القاهرة 19 مايو 2020 الساعة 11:58 ص
كتب: مجدي محفوظ
تلعب الثقافة دوراً مهما في تغير فكر الإنسان، حيث تستطيع المقاربة بينه وبين أفكاره وتحفيز العقل، وقدرتها على تلاقح الأفكار والتواصل مع ثقافة وفكر الغير،وهذا يقودنا أن نتساءل دوماً كنخب ثقافية عند الحديث عن الفكر المتطرف والذي انتهج طريقة متسارعة على مر العصور، وكيفية الحد من تقدمه؟ فحين تؤثر الثقافة الجادة على وعي وفكر المجتمع والعمل على تحفيز الإبداع وتهيئة الفكر التنويري فيه، فهذا يحتاج إلى برامج وخطط تنموية قادرة على مواجهة تلك الأفكار الظلامية التي لا تواجه إلا بالفكر التنويري، ومقدرة اجتثاث كل الأفكار الظلامية من جذورها. وبما أن الثقافة تحمل الكثير من الرسائل المختلفة والمهمة في المجتمع لقدرتها على مواجهة تلك الأفكار ودحضها في مهدها وعدم الالتفات إليها بل ومواجهتها بكل حسم وبكل وسائل التفاعل المختلفة رغم اختلاف طوائف المجتمع في القدرة على التواصل مع هذه الأدوات.
لقد أسهم الكثير من الأعمال السينمائية والتلفزيونية في نشر الثقافة التي تواجه تلك الأفكار، ولكنها لم تؤثر على المشاهد بالقدر المطلوب وليس لها القدرة على دحض هذه الأفكار لعزوف الكثيرين عن المشاهدة أو عدم الاقتناع بما يقدم إليهم ولكن الدور الثقافي المباشر يترك أثراً واضحاً في المجتمع وفي التفكير والحوار وطرح الأسئلة وترك الرسائل المهمة، وهذا هو دور المسرح الذي يعتبر حائط الصد الأول ضد التطرف، وذلك لقدرته على نشر القيم الإنسانية الرفيعة، بل هو مشارك للمشاهد في نبذ العنف والإرهاب.
في سبعينيات القرن الماضي كنت أعيش في إحدي قرى صعيد مصر، كان لا يربطنا بالمدينة الكثير من الأشياء، حيث وجود المدارس حتى المرحلة الإعدادية داخل القرية وحين نلتحق بالتعلىم الثانوي نذهب إلى المدينة، وكان شباب القرية الذين التحقوا بالتعلىم الجامعي هم قادة الفكر لنا والقدوة الحسنة لثقافتنا، فحين تأتي إجازة الدراسة الصيفية نجدهم تواجدوا في القرية ورغم فارق السن الذي كان بينا فقد رسخوا في ذاكراتنا حب الثقافة وخاصة ثقافة المسرح، وكنا نقوم بعمل مسرحيات تعالج الكثير من القضايا الفكرية، وكانت تعرض في أماكن التجمعات وحضور الكثير من الأهالى للمشاهدة لم نكن نمتلك مسرحاً بالقرية ولكن لدينا قاعة مناسبات موجود بها منصة مسرحية صغيرة لم تكن مهيئة بالمقاعد. كنا نتوجه للمدارس في القرية ونقدم أعمالنا ونصنع خشبة مسرح بسيطة من المقاعد الموجودة، وهذا كان بمثابة توجيه فكر ثقافي متميز جداً استطاع أن يؤسس لجيل قادر على مواجهة الأفكار الهدامة. وبعد مرور سنوات أنهى الشباب دراستهم والتحقوا بأعمالهم وتركوا إرثاً مازلنا نتحدث عنه في كل مكان، وكل هذا ترك في نفوسنا الكثير من الفكر، فلغة المسرح من أقوى اللغات الإبداعية وهو المواجه الحقيقي للفكر المتطرف. وكان على الجانب الآخر من هذا التوجه مجموعة من الهواة يؤمنون بقدرة الفن على مواجهة الأفكار الهدامة رغم أنهم غير متعلمين وكانوا يقيمون مسرح السامر كل ليلة أو على فترات مختلفة، وكنا نذهب للمشاهدة وكانت طريقتهم في العرض ترسخ في ذاكراتنا حب الوطن من خلال ما يقدمونه عن طريق الارتجال في صور إبداعية لمقاومة الاحتلال، فتحية لهم ولكل أصحاب الفكر المستنير ولكل من قدم فكرا للارتقاء بأبناء وطنه أتذكر من شباب قريتنا الجامعين: الأستاذ أحمد عبد المالك، مهندس ميمي محمود، مستشار محمد فوزي، مستشار عبد المنعم الشريف، مستشار إبراهيم توفيق، مهندس مكرم الفرا، أستاذ عبد النعيم العموري، أستاذ كامل توفيق، ومعهم الكثير من أبناء جيلهم. لقد رسخ هؤلاء لفكر ثقافي توعوي استطاع مواجهة الأفكار الهدامة على مدار سنوات.
