القاهرة 26 مايو 2020 الساعة 12:49 م
بقلم: حاتم عبد الهادي السيد
سيناء، شمس الله المشرقة على الخلود. هنا السرد نسج عباءة كونية للعالم، وتربع على كل أرجاء الحياة؛ إذ البدوى حكّاء بطبعه، يتسامر في الليل على أنغام الناى ورقص السامر، وتنتشر القصص والحكايات، وينطلق الناى ليمتزج بحداء الإبل، لتنطلق قيثارة الشعر والسرد في تناغم هادئ، يحكى البدوى حكايات الذئاب والأغنام، وقصص البطولة، ويتذكر حكايات إغارة القبائل على بعضها من أجل ملكية الأرض، وعلى الكلأ والعشب، أو هروب فتاة، أو من أجل الدفاع عن قيم البداوة الرصينة.
وهنا، عبر تفاصيل المكان الساحرة، وعبر "الأبجدية السيناوية" –أول أبجدية في التاريخ- صنع البدوى حضارته، وأنتج حكاياته، وسرده المختلف ، فديوان البادية عامر بتراث الحكى وسير الأقدمين وأساطيرالسابقين، فتمتزج سيرة أبوزيد الهلالى سلامة، والزير سالم بحكايات البردويل، ودهقان العريش، وحكايات السيوى ونوادره، وحواديت الجدة عن الشاطر حسن وأبو رجل مسلوخة، وحكايات الأبطال عبر المعارك التى خاضتها القبائل، وغيرها. ولقد خلد الشعر البدوى الكثير من هذه القصص: "الشعر القصصى، القصص الشعرى" عبرالحكايات الشعبية، والمرويات التراثية التى تخلد المكان عبر مسيرة الزمان الممتد.
ويعتبر عبد الله السلايمة أول من كتب الرواية البدوية السيناوية، التى تؤطر للمكان وللتحولات الكبرى هناك، تلك التى تعلى من سيرة السرد: التاريخى، الاجتماعى، التراثى، الفنى، عبر مستوياته التى يستطيع إحكام تفاصيلها: معناها ومبناها، من خلال وصف المكان، وتمظهراته، وآثاره النفسية والعامة، حيث يعتبر المكان البطل الرئيس، لشخصيات الرواية، بل إن روايته السابقة "بركان الصمت" تحكى سيرة المكان الكبرى لحياة البادية السيناوية: عادات البدو، تقاليدهم، أفراحهم، مآتهم، تعاملاتهم اليومية العادية، تراثهم المحفور في الذاكرة، كما تعكس قيم البادية النبيلة: الصدق،الفروسية، إغاثة الملهوف، الحب، التسامح، القسوة -التى أملتها طبيعة المجتمع والمكان- والتى انعكست بقوة على مسيرة الحياة والسرد. كما تتعرض الرواية للاحتلال الصهيونى الغاشم لسيناء، قبل وبعد حرب 1973م. وتعتبر من الروايات الاجتماعية القليلة التى عكست مظاهر المجتمع البدوى السيناوى بصورة حقيقية، لا لبس فيها أو مزايدة، ويظل للمكان هنا نكهته السامقة.
إنها الرحلة عبر مسيرة السرد من رفح شمالا إلى الجنوب، رحلة الشتات، الهلع الأكبر في ظل الخوف من بطش الإرهاب والقتل، عبر صراع القوى السياسية والمذاهب المتناحرة 7والتطرف والإرهاب لأعداء النور لقتل الحلم ، وتقييد الخيال، وهدم الحضارة والتراث، والعبث بمقدراتنا الثقافية والدينية والحضارية؛ لذا لا غرو أن نراه –عبر مسيرة السرد– يسافر في المكان عبر الزمن ويصف لنا سيناء، ذاته المقهورة ، حال السكان الذين هجروها وتشردوا وماتوا وقتلوا وذبحوا ، بفعل فاعل، فهم الخطايا المقصودة، الذنب الذى في الرقبة، والذى ينتظر الثأر من الخارجين عن الملة، والاعتبارات الانسانية ، أولئك الذين يتلذذون بالقتل ومناظر الدماء الهادرة على طبلة الصحراء والتى تنادى الاله الخالق؛ لذا كان الهروب الى أماكن أخرى، وحياة مغايرة، ينشد فيها الأمن والأمان عبر روابى سيناء وتضاريسها الجمالية الشاهقة، يقول: (قبل أن تنطلق السيارة، كان قد خطط مسبقًا الذهاب إلى "جنوب سيناء"، والاستقرار بالقرب من "جبل موسى" و "دير سانت كاترين"، ففي ذلك المكان المُقدس يمكنه الشعور بالطمأنينة والسلام اللذين ينشدهما على الدوام، وممارسة طقوس حياته على الطريقة البدائية القديمة، والتمتع قدر الإمكان بجمال وروعة الطبيعة، وبعزلته التي ذهب إليها بمحض اختياره، لمقاطعة واعتزال العالم وشروره. ومثلما فعل النبي موسى سيصعد إلى قمة الجبل، ويتوسل ربه أن يطمئنه ويُريح قلبه الدامي حزنًا، عن حكمته التي تفوق إدراك البشر، من وراء كل هذا الموت المجاني الدائر حوله، ولِمَ صار العالم أكثر بشاعة ووحشية وتعطشًا للدم، بشكل ربما يفوق ما كان عليه في بدائيته القديمة. ولسبب يجهله ويفوق إدراكه، لا يعرف لِمَ غيّر رأيه فجأة، ووجد نفسه بدلاً من التوجه إلى "جنوب سيناء" كما خطط، يطلب من السائق التوقف فجأة في مكان ما جنوب مدينة "العريش"، ومن ثم اختياره لهضبة ما والجلوس على قمتها. لا يمكن مقاومة سحر المكان، والنسيم العليل القادم من بحره، ولا مقاومة التساؤل في حيرة: يا الله لِمَ يصرّون على تشويه كل هذا الجمال؟!.
