القاهرة 28 ابريل 2020 الساعة 03:57 م
كتب: حاتم عبد الهادي السيد
بداية، فإن كل فن أدبى مستحدث يحتاج إلى نظرة تأمل وأسئلة واستفسارات عن الماهية والتكوين والعناصر والخصائص المنتجة لهذا النوع، أو الجنس الأدبى الجديد، وغير ذلك.
ومن هنا يجىء السؤال: هل القصة الشاعرة نوع تطوري وشكل جديد يضاف لمسيرة القصة العربية في شكلها الحداثى، أو ما بعد الحداثى والمفاهيمى، وغير ذلك؟ أم إنها تمثل جنساً أدبياً جديداً مغايراً لطبيعة القصة الحالية، بأشكالها المختلفة وبفنياتها المستقرة؟
وأيما كان الأمر، فإننا - بداية - نشجع كل فن جديد، أو أي طريقة تستحدث للفن آفاقاً تغايرية، وتجدد ثوبه الإبداعى، ليساير تطورات العصر، وحاجاته ومتطلباته التى تستدعى من المبدع تطويراً لشكل ومضمونية العمل الإبداعى الذى ينتجه.
وبعد ما طرحناه في التأسيس للمفهوم والمصطلح الخاص بالقصة الشاعرة في الجزء الأول من الدراسة الأسبوع الماضي ..
وانطلاقاً من التأسيس العام لما هو خاص عن الفكرة الأولى لمصطلح القصة الشاعرة فإنه –كما أرى– أنه من العبث إطلاق الأجناسية، على ما هو متكىء على ماهيات الشعر، والقصّ حتى لو أضفنا إليهما سمات جديدة، فهى من باب اختلاف الطريقة، لا اختلاف الماهية التى تخص ما هو نثرى وشعرى، وبمعنى آخر إذا ما أردنا أن نضيف القصة الشاعرة إلى الجنس الأدبى المغاير، باعتبارها جنساً مختلفاً عن الشعر والقصة.
فعلينا – كما أرى – أن نتخير لها مسمى جديداً، لا ترتبط الذهنية فيه بمعيارية، وتعارفية لشروط الشعر والسرد القصصى، كى لا تختلط الأمور على القارئ والناقد، والمبدع أيضاً؛ إذ أن المبدع لا يمكن أن يقول: نويت أكتب قصة شاعرة، واضعاً في ذهنيته الشروط المعيارية لهذا الفن الجديد، كى لا نصف الأدبية في هذا الفن الجديد بالجمود، وأدلجة الفكرة والموضوع ميكانيكياً، أو وضعه في قوالب جامدة من جهة، ومن جهة أخرى لا يجب أن نلوى عنق النص باشتراطات مسبقة، فنقع في المباشرة، والضرورة التى لا تتسق مطلقاً مع ماهية الفن، التى تشترط –بداية- الانطلاق والتحرر من القيود، وإن التزمت الضوابط في الذهنية فقط، وقد تخرج الفكرة منحرفة عن السياق النصىّ، فتأتي عملية التنقيح تالية على الإبداع، لتصحّح وتوجّه الانحراف المعيارى، إلى الكمال الجمالى، أو شبه الاكتمال؛ لأن الكمال منقوص، وإن كان جميلا ومتألقاً،؛ لأننا كبشر ننحو إلى الكمال النسبى، لا الكمال الكلىّ، بحسب تكويننا التخليقى الأول.
وهنا يأتى دور الناقد كذلك ليحلل ويقارن ويوازن ويعمل أدواته عن طريق القياس العقلى والاشتراطات الإجرائية ليحكم على النص الأدبى دون وجود أحكام مسبقة، بل النص يصنع إجراءاته حسب السياق الموجود فيه، والقالب والسمات التى يتسم بها، والتى تعارف عليها النقاد سلفاً.
