القاهرة 05 مايو 2020 الساعة 01:32 م
بقلم: د. محمد السيد إسماعيل
يستمد الروائى مادته الأولى من المجتمع على اختلاف طبقاته وشخصياته صانعا منها عالمه الروائى الذى لا يعكس الواقع بصورة مرآوية بل بطرائق الفن المتنوعة وهذا ما نلاحظه فى "تلات ورقات" لمنال الشربينى التى تبنى أحداثها –غالبا– من خلال وضعية السارد الداخلى المشارك فى الأحداث بصورة رئيسية.
وقد توزعت هذه الوضعية ما بين "ريم" المصرية التى هاجرت مع زوجها إلى الأردن، وفريدة ابنة خالها الصحفية المترجمة الشاعرة التى تعيش فى مصر مع أبنائها؛ لكن الكاتبة –فى بعض المواضع– توظف وضعية السارد الخارجى العليم الذى يقدم الشخصيات من منظوره الخاص مستخدما ضمير الغائب.
وتبدو لى الرواية أقرب إلى المتواليات القصصية وقد لعب المكان –قرية الجبل– الذى يحوى العديد من الجنسيات العربية دوره فى تفعيل تقنية المتواليات التى استعرضت حياة بعض الأسر التى تعرفت عليها ريم من خلال جاراتها السبع مثل أم جهاد ذات الوجه العابس التى تعامل طفليها بسادية، وأم عبد الناصر التى ينادونها اختصارا " أم العبد".
ويغلب على الرواية ما يسمى بالمناسبات الطقسية التى توضح عادات المجتمع الفلسطينى والأردنى مثل طقس الأفراح.
وفى هذا السياق تتمرد ريم على قرار أبيها بزواجها من ابن عمها الضابط وفضلت عليه قريب صديقتها المهندس الوسيم الذى أصبح زوجها بالفعل لكن أحلام فى مجتمعها المغلق لم تستطع أن تتخذ هذا القرار وفضلت أن تريح أمها بزواجها من ذلك الشاب الغريب الذى لا تعرفه ويتحرك وعى ريم بين المكان الحاضر/ الأردن والمكان الغائب/ مصر.
وتأتى المقارنة فى صالح المكان القديم/ مصر فهو الأكثر انفتاحا قياسا بمكان إقامتها؛ لكنها سعت لمعرفة المكان الجديد بموضوعية واستطاعت أن تدرك فلسفة الطعام وتقاليد المائدة، كما استطاعت أن تواجه الصورة المغلوطة للمرأة المصرية التى صدرها الفن إلى الوعى العام العربى.
والربط الذكى بين الحب الضائع والوطن الضائع من خلال رؤية أحلام حين تقول قبل إتمام زواجها "كل ما هنالك أننى سأستبدل حبا ضائعا ليس مسموحا لى أن أجنى ثمرته بوطن ليس مسموحا لى أن أعلن هويته".
وتظل قضية الأرض الضائعة وتأثيرها على الشخصيات أحد دوافع السرد، وهو ما يمكن أن يفسر سلوك أم جهاد السادى مع طفليها والفخر غير المبرر بالأجداد والأنساب فى ظل وطن يحتله العدو الصهيونى، حيث كان "الرجال فى القاعة المجاورة تميزهم الشوارب الكثيفة يتفاخرون بأنسابهم وأعراقهم؛ بينما يرتع اليهود على مقابر أحدادهم وشبابهم وأحفادهم" وهو ما يجعل شخصية نضال أقرب إلى القيمة المفتقدة التى لم تستطع أن تحقق أحلام فلسطين فى تحرير إرادتها ووطنها والخلاص من ذهابها –مرغمة– إلى أرض تعانى من وطأة الاحتلال.
ولا يخلو من الدلالة خروج نضال وهو يقود مجموعة من الشباب ويقتحم دار أم غالب لتخليص البنتين: أمل وأمانى من قبضة خالهما المستبد كأنه تمثيل رمزى للاحتلال.
ولاشك أن تحرير الفتاتين هو تحرير لأحلام أو مقدمة له كأن نضال يحاول تعويض ما فاته والتغلب على عجزه القديم وهذا ما تصل إليه الساردة وهى تتأمله حين تبعت "نقطة التقاء نظره بالأفق فوجدت عينيه قد استقرتا على ما كتبه الغيم فوق رأسه ولدهشتى قرأت أحلام".
إن إطلاق طاقة الخيال كما يبدو من هذا الشاهد يمكن الساردة من التغلب على محدودية المكان، ففى موضع آخر استطاعت – رغم وجودها فى جبل الحسين – استدعاء "أحلام" من الضفة من خلال تقنية الحلم – حلم اليقظة لتحكى لها عن معاناتها فى حياتها الجديدة ويتجاوب مع هذا تصوير بعض الخيالات العجائبية التى كانت ترد على وعى جدة ريم التى " كانت ترى الجالسين إلى مائدة الملك فى اللوحة المعلقة فوق مائدة الطعام فى القاعة الكبرى يتناولون الطعام بالفعل وأنهم يتبادلون أطراف الحديث فيما بينهم بالفعل" وهو ما سوف يستمر مع الساردة حين تؤول اللوحة التى ارتسمت على بابها بأنها رسالة إلهية لها بضرورة الخروج حين تخيلت رجلا أشبه بهامان فرعون يشير إليها بالخروج الذى يبدو من خلال تتابع السرد دعوة لخروج جماعى لا فردى حين تمنت ريم أن تعلق تلك اللوحة على ساق شجرة السرو أو أحد الأعمدة القريبة من مدخل الجامع أو الكنيسة ليراها الجميع "لربما فكر نفر منهم فى الخروج على كل شىء لا يتفق مع ما هو إنسانى"، ولاشك أن التأويل يمثل انعكاس الداخل على الخارج أو الذاتى على الموضوعى.
إن ريم تخلع ما بداخلها من تمرد على هذه اللوحة وهو ما يمكن أن ينطبق على لوحة الرجل المنكفىء التى رأتها فريدة: "دخلت غرفتى وألقيت بنفسى على السرير فبدت لى لوحة الرجل المنكفىء على وجهه وكأنما أراها للمرة الأولى وتذكرت ريم ابنة خالتى التى أخذتها الغربة منا ترى هل تشعر بالوحدة مثلى؟"
ويتوازى مع تلك التأويلات ما اعتمدت عليه الكاتبة فى أكثر من موضع من توظيف الأساطير أو الإشارة إليها مثل أسطورة "فينوس التى اعتقد الرومان أنها ولدت فى البحر وجاءت إلى شواطئ قبرص فى محارة" وأسطورة برومثيوس –سارق نار الآلهة– الذى " أحب البشر وعلمهم المهن والحرف وفضلهم على آلهة الأوليمب" وتوظيف التراث الدينى حين تقول لقد "سبقنى العقل الجمعى وسقط بالجميع فى الجب ولست أملك حبال من أخرجوا يوسف من القاع ولكننى سأظل أتكلم عن الأمل".
وفى النهاية يمكن أن نقول إن الرواية تزخر بالعديد من القضايا المهمة مثل رؤية المجتمع الشرقى للزانية والزانى ووضعية المطلقة والتدين الشكلى والمتاجرة فى المقدس ومفهوم الجنس والأغانى الهابطة ونعى السلام ورثائه وتفسيرها لبعض آيات القرآن الكريم التى تحدد علاقة الرجل بالمرأة، وهو ما جعل من هذه الرواية "سردا معرفيا" تمتزج فيه المعرفة بالفن بحرفية واضحة.