القاهرة 11 مايو 2020 الساعة 10:24 ص
أسامة الزغبى
يقول الكاتب الكولومبي الأشهر إيكتور أباد فاسيولينسى وهو من أبرز كتاب أمريكا اللاتينية بعد جيل ماركيز فى روايته العظيمة (النسيان) وهى مرثية رائعة لوالده الطبيب الذى دفع حياته ثمنا لمواقفه المدافعة عن حقوق الإنسان ,التى ترجمها إلى العربية مارك جمال فى ترجمة لا تقل روعة عن الأصل, أننا سنحيا لبضع سنوات هشّة بعد الموت في ذاكرة الآخرين، ولكن تلك الذاكرة الشخصية تدنو من الزوال أبدًا مع كلّ لحظة تنقضي. والكتابة هي محاكاة للذكرى، طرف صناعي وظيفته التذكّر، محاولة يائسة لنجعل مما هو فانٍ، لا محالة، أطول عمرًا بقليل.
ليس الموت هو الذي يأخذ الأحباء، على العكس، فهو يحفظهم ويُخلّدهم في شبابهم الجميل. هذه فعلا حقيقة لا يجب أن نتغافل عنها . فما بالنا إذا كان موتا غير عادي ولا ميتا غير عادى, بل بطلا استثنائيا بكل المقاييس, بطل يجب أن يتوقف التاريخ عنده كثيرا وأن نفرد له الكثير من صفحات مجدنا وأن نبحث عن كل وسيلة ممكنة لتخليد ذكراه كى تصبح عصية على النسيان. فنحن أبناء حضارة كانت أبرز سماتها التدوين الذى حفظ لنا تاريخا نباهى به الأمم . وجدران مقبرة الضابط المصرى أحمس بن إبانا الذى شارك فى حروب التحرير فى عهد سقنن رع وابنه كامس حتى الوصول الى التحرير الكامل لكل ذرة تراب من أرض مصر الطاهرة على يد البطل الاسطورى أحمس خير شاهد على ذلك. فكذلك نحن اليوم لابد وأن نسير على خطى الأولين وأن نخلد بطولات شهدائنا الأحياء عند ربهم يرزقون.
فى الأول من يناير عام 1995 يولد الطفل محمد أيمن شويقة فى قرية الإبراهيمية القبلية التابعة لمركز كفر سعد بمحافظة دمياط, تلك البقعة المباركة من أرض الوطن والتى سحقت جيش فرنسا عام 1250 فى أخر غزوة صليبية حينما جائها غازيا وآسروا ملكها لاحقا , تلك المحافظة التى لا مكان فيها لعاطل أو متكاسل , مدينة بحق تعتبر مصنعا للرجال فمنذ نعومة الأظفار يذهب الصغار فى العطلة الصيفية للعمل فى ورش النجارة والآثاث حتى يصبحوا مع الوقت أبرع حرفيّ مصر وربما كان بطلنا سيسير على نفس النهج خاصة بعد أن أنهى تعليمة المتوسط بالحصول على دبلوم فنى صناعى قسم زخرفة ولكن قبل أن يبدء حياته كان عليه أن يلبى نداء الوطن وينهى فترة تجنيدة. يقوده قوامة الصلب الممشوق إلى سلاح الصاعقة الذى لا يضم سوى الأبطال. بعد فترة تدريبة يذهب إلى درة التاج سيناء. ويختاره البطل أحمد المنسى ضمن رجال الكتيبة 103 ولتميزه الشديد فى التدريبات ولقوامة الصلب يتم اختياره ضمن مجموعة المهام الخاصة وليلة استشهاده يحدث أن يطلب فجأة من قائده أن يغير مهمته فى تأمين عودة فوج المجندين إلى مهمة أخرى خاصة بمهاجمة إحدى البؤر الإرهابية بقرية المساعيد فى العريش وكأنه كان يستجعل لقاء ربه. ببصره الحاد يلمح تكفيريا يضع حزاما ناسفا حول خصره ويقترب من القوة, ساعتها لم يتوقف ليفكر فهو يعلم تماما أن كل ثانية تردد أو تفكير ستكلف الكثير من أرواح زملائه فما كان منه إلا أن هرع ناحية الإرهابى دون أن يلتفت إلى نداءات قائده بالعودة وما هى إلا لحظة سريعة لينفجر الاثنان سويا . فى أيى شيىء كان يفكر فى تلك اللحظة, أى بطولة هذه الذى جعلته لا يفكر ولا يتردد ثانية كى يفدى زملائه ووطنه, أى أم ربت وأى أب علّم, هل رأى باب السماء مفتوحا فى تلك اللحظة فهرول إليه؟ تلك هى اللحظة التى يجب أن نخلدها جميعا, لحظة تختصر حضارة السبعة ألاف عام , لحظة تؤكد أن حب هذا الوطن هو ما يسرى فى العروق حتى وأن توارت هذه الحقيقة فى غمار سباق الحياة. لقد اختار شويقة مصيره, اختار أن يظل حيا فى قلوبنا وفى ذاكرة الوطن إلى الأبد كأسطورة حية نفخر بها ونرويها دائما لأبناءنا كى يعلم الجميع كم من الدماء الذكية ُأريقت كى يظل الوطن كاملا غير منقوص , رفض ابن دمياط العظيمة أن يصبح كالأحياء الأموات.
لا يبكيه زملاؤه الذين افتداهم؛ لأنه حي إلى الأبد في نفوسهم, وتودعه أمه الثكلى بمشاعر متضاربة من الفرح والبكاء, الفرح بهذا الابن الشهيد الذى زُف إلى السماء عريسا وهو ابن العشرين بعد أن ترك لها كل الفخر , بعد أن أشهد العالم على أنها حفيدة إياح حتب العظيمة التى وهبت زوجها سقنن رع وولديها كامس وأحمس لتحرير تراب الوطن من مغتصبيه الهكسوس قديما, ولكنه ألم الفراق الذى ملىء عيناها بالدموع. ورغم قسوة رؤية المشهد مرة أخرى بمسلسل الاختيار لأسرته ولكن كان من الضرورى أن يراه المصريون جميعا كى يقفوا على حقيقة كل تلك التضحيات ويزداد يقينهم بأن بلدهم محروسة طالما أنجبنت مثل هؤلاء الأبطال.