أرجاء المكان، السهول والتلال والجبال المترامية خلفه، أشياء تشعره بالأسى، وتذكّره بكل ما ارتكب، ومازال يُرتكب في حقه وحق دياره وذويه، وتؤكد أن عليه أن يكف عن تخدير ذاكرته، كي يستطيع العيش والمضي قُدُمًا، كما كان يفعل في السابق.. نظر أمامه، أخذ يتأمل حقول الزيتون الآخذة في الذبول، كما لو كانت تعيش حالة حدِاد على أهلها الذين أُجبروا على تركِها، وحينما رفع بصره قليلا وأخذ يتأمل مدينة "العريش"، بدت له كعجوز مُثقلة بأحزانها، ومنكفئة على البحر، التي كانت من قبل تغفو على صدره في طمأنينة وسلام، تفتقدهما الآن بشدة.. لحظات تأمل عميقة، عظّمت من مخاوفه، وجعلته ينظر إلى المستقبل بقلق، وهو يقلّب في مخيلته احتمالات مصيره.. لحظات أيقظت في نفسه ذكرى لم يكن يرغب في استيقاظها، ذكرى فتاة لا يعرف كيف ظهرت من تراكم السنين وبشاعتها، فمنذ أعوام كثيرة مضت عاش بين نسيانها وذكراها، ومنذ بدأت رحى الحرب تدور في دياره، لا تجيء ذكراها إلا على فترات متباعدة، فما تسببه الحرب من أحزان ومآس كان كفيلا بأن يُنسيه "سُهيلا") .
إنه الحب إذن، حب المكان، الوطن، وكيف لا يحب البدوى وتفاصيل المكان الساحرة، وجمال البدويات السارحات بقطعان أغنامهن في برارى العالم الشاهق يفتحن شهية القلب للحب النقى الطاهر المغرد، للكتابة والبوح، للإفضاء، والتذكار عبر المكان والسكون والصمت لصحراء النور المشتهاة، حيث تتبدى جماليات السرد المتهادية على الرمال البيضاء الناعمة إلا أن مشهدية الوصف قد أصابته بصاعقة، حيث تهادى أزيز الطائرات من فوقه، وتم االتعامل معه على أنه إرهابى، وعبر مسيرة السرد الذى يكسر جوقة المشهد يتدخل الكاتب، السارد، الراوى العليم في الأحداث، وكأنه استيقظ من سبات ليسجل عبر الكتابة تفاصيل الأحداث، للظلم، للبراءة التى تنتهك دون وازع، لأبرياء يساقون إلى السجن، أو الذبح دون جريرة، يقول: (جاشت بصدره جراح قديمة وجديدة، أشعرته برغبة مفاجئة في الكتابة، فثمة أشياء كثيرة مؤلمة يمكنه الكتابة عنها الآن، وقد لا يجد الفرصة فيما بعد. رأى في تلك الرغبة التي اجتاحته فجأة، فرصة ثمينة عليه أن يغتنمها، فالكتابة كما يُقال: "ضرورة كالحياة، وحقيقة كالموت"، عليه أن يسجل كل ما كان ومازال يعذبه، وما سوف يسبب له ولذويه مستقبلا المزيد من العذاب.. شعر باحتياجه لشرب كوب شاي، جمع حزمة من أعواد "الرَتَمْ"، أشعل ناراً، ما كاد يضع إبريق الشاي فوقها، حتى سمع أزيز طائرة، رفع رأسه بشيء من الارتباك، رآها قادمة من الغرب نحوه، همس خائفًا: لابد أنها تقوم كالعادة بجولة استكشافية.
