي عروس البحر الأبيض المتوسط وحاضرة الثقافة وعاصمة الفن والجمال، ومركز الثقل الحضاري في مصر والعالم كله. وأراد الإسكندر الأكبر لمدينته الخلود والشهرة والعالمية وتحقق له ما أراد عبر العصور والأزمان.
ومن الجدير بالذكر أن الوجود الإغريق المكثف لم يبدأ في مصر مع فتح الإسكندر الأكبر لمصر في عام 332 قبل الميلاد، وإنما بدأ منذ نهاية العصور الفرعونية وعلى أكثر تقدير في عصر الأسرة السادسة والعشرين أو ما يعرف بالعصر الصاوي والذي كان مقدمة طبيعية للوجود الإغريقي المنظم والمكثف والمتواصل في مصر.
وفي نوفمبر 332 وصل الإسكندر إلى مصر، حيث رحب به الناس كمخلص لهم من حكم الفرس. واستسلم حاكم الولاية الفارسي (المزربان) بحكمة. وفي منف، قام الإسكندر بتقديم القرابين لأبيس (العجل المصري المقدس)، وتُوج بالتاج المزدوج التقليدي للفراعنة. واسترضى الكهنة المحليون وشجع دينهم. وأمضى الشتاء في تنظيم مصر. ووظف حاكمًا للمصريين. وأبقى الجيش تحت قيادة مقدونية منفصلة. وبعد ذلك سار بقواته بمحاذاة الفرع الكانوبي للنيل، متجهًا إلى ساحل البحر المتوسط. ولف نظر الإسكندر موقعًا بالقرب من الذراع الغربي للنيل في موقع ممتاز بين البحر وبحيرة مريوط ومحمي بجزيرة فاروس. وهذا الموقع كان به قرية تسمي راكوتيس (راقودة). وهنا أسّس الإسكندر مدينة الإسكندرية. واستعان بالمهندس المعماري الرودي (من رودس) دينوكراتيتس لتخطيط وتأسيس المدينة. ويقال أنه أرسل بعثة استكشافية لاكتشاف أسباب فيضان النيل. ومن الإسكندرية، سار على طول الساحل إلى البارتون (مرسى مطروح حاليًا). ومن هناك اتجه إلى الداخل لزيارة احتفال نبوءة الإله آمون الشهير في معبده بواحة سيوة حيث أعطاه الكاهن التحية التقليدية لفرعون، ابن آمون، ونصبوه فرعونًا مصريًا على مصر. وألبسوه تاجه على شكل رأس كبش ذي قرنين؛ فلُقب "الإسكندر ذو القرنين." ويقال أنه تشاور مع الإله على نجاح حملته، ولكنه لم يفشي بهذا السر لأحد. ولاحقًا كان هذا الحادث هو الذي منحه قصة أنه كان ابن زيوس، وبالتالي، تم "تأليهه" من قبل الكهنة المصريين. وبعد ذلك، رجع الإسكندر إلى منف. وأبقى الإسكندر على منف عاصمةً لمصر. وحرص الإسكندر على الإبقاء على النظم المصرية القديمة، وتنويع الحكم بين المصريين والإغريق الذين وضع بين أيديهم السلطة العسكرية والمالية. وأبقى للمصريين السلطة الإدارية. ووزع السلطات بالتساوي. ولم يُعِن حاكمًا عامًا مقدونيًا، وبذلك ضمن رضى المصريين. وقبل أن يغادر الإسكندر مصر، استعرض قواته للوداع. وأقام للشعب المصري والإغريقي مهرجانًا رياضيًا وثقافيًا كرمز للتعاون بين الحضارتين العريقتين. كما أوصى موظفيه بالقيام ببعض الإصلاحات للمعابد وتجديد معابد الكرنك. وفي ربيع 331، عاد إلى صور. وعين حاكماً مقدونيًا على سوريا. واستعد للتقدم إلى بلاد النهرين، بعد أن كان غزوه لمصر قد أكمل سيطرته على كامل ساحل البحر الأبيض المتوسط.