إن الدور الكبير الذي تتبناه قصور الثقافة لا بد أن يفعل عن طريق مكاتبها المنتشرة في كل مكان على أرض مصر من القرى والمدن الصغيرة والكبيرة ومدى التأثير الكبير على المجتمع ووضع الخطط المدروسة من قبل مفكرين ومثقفين قادرين على التأثير على المجتمع بوضع خطط طويلة المدي لعلاج تلك الظاهرة، وبخاصة في مواجهة مواقع التواصل الاجتماعي والتي تؤثر على فكر الشباب، حيث إنهم هم الطبقة المستهدفة في المجتمع، فلا بد من دحض الأفكار الإرهابية التي تستهدف المجتمع بفكر متطرف.
إن الثقافة تستطيع مجابهة السياسية، بل يمكن أن تطوع اتجاهاتها للانجراف في المجال الثقافي؛ لأن التنوير لا يقف عند حدود معينة ولكن له القدرة على صنع كوادر ثقافية مختلفة قادرة على مواجهة تلك الأفكار الهدامة ووأدها في مهدها والتعامل معها ودحض مخططاتها، وربما كانت ثقافة الأمم الأخرى استوحت الكثير من حركات التنوير التي تزامنت مع النهضة الصناعية في أوربا وابتعد المثقف العربي لانشغاله بقضايا وهموم مجتمعه فعكف على تقديم فكر تنويري يستطيع من خلاله إكساب الأجيال القادمة قدراً كبيراً من الثقافة والتفاعل مع مجتمعه والمجتمعات الأخرى وخلق نسيج مترابط قادر على التأثير على المواقف السياسية وتطويعها بمنظور ثقافي ورؤية مستقبلية تستطيع أن تضع الحلول المرتبطة بالمجتمع وبأفكاره، وهذا أدى بدوره إلى سلبية متراكمة على فكر الشباب فأصبح الشباب متأثرا بتلك المشاهد والخطب الرنانة التي تتخذها تلك الجماعات المتطرفة والتأثير على الشباب والقدرة على اجتذاب الكثير منهم وبخاصة الذين يجدون من هذه الأفكار الخروج من الفراغ الثقافي والفكري الذي يعانون منه. وقد انتشر الكثير من الأفكار الهدامة التي أوهمت الشباب بتكفير المجتمع أو الحدة في الرأي والخروج على طاعة الحاكم. وتبنت الكثير من الجماعات هذا الفكر المتطرف والذي لاقى قبولا كبيرا لدى الكثير من الشباب، وهذا يدلل على الخلل الفكري الثقافي لديهم.
إن الحفاظ على الهوية العربية والإسلامية بين الأمم يحتاج إلى بذل الكثير من الجهد والتعاون بين وزارات الثقافة على مستوى الدول العربية والإسلامية فيما بينهم لوضع خطط لمواجهة تلك التصرفات الغوغائية والفكر المتطرف، فلابد أن يلتف مثقفو ومفكرو العالم العربي إلى حل مشكلاته في أطر ثقافية تتبني من خلالها استشراف المستقبل ورسم خطط مستقبله وتقديم قادة الرأي والفكر للبحث عن جذور الأزمات ومحاولة وضع الحلول المناسبة إليها والتطلع والاطلاع على التجارب المختلفة والتي عانت منها المجتمعات واستطاعت تغيير أفكارها بحراك ثقافي تنويري قادر على مواجهة تلك الأفكار الهدامة وتطويعها إلى أفكار إيجابية قادرة على مواجه التطرف الفكري.