القاهرة 19 مايو 2020 الساعة 12:02 م
كتب: طلعت رضوان
انتشر الفكر الوجودى فى أوروبا.. وبصفة خاصة أثناء الحرب العالمية الثانية (1939- 1945) ولكن تلك الحرب التى راح ضحيتها (ما بين50- 85) مليون إنسان.. وهو ما أدى- فى تقديرى- إلى تطويرالفكر الوجودى إلى مرحلة أدب العبث واللامعقول.. وكان الأديب ألبير كامى (1913- 1960) والمولود لأب فرنسى وأم إسبانية.. وعاش سنوات طويلة فى الجزائر.. وعشق الشعب الجزائرى.. ودافع عن استقلاله بخروج الاحتلال الفرنسى.. وبالرغم من ذلك عندما احتلتْ قوات النازى فرنسا، شارك فى المقاومة السرية للاحتلال الألمانى.. وبالرغم من إنتاجه القليل (نسبيا) وعمره القصير (47سنة) حصل على نوبل عام1957.
وبينما كان النقاد يقرنون بين كامى.. والفيلسوف (جان بول سارتر) وخاصة عن الفكر الوجودى، فإنّ كامى أنكر أية صلة تربطه بالوجودية.. ولذلك اعتبره كثيرون أنه من أشهر مبدعى أدب العبث.. وهو ما تأكد فى دراسته (عن أسطورة سيزيف) التى كتبها عام1938.. وتناول فيها العقوبة التى أوقعها عليه الإله (زيوس) حيث أمره بأنْ يحمل صخرة ويصعد بها الجبل.. وبعد سقوطها يصعد بها مرة أخرى.. وهكذا بلا نهاية.. وكان من رأى كامى أنّ تلك العقوبة (رمز لعبثية الحياة).
وقد بدأ روايته (الغريب) بوفاة أمه.. ولكنه لا يدرى (متى ماتت) واعترف بأنه تلقى برقية من ملجأ المسنين، لحضور طقوس الدفن.. وعندما طلب من رئيسه إجازة لمدة يوميْن للسفر لوداع أمه، فإنّ رئيسه رفض طلبه.. ولم يهتم فسافر.. وقال له مدير دار المسنين: إنّ والدتك كانت تحتاج ممرضة لرعايتها.. وأنا أعلم أنّ مواردك محدودة.. وتذكر (بطل الرواية) أنه لم يذهب لزيارة أمه طوال السنة السابقة على وفاتها.. وقرّر أنْ يمكث بجوار جثتها طوال الليل، حتى يحين موعد دفنها.. وأنّ عليه حضور الطقوس الدينية، ففكر فى إخبار مدير الدار أنّ أمه: لم تكن تؤمن بأمور الدين، ولما اندهش المدير قال له: ولكنها لم تكن ملحدة.. ولما طلب منه أنْ يقترب من التابوت ليلقى نظرة على الجثة رفض..وتساءل: لماذا رفضت؟ قال: لا أدرى.
وبالرغم من اعترافه بحبه لوالدته، فإنه عندما رأى فى عيون النزلاء نظرة سخرية وغضب؛ لأنه أشعل سيجارة بجوار جثة أمه، راوده إحساس مضحك بأنهم كانوا يودّون محاكمتى.. وأثناء الذهاب إلى مكان الدفن، فوجىء ببعض أصدقاء أمه يسيرون وراء التابوت.. وكان بينهم رجل يبكى بحرقة.. ولما اندهش البطل قال له مدير الدار: هذا الرجل وأمك كانا لايفترقان.. وكانت بينهما صداقة عميقة.. وكان النزلاء يمازحونهما ويقولون للرجل: هذه هى خطيبتك.. وكان هذا القول يسعدهما وطلب الرجل يسهر بجوار جثتها.. ولكنى رفضتُ طلبه بناءً على نصيحة طبيب الدار.
فى اليوم التالى (بعد دفن والدته) دخل الرواى السينما مع زميلة كانت تعمل معه، وقابلها (مصادفة) فى الترام، فى تأكيد من الأديب على أنّ الحياة لابد أنْ تستمر بشكل أو آخر.. وأنّ الحزن لن يعيد الميت إلى الحياة، ولن يعيد ما ضاع.. ولن يعيد عقارب الزمن الماضى إلى الحاضر.. وهذا المعنى أوحى إليه المبدع فى أكثر من موقف فى تصرفات بطله، الذى اختار مشاهدة (فيلم كوميدى) وبعد مشاهدة الفيلم لاحظتْ زميلته أنه يرتدى رباط عنق أسود، فسألته عن السبب فقال: أمى ماتت بالأمس، فلم يظهر على وجهها أى رد فعل، فى تأكيد - للمرة الثانية- على ضرورة التعامل مع الواقع. أما التأكيد للمرة الثالثة، فكان أنْ عرض على زميلته اصطحابها إلى منزله.. وأنها رحبتْ بالعرض بسرور.
