القاهرة 19 مايو 2020 الساعة 11:54 ص
بقلم: حاتم عبد الهادي السيد
سيناء، شمس الله المشرقة على الخلود. هنا السرد نسج عباءة كونية للعالم، وتربع على كل أرجاء الحياة؛ إذ البدوى حكّاء بطبعه، يتسامر في الليل على أنغام الناى ورقص السامر، وتنتشر القصص والحكايات، وينطلق الناى ليمتزج بحداء الإبل، لتنطلق قيثارة الشعر والسرد في تناغم هادئ، يحكى البدوى حكايات الذئاب والأغنام، وقصص البطولة، ويتذكر حكايات إغارة القبائل على بعضها من أجل ملكية الأرض، وعلى الكلأ والعشب، أو هروب فتاة، أو من أجل الدفاع عن قيم البداوة الرصينة.
وهنا، عبر تفاصيل المكان الساحرة، وعبر "الأبجدية السيناوية" –أول أبجدية في التاريخ- صنع البدوى حضارته، وأنتج حكاياته، وسرده المختلف ، فديوان البادية عامر بتراث الحكى وسير الأقدمين وأساطيرالسابقين، فتمتزج سيرة أبوزيد الهلالى سلامة، والزير سالم بحكايات البردويل، ودهقان العريش، وحكايات السيوى ونوادره، وحواديت الجدة عن الشاطر حسن وأبو رجل مسلوخة، وحكايات الأبطال عبر المعارك التى خاضتها القبائل، وغيرها. ولقد خلد الشعر البدوى الكثير من هذه القصص: "الشعر القصصى، القصص الشعرى" عبرالحكايات الشعبية، والمرويات التراثية التى تخلد المكان عبر مسيرة الزمان الممتد.
ويعتبر عبد الله السلايمة أول من كتب الرواية البدوية السيناوية، التى تؤطر للمكان وللتحولات الكبرى هناك، تلك التى تعلى من سيرة السرد: التاريخى، الاجتماعى، التراثى، الفنى، عبر مستوياته التى يستطيع إحكام تفاصيلها: معناها ومبناها، من خلال وصف المكان، وتمظهراته، وآثاره النفسية والعامة، حيث يعتبر المكان البطل الرئيس، لشخصيات الرواية، بل إن روايته السابقة "بركان الصمت" تحكى سيرة المكان الكبرى لحياة البادية السيناوية: عادات البدو، تقاليدهم، أفراحهم، مآتهم، تعاملاتهم اليومية العادية، تراثهم المحفور في الذاكرة، كما تعكس قيم البادية النبيلة: الصدق،الفروسية، إغاثة الملهوف، الحب، التسامح، القسوة -التى أملتها طبيعة المجتمع والمكان- والتى انعكست بقوة على مسيرة الحياة والسرد. كما تتعرض الرواية للاحتلال الصهيونى الغاشم لسيناء، قبل وبعد حرب 1973م. وتعتبر من الروايات الاجتماعية القليلة التى عكست مظاهر المجتمع البدوى السيناوى بصورة حقيقية، لا لبس فيها أو مزايدة، ويظل للمكان هنا نكهته السامقة.
وفى روايته "خطايا مقصودة" يحيلنا –منذ البداية– إلى الصحراء، عبر قصيدة/ محمود درويش التى استهل بها روايته، يقول محمود درويش: "هذه الأرض لي.. وكنت قديمًا، أحلب النوق راضيًا ومولّه.. وطني ليس حزمة من حكايا ليس ذكرى، وليس حقل أهلّة.. هذه الأرض جلد عظمي وقلبي.. فوق أعشابها يطير كنخلة.