ومن كل ما سبق، وغيره، كذلك يمكن اعتبار القصة الشاعرة، والشعر القصصي، والقصة الومضة، والمسرح الشعرى، وغير ذلك أشكالا ابتداعية، أتت على مقيس سابق للشعريّة والنثرية، وابتنت أسسها الجمالية، وقيمتها المضافة، على ماهيات التكوين السابقة. فهى تطورات في النوع الأدبى، لا تجنيساً لعلم جديد، أو ابتداعاً على غير مقيس، وإن لم نغفل هنا نظرية تكاملية العلوم، لكننا في النقد المنهجى لابد من الفصل بين كل الأجناس الأدبىة، كى لا تختلط المفاهيم والمعايير، لكى نبتنى النظرية النقدية، والتأصيل لهذه الفنون التى –أراهاً – تطوراً للشكل القديم للقصة والشعر معاً، أو لما هو إيقاعى مموسق، وما هو ترميزى نثرى، أو تعبيرى عام، ومن هنا يمكن الحكم على القصة الشاعرة وغيرها بأنها: أشكال، وأنواع جديدة، تحديثية لفن القصة، أو للشعر، دون محو الهويّة الشعريّة والقصصية، اللتين ابتنتا عليهما هذه الأشكال تكوينها الأول، طالما أن المادة التكوينية واحدة –ناهيك عن اللغة هنا– كما أن اطلاق صفة القص والشعرية، على اللغة الشاعرة / الشعرية، والجمع بينهما معاً لا يمكن أن يلغى وجودهما ومعاييرهما، وإن أضفنا أو حذفنا منهما، أو اعتمدنا على البلاغة فحسب، وإن استعملنا التدوير مثلا، أو السياق الإحالى، فهذا لا يلغى بالطبع طاقات اللغة الإحالية لمفهوم القصة والشعر هنا، إذ تكوينات البناء القصصى والشعرى تعتمدان التخييل الإحالى، الذى يقرّب التصورات المراد إيصالها للقارئ باستدعاء الجمالية، دون مثاقفة، أو حذلقة معيارية، قد لا ينتجان تشاركية للقارئ. فالنص الكونى ينطلق من ماهية أن الإنسان عارف بكل تفاصيل ومدلولات التعبير المراد، وكل شىء في الحياة والكون، وما وراء القصديّات، وهذا شىء خارق للعادة ولا يتأتى حتى لنبىّ مرسل.
فالأخير يأتيه الوحى بمستغلقات ما نقص في كمالية تفكيره كذلك، ومن هنا وجب على الإحالات أن تكون دالّة، وقريبة من التصور العقلى للقارئ، دون الاعتماد على السياق الإحالى التثاقفى، الذى يحتاج إلى مثقف من نوع خاص، وإلا كنا ننتج الفن للفن، ونحن ننتج الفن – في الأساس لأنفسنا أولا – ومع أن هذا له وظيفة علاجية ،أو تطهيرية من جهة، إلا أننا قد ننتج الفن للمجتمع أيضاً. وهذا ما يتطلب حاجة تعليمية ، أو توجيهية، أو ضرورة ملحّة، أنتجتها الظروف المجتمعية الآنية. ومن هنا فغاية الفن ليست ذاتية فحسب، بل موضوعية كذلك، وتنسحب إلى كل ما في الكون والعالم والوجود والحياة أيضاً.
ومن هنا وجب تعريف القصة الشاعرة –كما أحسب- بأنها: لون أدبى، فنى جديد، يستقى مادته من ماهيات الشعر، والقص، ويضيف إليهما طرائق تعبيرية جديدة، تعتمد التدوير دون تسكين التفعيلة، في وسط السرد القصصى الشاعرى، وتعتمد الإحالات الترميزية لإنتاجية قصة شاعرة تجدد في شكل السرد القصصى بمفهومه الحديث، وتضيف إليه أبعاداً جمالية أخرى، تمايزه عن الأشكال الأخرى، كالقصة الومضة، والشعر القصصى، وقصيدة النثر، والشعر المرسل، وغيرها من الأشكال التعبيرية الجديدة للقصة العربية المعاصرة
وهذا التعريف -في نظرى– يمتد ليشمل كل الأشكال الإبداعية الجديدة للقصة العربية، ليظهر تمايزها عن القصة القصيرة، بمفهومها الغربى، المستقر في الذهنية، وهذه الأشكال الجديدة وإن اعتمدت الموروث العربى ، إلا أنها تنطلق من المفاهيم المعيارية للقصة الغربية، لينتج هنا ما يسمى –على حد تعبيرى– بالقصة العالمية، الكونية، الجديدة، التى تستقى مادتها من المنجز الإنسانى، بعيداً عن الجغرافيا، والحتمية التاريخية، والاقتصادية، ولكنها بصدق: قيمة تعبيرية مضافة، تضاف إلى مسيرة السرد الإنسانى العالمى، بنكهة عربية، تعتمد التراث العربى مرجعية، والموروث العلمى والأدبى والتثاقفى للمنجز العربى الإنسانى، الذى لا ينفصل عن الإبداع الإنسانى في العالم.
وقد يقول قائل هنا: إنك أخرجتنا من المصطلح الضيّق، إلى أفق تهويمات عالمية، ولكننا ننشد الغائية النبيلة، لمبتدعى، ومبتكرى تلك الأشكال الجديدة، بضوابطها المعيارية التى تمايزها، بغية إنتاجية إبداع إنسانى جديد، يضيف إلى السابق، ولا ينفصل عنه، ويفتح أفقاً تنويرياً وتحديثياً وتثويرياً للغة السرد، لتضيف –ربما- مبحثاً جديداً لعلوم اللغة، واصطلاحاتها، في الإعلان عن أشكال وأنواع إبداعية جديدة، تضاف إلى الرصيد الإنسانى الإبداعى العربى، ليقف شامخاً –كما هو على مرّ العصور- في مصاف الإبداع العالمى المتنامى، والما بعد حداثى، المبتكر، والجديد، الذى ينتج أفقاً سردياً شاعراً، للذائقة الأدبية العربية / الكونية / الجديدة.