وفى أكثر من مشهد يقول الراوى ويؤكد على (عبث الحياة) وبصفة خاصة بسبب ((العادات المملة، مثل عادات وطقوس يوم الأحد)) وبالرغم من استمرار علاقته الغرامية مع زميلته (مارى) لعدة شهور، فإنها عندما سألته: هل تحبنى؟ ردّ عليها الرد المتسق مع شخصيته: سؤالك ليس له أى معنى، فى إشارة دالة على أنه لا يوجد شيء -من وجهة نظره- يستحق طرح مثل هذا السؤال.
يرتبط بهذا موقف الراوى السلبى من الأحداث المحيطة به، من ذلك أنّ جاره (ريمون) اعتاد ضرب زوجته.. ولما طلبتْ زميلته وعشيقته (مارى) منه أنْ يتصل بقسم الشرطة، هزّ كتفيه وقال: أنا لا أحب صباط الشرطة..هنا إشارة موحية، بأسلوب أدبى يعتمد على الإيحاء، الذى هو أكثر بلاغة من الإفصاح، كانت الإشارة أنّ بطل الرواية خلط بين موقفه الشخصى (عدم حبه لضباط الشرطة) وبين موقفه الاجتماعى السلبى، بعدم مساعدة الجارة وإنقاذها من قسوة زوجها.
ولكن هل موقفه الاجتماعى السلبى معناه أنه بلا مشاعر إنسانية؟ إنّ كامى نظرًا لأنه يعى (مفردات الإبداع الأصيل) أدخل بطل روايته فى مشاهد تؤكد تعاطفه مع جاره العجوز الذى يبحث عن كلبه الذى فقده.. وبالرغم من أنّ الرواى كان يشمئز من منظر الكلب الأجرب، ومن منظر الرجل العجوز الذى صار أشبه بالكلب، فإنّ الراوى بالرغم من كل ذلك تعاطف مع العجوز عندما شاهد حزنه على غياب الكلب.. وعندما سمع شكواه بسبب وحدته.. وأنّ الكلب كان (رفيق عمره) لذلك فإننى أعتقد أنّ تأثر الرواى بحزن جاره العجوز أبلغ رسالة من المبدع، عن أنّ المشاعر الإنسانية تطفو وتظهر بقوة، بالرغم من الإحساس (بعبثية الحياة) ويؤكد ذلك أنّ الراوى- فى ذروة تعاطفه مع العجوز- إذا به- فجأة- يتذكر أمه.. ويشعر بتأنيب ضميره؛ لأنه لم يهتم بها الاهتمام الواجب عليه.
وعندما طلبتْ منه عشيقته (مارى) أنْ يتزوّجها، كان رد فعله أنه لا بأس إذا كانت هذه رغبتها.. ولما اندهشتْ من إجابته قال: إنّ الأمر سيان بالنسبة لى.. ويمكن أنْ نفعل ذلك إذا كنتِ راغبة فيه.. ولكنها أصرّتْ على أنْ تتأكد من أنه يحبها أم لا. فقال إنّ ذلك لا يعنى بالنسبة له أى شيء.. وأكثر من ذلك عندما أضاف: حتى زواجى منك أفعله لإرضائك.. وفسر ذلك- بحديثه لنفسه- أنه لا يستطيع أنْ يكذب ويدّعى أنه يحبها.. ولم يفكر فى سؤالها: هل هى تحبه بالفعل؟ ولم يهتم بهذا الأمر.. وفوجىء بها تضحك وتقول له: أنت إنسان (غريب الأطوار) فقال لنفسه: ربما كانت تحبنى من أجل هذا.. ولما كرّرتْ طلب الزواج قال: من الممكن أنْ نفعل ذلك فى أى وقت، فابتسمتْ وتأبطتْ ذراعه وانطلقا فى طريقهما.