لقد لخصت القصيدة مستغلقات رواية بات عنوانها ملغزاً، خطايا، ذنوب كبرى، مقصودة –كما يذكر- وحاولت القصيدة فك شيفرتها ومضامينها الرامزة، لتظل: "خطايا مقصودة" شاهداً على زماننا، على حياتنا في سيناء، بل وتنسحب إلى الوطن وأمتنا العربية والإسلامية أيضاً. فالخطايا التى يكابدها إنسان البادية تعكس مظاهر الصحراء بكل ما فيها، وتعكس مشاكل الحياة اليومية، وتستشرف أفقاً يتغيّاه الكاتب/ السارد لهذه البادية/ الوطن / الذات المقهورة التى تعيش هناك على حافة الحياة: تنظر إلى الوطن كتوجّه، كقضية كبرى للوجود، وجوده هو، ووجود الآخرين الذين يتحفزون لقهر أهوال الصحراء من جهة، والأخطار التى تتهددهم عبر مسيرة الزمن،إذ هم ينادون بحقهم في الحياة، وحيث المكان هنا هو الوطن، مكان القبيلة، الانتماء الروحى، والفيزيائى للذات التى تتريّض على مفردات البيئة هناك. كما تتعرض الرواية للأحداث التاريخية الكبرى التى مرت بها سيناء على مدار عصورها، منذ عصور الفراعين الأول، وحتى غزو الإرهاب وداعش وولاية سيناء لصحرائها، فهم يخترقون الصحراء، يشوهون الحب والمكان والتاريخ ، يريدون محو تفاصيل المكان، بينما يتشبث هو/ هم بالمقاومة، بالدفاع عن حقهم في الحياة والمواطنة، لتظل الرواية سرداً للمكان، من خلال الواقع الاجتماعى، السياسى، الاقتصادى، ولتصبح الرواية "ديوان البادية" الذى يسجل، يروى، يستعيد -عبر تقنيات الفلاش باك والتضمين، والمعادل الموضوعى، الضمنى، الإحالى، الترميزى- الحقب التى مرّت، والأحداث التى تراكبت، عبر الزمان والمكان، وكأنه كسارد عليم، شاهد على المكان والأحداث، والعصر، والحياة، يقول ليعكس واقع عصر الإرهاب الذى عاشه المواطنون: بين شقى رحى، بين مطرقة الدواعش، وسندان أجهزة الدولة، يقول عبر الرواية:
( أدار محرك السيارة وانطلق غاضبًا مواصلا سيره. لاذ كل منا بصمته حزينًا للحظات على ما يحدث للديار التي كانت حتى وقت قريب عامرة بالسلام والألفة والمحبة، وأضحت الآن خرابًا يدمي القلوب حزنًا، وكان كافيًا لإظلام أي طاقة أمل لدى أهلها في غدٍ أفضل.
غدٍ، قال السائق: يبدو أن شمسه لن تشرق أبدًا، وتعبيرًا عن غضبه وقنوطه، تساءل وهو يضرب المقود بقبضة يده: يا إلهي إلى متى هذا الجحيم؟! لقد كنا نعيش جحيمًا واحدًا، وأصبحنا الآن نعيش بين جحيمين..التفت نحوي قائلا في استغراب: إن كلا من الطرفين لا يروننا سوى حشرات تستحق السحق تحت نعالهم..!. وكما لو كان يلومني على صمتي، تساءل مندهشًا: لمِ أَنت صامت هكذا، فلتقل شيئاً؟! أحيانا يكون الصمت أبلغ من الكلام"، رددت محاولا قطع الطريق عليه، قبل أن يستدرجني للحديث في أمور، من المؤكد سوف يودي بي الخوض فيها في النهاية إلى أحد أمرين: إما الاغتيال على يد الجماعات المتطرفة، أو اعتقالك والزج بك في السجن، فما أدراني أي الطرفين يؤيد الرجل، الدولة أم جماعة "الإخوان". ولأن الشك سيد الموقف، والكل مشُتبه به، حرصت منذ بدأت الدولة حربها على الجماعات الإرهابية، على عدم الدخول في نقاشات لا طائل منها غير تعريض نفسي للأذى، تجنبًا له، قلت للسائق: من الأفضل أن يتابع سيره، ويدعه من التحدث في ما لا فائدة منه).
إنه حال سيناء –الآن– يرصده، دون تذويق، أو خوف، يرصده كما هو، كما رآه.
إنها رواية السيرة، عبر المكان (السير/ ذاتى)، حكاية البدوى مع المستعمر،حكاية الإنسان مع الظلم التاريخى/ الأيديولوجى/ الفيزيقى/ السياسى، وحكاية سيناء، يسرد لنا الراوى -عبر المكان- أحداثاً وأماكن، ويعبر بنا عبر الجبال والهضاب إلى الذات والمجتمع. يحيلنا إلى ذواتنا العاجزة المقهورة تحت ركام الإرهاب، وقبضة القوة من جانب الجيش، وهو الضحية –كما بسرد- يدفع فاتورة لجرم لم يرتكبه، ولإرث تاريخى، وأيديولوجى، وعقائدى ليس طرفاً فيه، بل يدفع فاتورة نظم ومذاهب، وتعصب، وفوضى خلاقة،وثورات لخريف عربى -أسموه ربيعاً- وكان خريفاً على العرب والمسلمين.
ومن المؤكد، تاريخياً، أن الثورات تعيد إنتاجية الحياة، المواطن، المجتمع، لكن هناك من يدفع الضريبة، يموت، بذبح، يطلق عليه الرصاص، تتم تصفيته، يستشهد، يقدم النفس رخيصة فداء للوطن، وللأجيال القادمة.