وفي الخامس والعشرين من شهر طوبة عام 331 قبل الميلاد، وضع الإسكندر الأكبر حجر الأساس للمدينة التي اختارها كعاصمة تحمل اسمه في مصر. واختار موقع قرية قديمة كان اسمها راقوتيس وهو اسم أرجعه البعض إلى تسمية مصرية ذكرت في النصوص "رع-قدت" وترجمه البعض "رع المشيد". وذُكر اسم الموقع في عدة نصوص ترجع للعصر المتأخر لاسيما في عقود البيع والشراء. ويتجه الرأي الغالب إلى أن الكلمة تترجم حرفيا بـ: حد البناء أو الحيز. ويميل جان يويوت إلى ترجمتها بمعنى الفناء أو الحوش. وربما كان المقصود بالفناء هنا مدخل مقصورة الإله الذي كان يُعبد في القرية القديمة. وموقع هذه القرية الآن منطقة العامود بكرموز.
وقام المهندس دينوقراطيس بوضع تخطيط المدينة على الطريقة الهيبودامية أو مايشبهه البعض برقعة الشطرنج. وهو تخطيط يشبه تخطيط المدن اليونانية في القرن الخامس قبل الميلاد. وبداية قام دينوقراطيس بربط القرية بجزيرة فاروس من خلال جسر يطلق عليه الهيبتاستاديوم أي 7 ستاد. وهي مسافة تصل لحوالي الميل بين القرية والجزيرة. وهذا الجسر مفقود تمامًا الآن. ومن خلال هذا الجسر الذي كان يربط بين جزئي المدينة القديمة، وُجد ميناءان: هما الميناء الشرقي الذي كانت تغادر منه المنتجات إلى بلاد اليونان، والميناء الغربي أو العود الحميد كما يطلق عليه.
وقسم مهندس الإسكندرية المدينة إلى خمسة أحياء رمز إليها بالحروف الخمسة الأوائل في الألفبائية اليونانية: ألفا، وبيتا، وجاما، ودلتا، إيبسيلون. وبدراسة دلالة تلك الحروف أمكن ملاحظة أن:
ألفا: رمز إلى الحرف الأول من اسم الإسكندر الأكبر.
بيتا: رمز إلى الحرف الأول من كلمة يونانية تعنى الملك.
جاما: رمز إلى الحرف الأول من كلمة يونانية بمعنى "سليل" أو "وليد".
دلتا: رمز إلى الحرف الأول من اسم الإله اليوناني زيوس.
إيبسيلون: رمز إلى الحرف الأول من كلمة تعني "يبنى" أو "يشيد".
ويمكن بناءً على هذا التفسير أن نعتبر تلك الحروف هي اختصار لنص لوحة تأسيس المدينة. وهنا يكون معنى النص كما يلى:
"الإسكندر، الملك، ابن، زيوس، يشيد".
وقام الملوك البطالمة باستكمال ما بدأه الإسكندر الأكبر في مصر ولكن من خلال منظور واقعي سعى إلى تكوين إمبراطورية وراثية في الشرق الأدنى القديم. وظهر ذلك جلياً وبوضوح الشمس في كبد السماء في آثار مصر في مدينة الإسكندرية الساحرة التي طغت بآثارها الخالدة على ماعداها من آثار مدن البحر المتوسط. ووصلت مصر إلى مستوى ثقافي متقدم. وأصبحت مدينة الإسكندرية ومكتبتها العامرة من أهم المراكز الثقافية والحضارية في عالم البحر المتوسط. وصارت مكتبة الإسكندرية في عصر البطالمة هي واجهة العالم الثفاقية الكبر وقبلة الحضارة والثقافة والفنون والآداب والعلوم وحاضرة الأدباء والعلماء والمثقفين من مكان من العالم آنذاك.
تعتبر مدينة الإسكندرية، بنت الإسكندر، هي مجد الثقافة وحاضرة التاريخ ومبدعة الحضارة. وكانت الإسكندرية مدينة متميزة في العصر البطلمي من آثار ما يعرف العصر الهيللينستي حين امتزجت حضارة الشرق مع حضارة الغرب على أرض مصر الخالدة. وفي هذا العصر، تحولت مصر إلى دولة بل إمبراطورية ذات طبيعة مزدوجة تجمع بين العنصر الهيلليني، الممثل في المحتل الوافد الذي كانت تربطه صلات قوية وقديمة وعديدة بمصر القديمة، والعنصر الشرقي ممثلاً في مصر الفرعونية وحضارتها العريقة التي أبهرت الوافد البطلمي وجعلته يتأثر بها للغاية. وفي النهاية، نتجت حضارة جديدة هي الحضارة الهيللينستية التي جمعت بين حضارة اليونان القديم ومصر القديمة. واحتفظت الإسكندرية الجميلة بمكانتها الثقافية العظمى في العالم كله إلى الآن بفضل مكتبة الإسكندرية القديمة والجديدة.