ومما يؤكد موقفه الممزوج بخليط من السلبية والإنسانية، أنّ جاره (ريمون) كان على خلاف حاد مع جاره (ماسون) وضربه ريمون الذى سأل الراوى: هل يقتل غريمه؟ فقال الرواى لنفسه: لو قلتُ له لا، فربما أثار ذلك غضبه.. ولسوف يطلق النار عليه حتما.. وبعد تفكير قال لريمون: إنّ غريمك لم يفعل شيئا يستحق القتل.. ومن العار أنْ تطلق النار عليه بلا سبب.. فقال ريمون: سوف أشتمه.. وإذا ردّ علىّ وشتمنى سوف أقتله. فقال الراوى: وهو كذلك.. ولكنه أضاف: ولكن إذا لم يسحب غريمك السكين، فلا تطلق النار عليه.. وبينما كان غريمه (سامون) يواصل العزف على الناى، الذى أزعج ريمون، عند هذه اللحظة طلب الراوى من ريمون أنْ يعطيه المسدس.. وقال بحزم: تصارعا رجلا لرجل بدون أسلحة.. ولكن إذا أخفى غريمك السكين.. وغدر وحاول طعنك فسوف أقتله.. وبالفعل ناوله ريمون المسدس، بينما واصل (ماسون) العزف على الناى.. وتركهما الراوى.. واتجه إلى الشاطئ.
هذا المشهد الذى استغرق عدة صفحات، كان ذروة فى (تكثيف) العبثية بإلقاء الضوء على المشاحنات بين البشر، والاختلافات التى تنهى بالتهور نتيجة الانفعال، وفى (ثورة غضب) تتصاعد حتى تصل إلى مرحلة القتل.. وكل ذلك لسبب غاية فى البساطة، بل غاية فى التفاهة، لمجرّد أنّ شخصا يعزف على الناى.. والشخص الآخر لا يريد أنْ يسمع.
فى الجزء الثانى من الرواية يتم القبض على الراوى، الذى سأله (قاضى التحقيق) عن اسمه وعمله وعنوان سكنه، مما يوحى بأنّ القبض عليه عشوائي. ويذكر القارئ بنفس الجو الذى أبدع فيه الأديب التشيكى (فرانز كافكا) رواياته البديعة، خاصة أنّ بطل كامى تمّ إيداعه فى السجن. أما عن السبب فلأنه عندما علم بخبر وفاة أمه (لم يظهر التأثر الواجب فى مثل هذه الحالات) وعندما سأله القاضى: هل لديك محامٍ للدفاع عنك؟ قال لا. فطلب منه القاضى الاستعانة بمحامٍ، فقال لا. لن أحتاج إلى محامٍ. فقال القاضى: المحكمة ستندب لك محاميا.. هذا هو القانون، فلم يعلق وهزّ كتفيه باستهانة.. وقال إنّ قضيتى بسيطة. سأله القاضى: لماذا لم تشعر بالأسى يوم وفاة أمك؟ همس لنفسه: أدهشنى السؤال.. وشعرتُ بالحرج الشديد، لو كان علىّ أنْ أطرحه على أحد، لا شكّ أننى كنتُ أحب أمى.. وقلتُ للمحامى الذى عينته المحكمة: لا شكّ أنّ كثيرين من الناس الطيبين، قد تمنوا موت أشخاص كانوا يحبونهم.. ولكن المحامى قاطعه وحذّره من أنْ يقول هذا الكلام للقاضى.
وعندما زاره المحامى مرة ثانية فى زنزانته، كان يشعر برغبة قوية فى النوم، ولكنه بعد إلحاح من المحامى قال: كل ما أستطيع قوله (عن يقين) أننى كنتُ أحب أمى.. وأفضل ألا تموت، فأظهر المحامى عدم الارتياح لكلامى.. وقال كلامك غير كافٍ وغير مقنع.. وبعد أنْ تركه المحامى همس لنفسه: أنا مثل غيرى.. ولماذا التحقيق معى؟ وخارج قاعة المحكمة- فى انتظار بدء الجلسة- جاءه صحفى وقال له: الناس يقولون عنك إنك انطوائى وصموت. قال: لم يكن لدىّ أبدًا شيء يستحق أنْ يقال.. ولذلك كنتُ أفضل الصمت. نظر الشاب إليه نظرة غامضة وقال: ما يهمنى هو أنت، فهمس الراوى لنفسه: لم أفهم ماذا يقصد وماذا يريد منى.. واستاء عندما ألحّ عليه لكى يحكى له تفاصيل يوم وفاة أمه. فإذا بالراوى يحكى له المشاجرة بين (سامون) و (ريمون) وأنّ أحدهما كان سيقتل الآخر.. وأضاف: وأنا مللتُ سرد هذه القصة.. قال له الصحفى: إنه يود مساعدته.. وسوف يفعل ما يراه لصالحه.. وسأله إنْ كان يحب أمه، فقال له: نعم مثل كل الناس.. وفى جلسة المحاكمة، تكون النقلة الدرامية، حيث سأله القاضى إنْ كان قد أطلق الرصاصات الخمس دفعة واحدة.. فقال: فى أول الأمر أطلقتُ رصاصة واحدة.. وبعدها بثوانٍ الرصاصات الأربع. سأله القاضى: لماذا انتظرت هذه الثوانى؟ لم يرد على السؤال لأنّ فكره شرد.. ورأى أمام شاشة عينيه صورة الشاطئ وهو يتذكر لهيب الشمس على رأسه. وانتبه على صوت القاضى يسأله: لماذا أطلقت الرصاص على جسد مسجى على الأرض؟ فلم يعرف بماذا يرد وأصرّ على الصمت.