ولن يضيرالقصة الشاعرة/ أو القصص الشعرية –ولا فرق بينهما- كما أحسب - وصفنا لها، وتعريفنا لها بأنها: نوع ، أو شكل إبداعى جديد للقصة العربية، بنكهتها التراثية، وإحالتها التناصيّة، والنصيّة، وتموضعاتها التحديثية، بل إننا نحاول هنا ضبط منهجية جديدة، تعتمد فلسفة العلوم، كأساس للعلم التجريبى ، وللابداع الجديد، الذى يعلن عن نفسه في سماء الأدبية العربية والعالم أيضاً.
ومن هذه المقدمة النظرية السابقة، يمكن وضع إطار تأصيلى لمثل هذه الأشكال الإبداعية الجديدة، بغية التنظير للقصة الشاعرة فى شكلها الإبداعى الجديد، وليس الأجناسى، أو التجنيسى –كما أوضحنا- ولنا أن نضع قواعد ومعايير تمايزية لبنائيتها، واشتراطاتها الإجرائية، ولنا أن نوافق على كل، أو بعض مما أنتج، أو تم ابتكاره من قبل المبدعين الذين أنتجوا هذه الأشكال الجديدة، كما نثمّن تجربتهم التى أفادت في إنتاجية آفاق جديدة فضفاضة لفن الشعر، والقصة معاً.
كما يجب أن ألفت نظر كتّاب القصة الشاعرة إلى أن اعتبارية القيمة في القصة الشاعرة قد تنتج لنا قصة شاعرة تعليمية، أو تفسيرية، أو توجيهية للمجتمع، وهى غاية نبيلة ومعايير أخلاقية سامقة، لكننا قد نخرجها حينذاك من جانب الفنية التى لا تساير مثل هذا النوع التعليمى أو التوجيهى من القصص المنتجة؛ لذا على المبدع أن يكون حذراً في هذا المقام وعليه يتوجب أن يراجع شروط الفنية ومعياريتها، كى لا نفاجأ بقصص تعليمية، أو قصص توجيهية تخرجها من الأدبية والفنية إلى غائيات أخرى لا تتسق وغائية الفن المنتجة للإبداع، لأن الفن في ذاتيته قيمة وجودية، وعلى القارئ أو المستقبل للفن أن يخرج تلك القيم بذاته لا أن نقدمها له لنوجه المجتمع الى قصديات فردية قد تضلل القارئ وتبعده حتى عن تلك القيم التى يتغياها من الفن، حتى وإن كان موجهها لخدمة المجتمع، إلا أنه إبداع يخص المبدع وحده في الأساس وتبقى القيمة معيارية –غير اشتراطية– كى نفرق بين الشعر والنظم مثلا، أو بين القصة والخطابة، أو بين القانون المتبع في المجتمع بحقوق الفرد وواجباته وبين القيم والحقوق الجمالية والمعيارية لغائية الفن، وليس الفن للفن، بل للمجتمع كذلك، ولكن على المبدع أن يحدد أولا أنه ينتج فناً للمجتمع، وليس إبداعاً فنياً خالصاً أيضاً.
وانطلاقاً من هذا الإطار التنظيرى التأصيلى –كما أحسب– فإننا يمكن أن نبدأ في وضع توصيف لهذه الأشكال الإبداعية الجديدة – إن وافقنى النقاد - والكتّاب المبدعين لهذا الشكل الجديد للقصة الشاعرة، وغيرها – لنبدأ في عمل إجرائى تمايزى- يضع شروط هذا الشكل الجديد، ويخرج منها مستغلقات المفاهيم التى لا تنطبق مع منطق العقل، والنقد معاً، من مثل وصف القصة الشاعرة بأنها كالماء الذى لا يمكن إمساكه أو وصفه ـ فهل يعد هذا وصفاً للمنتوج الإبداعى الجديد، بقيمته المضافة، وتكويناته ومحدداته، وطاقاته التراكمية، والتكثيفية، والدلالية، وغير ذلك.
وإلى أن نبدأ في التقعيد، والتأصيل، فإننى أطرح هذه الرؤية، والتى - وإن أستشعر بداية - أنها ستفتح باباً من الجدل النقدى، إلا أنها ستثير بعض الرؤى والمفاهيم التى قد تضيف إلى الذين سيتناولون هذا الشكل المستحدث الجديد، قبل أن ننطلق لتنظيرات، من شأنها أن تهدم هذا الجهد الرائع للكتابة الجديدة، أو الكتابة الأخرى، للأشكال الإبداعية الجديدة، كما أرى، والله الموفق.