رأى من الأفضل أن يلوح لها بيديه ليُبعد الشُبهة عنه، تملكه الخوف ولم يعد يعرف ما عليه فعله. وكمحاولة أخيرة للنجاة بحياته، حاول السيطرة على ارتجاف جسده، وراح يلوح بكلتا يديه في الهواء، كدليل على براءته مما يظنوا، ويدعو الله أن يراه من بداخل الطائرة، ويعقد على تصرفه أملاً أكبر مما عقده على أي شيء في حياته، لكن ككل أمنياته التي لم تتحقق في يوم ما، صوبت الطائرة إليه قذيفة مزقته أشلاءً في لمح البصر.
وأذهلني في اليوم التالي أن راحت الفضائيات تتبارى في عرض وجهه مشوهًا، وراح مذيعوها يتنافسون في الإعلان بحماس عن سقوط خائن آخر من كبِار قادة "داعش"، ويؤكدون بحماس أشد أنه لن يكون الأخير. ومن ثم توالت الاتصالات، تبارك هذا الإنجاز العظيم)..
وفى رواياته: "قبل المنحنى بقليل"، ورواية: "صحراء مضادة"، و "حكايات العابرين" نراه عبر العنوان يضعك منذ الوهلة الأولى، على حافة المكان، التفاصيل، الواقع عبر الصحراءة المضادة، المقاومة، المغايرة، المفارقة، والتى تنحو إلى وضعنا في قلب الحدث، قلب الصحراء المجهولة، المضادة التى تبدو فيها التساؤلات أكثر من سرد تفاصيل الواقع الملىء بمتناقضات، ومواجهات مضادة للحياة ذاتها، وللذات المأزومة، المنكسرة، التائهة، الهائمة عبر الصحارى والجبال، وبين المروج والوديان بالقرب من واحة النخيل،وتحت سماء شمس الله ورغاء الناقة، وصوت الناى، والشبابة، والأرغول الحزين.
وعبر مجموعاته القصصية: "أشياء لا تجلب البهجة"، "أوضاع محرّمة"،يحيلنا عبد الله السلايمة إلى واقع المجتمع البدوى، إلى المكان عبر فيزيائية السرد، وميثولوجيا الحكايات، وقضايا البادية المتشابكة، للبنت التى تريد خرق الناموس القبلى لتتزوج من حبيبها، رغم كل القيود والأوضاع المحرّمة،التى تمثّل الثورة الكبرى على نظم البادية ودستورها الخشن، الذى يمنع المرأة من أبسط حقوقها الشرعية، كاختيار شريك العمر، أو أخذها لميراثها، أو إبداء رأيها بالرفض أمام جمود قوانين البادية البائدة.
ونستطيع أن نقول –قولا واحدا-: إن عبد الله السلايمة عاشق البادية، الهائم بتفاصيلها، كراهب في المكان، ثائر طوال الوقت، يريد الجانب المضىء هناك ليحارب الظلام القيم والعرف القبلى، النظم المحرمة، الظلم التاريخى للمرأة، للفرد، في ظل قانون البادية الصارم، وفى ظل الجهل والتعصب لابن العم تجاه الغريب، الآخر، الإنسان الذى يريد أن يتعايش مع هذا الواقع، فإذا به يرفضه من واقع التسامى، الغرور بتفاضلية الجنس البدوى على الآخرين، التصورات الغريبة التعصب الأعمى للقبيلة ضد كل الأعراف والقيم الإنسانية الكبرى.
ومع كل هذه السلبيات، يحيلنا إلى القيم الجميلة كذلك، إلى الحب والحنان، والرحمة والشفقة، والتسامح، ومساعدة الآخرين، وكأنه قديس يحمل بوقاً ليزعق في الظلام بزوال الظلم، وينادى بالمساواة، بالعدل والحرية، بالحب، والسلام بين كل بنى البشر.
يظل عبد الله السلايمة –في كل كتابته- عاشقاً للصحراء، مخلصاً للمكان،سارداً للواقع، مؤرخاً للتاريخ، رافضاً للظلم العظيم، وزاعقاً في هيولى العالم،باحثاً عن القيم الإنسانية النبيلة الكبرى، عبر الكون، الواقع، الحياة.
وفى النهاية: سيظل السرد في سيناء في تبادلية كبرى، بين صورة المدينة، أو أطراف المدينة التى صورها "سامى سعد" عبر روايته "السراديب"، وبين البادية التى رصد من خلالها عبد الله السلايمة تاريخ المكان/ الصحراء،لتتحق المعادلة، والصورة الكليّة للمكان، عبر الريف والصحراء، المدينة، القرية، المكان، الأيام، الزمن، السرد الباذخ، عبر صحراء بادية سيناء الشاسعة الرهيبة الشاهقة والشائكة، والجميلة أيضا.