أخرج القاضى صليبا من الفضة يحمل صورة المسيح.. وصوّبه على وجه المتهم.. وصرخ فى وجهه: هل تعرف المسيح؟ قال: نعم. قال: إنّ الله يغفر لأى إنسان الذنوب.. ولكن بشرط أنْ يشعر بالندم الحقيقى.. ويصير مثل الطفل طاهر الروح.. ولكن الراوى لم يهتم بما سمع.. وانشغل بالذباب على وجهه، وشدة الحر.. ولم يجد جدوى من الكلام.. وهمس لنفسه: أعترف بحماقتى وبجريمتى.. وأخرجه القاضى من شروده بأنْ سأله: هل تؤمن بالله؟ ولما أجاب بالنفى، انتفض القاضى كالمذعور.. وقال بغضب: مستحيل، إنّ كل البشر يؤمنون بالله. وغير المؤمن لن تكون لحياته معنى. وصاح: أنا رجل مسيحى.. وطلبتُ منه أنْ يغفر لك خطاياك.. وكيف يمكنك أنْ لا تؤمن بمن قاسى من أجلك؟ فهمس الرواى لنفسه: لم أعد أحتمل حرارة الجو. وتمنيت -كعادتى- التخلص من شخص لا أصغى إليه، فتظاهرتُ بأننى أوافقه فصاح بفرح: أرأيت؟ ألا يعنى ذلك أنك رجل مؤمن؟ّ! وأضاف: إننى لم أر روحا فى مثل قسوة روحك. إنّ المجرمين الذين حاكمتهم كانوا يبكون أمام صورة المسيح، التى تمثل الألم والفداء، فهمس لنفسه: إننى مثلهم.. ولكن بدون بكاء.
سأله القاضى: هل تشعر بالندم؟ قال: لا أشعر بندم حقيقى، وإنما بضيق.. وبعدها لم يعد القاضى يحدثه عن الله.. ولكنه قال له: اليوم انتهى التحقيق أيها المسيح الدجال.
وعندما طلبت الفتاة (مارى) زيارته فى السجن رُفض طلبها، لأنها ليست زوجته.. وأثناء إقامته فى الزنزانة قال: شعرتُ أننى فى بيتى.. وتمنى لو جعلوه يعيش فى (جوف جذع شجرة، حتى ولو كانت يابسة) دون أنْ يكون لى شاغل سوى التطلع إلى السماء ومراقبة أسراب الطيور وتأمل السحب.. وفى جلسة المحاكمة الأخيرة كرّر اعترافه بأنه قتل شخصا لا يعرفه، ولايعرف لماذا فعل ذلك.. وليس لديه أى تبرير.. ولا يرغب فى الدفاع عن نفسه.. وبينما كان فى انتظار تنفيذ حكم الإعدام، همس لنفسه: لكى أخفف من شعورى بالوحدة، لم يبق لى سوى أنْ أتمنى أنْ يكون كثير من الحضور فى يوم تنفيذ الحكم.. وأنْ يستقبلونى بصيحات الكراهية.
أعتقد أنّ كامى فى هذه الرواية عكس بقوة.. وبإبداع بليغ مفهوم (عبثية الحياة) تلك العبثية الموجودة فى مسيرة البشر اليومية.. ويتم التغاضى عنها كأنها غير موجودة؛ بينما الأدب هو الذى يضعها تحت عدسته المكبرة Focusوبهذه العدسة -المكبرة والحارقة- اكتشفت -وفق قراءتى- أنه لا فرق بين الإنسان الذى يقتل غيره لأتفه الأسباب.. وبين رؤساء الدول الذين يشعلون الحروب ويقتلون الملايين.. وأعتقد أنّ هذا ما قصده كامى، بعد مشاهدته لضحايا الحرب العالمية الثانية.. ودليلى على ذلك مشاركته فى المقاومة السرية، ضد قوات الجيش النازى، لإنهاء احتلاله لفرنسا.