القاهرة 28 ابريل 2020 الساعة 01:43 م
طلعت رضوان
عانى البشرعلى مرالتاريخ من أعداء كثيرين..وفى القائمة كانت الحروب والأوبئة..واختارالأديب البيركامى (1913- 1960) وباء الطاعون ليــُـعبرمن خلاله على المعاناة الإنسانية، قبل القضاء على الوباء.
كامى وُلد فى مدينة وهران الجزائرية من أم إسبانية..وأب فرنسى..وتشبــّـع من الجذورالجزائرية..وحين اندلعتْ الحرب العالمية الثانية اضطرإلى مغادرة الجزائر(حبه الوحيد) وكما تحدى الاستعمارالفرنسى..ودافع عن استقلال الجزائر، دافع عن فرنسا لإيمانه بالتفرقة بين (مفهوم الوطن) وبين رؤساء الدول الذين قادوا حركة الاستعمارالعالمى..ولذلك وقف كامى مع فرنسا (الشعب والوطن) ضد الغزوالنازى..وشارك فى المقاومة السرية للاحتلال الألمانى..ولعلّ مواقفه الإنسانية بجانب إبداعاته، أحد أسباب فوزه بجائزة نوبل عام1957.
ونظرًا لما شاهده من أهوال الحرب..وانتشارالمرض بين المدنيين والعسكريين، لذلك كتب (رواية الطاعون) التى يتعبرها النقاد (سجل تاريخى) لهذا الوباء..وكانت البداية انتشارظاهرة الفئران الميتة..وتدورالأحداث فى مدينة وهران الجزائرية.
هذه الرواية صدرتْ عنها ترجمات عديدة فى أوروبا..وتــُـرجمتْ إلى اللغة العربية..وقد قرأتُ بعضها..ولكن الترجمة السلسة هى ترجمة د.كوثرعبدالسلام البحيرى، الصادرة عن مكتبة الأسرة عام2004.
صـدّرالمؤلف روايته بتعبيركتبه الروائى (دانيال دى فو) قال فيه: يتفق لدى العقل تشبيه نوع من السجن، بنوع آخر..وإنْ كان ليس هوالسجن المتعارف عليه..هذا السجن الآخرهوالواقع الجديد الذى سبــّـبه وباء الطاعون..وقيــّـد حركة المواطنين وحبسهم فى بيوتهم.
أخذ المُـبدع (وباء الطاعون) ليكون (مجرّد خلفية) لعدة محاورشملتْ انعكاس انتشارالوباء على تصرفات المواطنين..ودورالأطباء الذين تصدوا للمرض..ودور السلطة الحاكمة..ودورالصحافة..ولكن أهم محوركان عن المشاعرالإنسانية..وهل الوباء أثــّـرفى تلك المشاعرأم لا؟
ابتدع كامى (حيلة فنية) عندما بدأ الرواية بضميرالغائب..وأطلق عليه الراوى، ولكنه فى صفحات (من376- 386) يكشف عن أنّ (هذا الراوى) هوأحد الأطباء الذين اشتركوا فى مقاومة الوباء (د.ريو، د.رامبير، ود.تارو) والأخيركان الوجه النقيض لرئيس الكنيسة، الذى كان يخاطب جمهورالكنيسه فى مواعظه، بالاستشهاد بالتوراة عندما أرسل الرب الطاعون على مصرإنتقامــًـا لما فعله الحاكم ضد بنى إسرائيل..وأضاف القسيس (بانلو) وهويــُـحذرجمهوره: الطاعون يــُـوجــّـه أنظاركم لتبتعدوا (عن الخطية) وأنّ من فعلوا الشراعتمدوا على رحمة الله وغفرانه، فكان من اليسيرعليهم أنْ ينساقوا وراء شهواتهم، تاركين لرحمة الله تدبيرما بعد ذلك.
وأضاف الأب بانلوأنه حدث فى زمن الملك (همبرت) أنّ الطاعون اجتاح إيطاليا ويافا..ولم تــُـنقذهم إلاّرحمة السماء، أما العلوم البشرية (التافهة) فلم تــُـنقذ البشر. واستمرّتبعثرالدم البشرى..ولقد حانتْ ساعة التفكيرفى حياتكم..ولقد ظننتم أنه يكفى زيارة الله فى كنيسته..ولكن الله لايتهاون فى حقه..وقد ملّ من انتظارتوبتكم، وها أنتم قد عرفتم معنى الخطيئة..كما عرفها (قابيل) وكما عرفها قوم نوح ومن عاصروا الطوفان..وكما عرفها قوم لوط..وسيحدث لكم ما حدث لهم..وقال: منذ زمن طويل كان مسيحيو الحبشة يرون الطاعون ((وسيلة فعالة مرسلة من الله للوصول إلى الخلود..وكان الشخص الذى لم يصبه المرض، يــُـغطى نفسه ببطانية أحد المصابين لكى ينتقل إليه المرض..ويــُـقابل الله بتطهره من الخطيئة..وهكذا كان دورالكهنوت هوترويج الميتافيزيقا..ولذلك اختتم الأب بانلوموعظته قائلا: إنّ الطاعون يــُـرسله الله على البشرليتطهروا من خطاياهم..وذكــّـرهم بالمؤرّخ (متى ماريه) الذى اعترض على طاعون مارسيليا الكبيرفأدخله الله الجحيم.