إنها الرواية التى تعكس النضال الوطنى ضد الصهاينة، ضد إقامة المستوطنات على حساب منازل وهوية الفلسطينيين، هم يريدون محو القضيةالفلسطينية من الوجود، إبادة البشر، تجريف الأراضى ليعيشوا ويبنوا حضارتهم الزائفة فوق حجارة البيوت ودمار القرى والمدن في الأراضى المحتلة.. يتشدقون بالسلام وأغصان الزيتون، بينما تنوح الحمائم بالدموع والدم على مناظر قتل الأطفال، وحيث صراع المستعمرات، الأرض، العرض، الحياة، يقول:
( رد صابر قائلا: لقد تراجع "اليهود" عن قرارهم في إقامة المستعمرة!.
واستطرد بنبرة تشي بالامتنان، موضحًا: كيف تفاجأوا بعد القبض عليه بعدة أيام، بقدوم وفد مكون من أربعة أفراد، قالوا إنهم يمثلون حركة "مابام" الإسرائيلية الداعية للسلام، وقد جاءوا خصيصًا ليدعموهم في قضيتهم، ضد ما يرتكبه حزب "الليكود" الحاكم ضدهم.
رفض داخل صابر تصديق ما سمعه، ودفعه تشككه لأن يعيب على الحضور تصديقهم في سذاجة لمثل هذه الأكاذيب، مستحضرًا المثل الشعبي القائل" الكلب لا يعضُّ ذيل أخيه".
ما دفع بأحدهم للرد مستغربًا: لكن الوفد أرسل بمن يخبرهم، بأنهم قد رفعوا بالفعل دعوى بالقضية للمحكمة، وينتظرون صدور حكمها فيها قريبًا. كان شك صابر أقوى من شعوره بالفرحة لدى سماعه الخبر، ما دفع به للإعلان عن تشككه مرة أخرى في حسُن نية وفدهم المزعوم، وزعمه أنه قد جاء لمناصرتهم في قضيتهم.
ـ لمِ جاءوا إذن؟ تساءل آخر متعجبًا. لم يجد صابر ما يرد به عليه، فاكتفى بالقول: لننتظر ونرى. ولم يطل انتظارهم، إذ فوجئوا بعضوين من الوفد يعودان مرة أخرى، ويزفان إليهم بُشرى قرار محكمتهم، بتأجيل صدور حكمها في القضية لثلاثة شهور قادمة للنظر في الأمر، وهذا أمر يدعو للتفاؤل. تفاؤل ما لبث أن تحول لديهم إلى تشاؤم. وقد صدمهم خبر رفض المحكمة لقضيتهم، وارتكانها إلى المادة التي تسمح في قانونهم، بنقل جثامين الموتى من مكان إلى آخر!. واحتشدت دواخلهم بالغضب حينما فوجئوا بعربات جنود المحتل تقف أمام ديوانهم مرة أخرى، ويخبرهم نفس الضابط في تشفّ واضح: بأنه يمهلهم أسبوعاً واحدًا لا غير، يمكنهم خلاله نقل موتاهم إلى حيث يريدون، وإن لم يفعلوا، فسوف يسحق جنوده عظام أمواتنا تحت جنازير الجرافات!.ولأنهم يدركون حقيقة أن ليس بوسعهم مواجهة جنود الاحتلال، لم يجدوا أمامهم من سبيل سوى الإسراع بجمع ما عثروا عليه من عظام آبائنا وأجدادنا ونقلها إلى مقبرة أخرى، وفى مكان بعيد.
ومن شدة ما ترك ذلك في نفوس أهلنا من آلام، بدوا فيما بعد أقل تأثراً أمام اكتشافهم حقيقة أن أعضاء الوفد المزعوم، الذي زارهم من قبل، ليسوا أكثر من أعضاء بالجناح الإعلامي لحزب "العمل" الإسرائيلي المعارض، ولم يكن الوفد مهتمًا بالسلام، ولا يعنيه مساندتهم كما زعموا، بقدر ما وجد في مأساتنا فرصة مثالية، حاولوا استغلالها ببشاعة، ليُظهروا لرأيهم العام، أنهم الأفضل والأجدر بحكم دولتهم من حزب الليكود!
وما كاد يمضي أسبوع حتى وقفوا يراقبون في حيرة وحسرة بالغين، جنود الاحتلال وقد انتشروا في المكان لحماية معداتهم وجرافاتهم وهى تنتزع الحياة من جذور زراعات أهلنا، وما يحيط بها من أشجار الأحراش الممتدة بطول امتداد ساحل البحر، وتحيل مساحات شاسعة منهما إلى منطقة سهلية، تمهيداً لإقامة مستعمرتهم عليها، التي أطلقوا عليها اسم "ياميت".
وحال صغر سن يوسف حينها، دون إدراكه لعمق معاناة أهلنا، وجعله يرى ما كان يحدث حوله بشكل مختلف، وعلى العكس مما كانوا يرونه، حد أن بدا مندهشًا من حيرتهم وهم يتبادلون الحديث حول ما يرونه يحدث على أرضهم ويعجزون عن إيقافه.