فى المقابل رسم المبدع شخصية (تارو) الطبيب المستنيرالعقلانى، الذى تساءل عن (حكمة العقاب الجماعى) الذى ينزل على سكان مدينة، فقال له زميل من الأطباء: إنّ المسيحيين- وليست الكنيسة وحدها- يؤمنون بكلام الأب..وأنّ للطاعون حسناته..ومع ذلك فإننا نرى البؤس..والآلام التى سببها الطاعون..ونستسلم له..كأننا مجانين أوجبناء..وقال لزميله: لنترك أمرالسماء كما يقول راعى الكنيسة..ونسارع فى علاج مرضى الطاعون، بينما قال الأب بانلوإنّ الخطيئة متفشية فى العالم..وهذه هى النتيجة..وفى مشهد حضره بانلوشاهد فيه طفلا..وهويتألم من شدة مضاعفات المرض عليه..وهذا المشهد استمرّعدة ساعات..والطفل يئن من الألم، لدرجة أنْ تمنى له الطبيب الموت رحمة به..ولما اعترض راعى الكنيسة قال له تارو: أرأيت يا أبانا ما تــُـسمونه بالفضل الإلهى؟ وإذا كنت أيها الأب تتحدث عن الحب فإنّ فكرتى عن الحب بعيدة عن منظورك..وسأظل حتى الممات أرفض هذا العالم الذى يلقى فيه بأطفال ((تحت عجلات العذاب الذى يــُـحدثه المرض))
فى تطوردراماتيكى التحق الأب بانلوبمنظمة صحية..ودخل المستشفيات..ورأى المصابين بالطاعون..وهناك تذكرالطفل وهويصارع الموت..وتفاجأ الطبيب (ريو) بالأب يسأله: هل لرجل الدين أنْ يستشيرالطبيب؟ وأضاف: هذا السؤال موضوع موعظتى القادمة..وأرجوأنْ تحضرلسماعها..وهمس الطبيب لنفسه: هل سيتخلص الأب من الخرافات ويلجأ للطب؟ وتذكرلجوء الناس إلى (كتب النبوؤات) كلما ارتفعتْ مخاطرالمرض..وانتقال العدوى..وهذه الكتب ينسبونها إلى الأولياء والقديسين التابعين للكنيسة..وأنّ الصحافة شاركتْ الكنيسة فى الترويج لهذه الكتب.
وفى موعظته قال الأب بانلوإنّ الطاعون يــُـقوم بيننا منذ شهورطويلة..وقد عرفناه..وقاسينا من تبعاته..ولكننى أذكركم بأنّ الوباء (ينطوى على الكثيرمن الفائدة بالنسبة للمسيحى) وهوالأمرالذى ينبغى للمسيحى أنْ يبحث عنه. لاتندهشوا لأنه توجد أشياء من الممكن تفسيرها بالنسبة لله..والخيروالشرموجودان..والصعوبة تبدأ حينما يتعلق الأمربالشروحده..والمشكلة عندما نعلم أنّ شخصـًـا مثل (دون جوان) فى الجحيم عقابــًـا على مجونه..ولكن كيف نستوعب ما يــُـبرّرعذاب طفل بسبب الطاعون؟ وفى هذا التحول الدراماتيكى قال: إنّ الله وضعنا وجهــًـا لوجه أمام البلاء..وينبغى لنا أنْ نعثرعلى فائدتنا..ورأى أنّ الطفل الذى تعذب بسبب المرض، ولكنه سيعيش فى النعيم الخالد الذى سيــُـعوّضه عما لحق به من عذاب..وتساءل: من ذا الذى يستطيع أنْ يؤكد أنّ نعيم الآخرة يمكن أنْ يكون تعويضــًـا عن لحظة من عذاب البشر؟ إنّ الرب وضعنا فى تلك المفارقة التى تعتبرصلب المسيح رمزًا لآلام البشر. أما ما أثاردهشة جمهورالكنيسة، فهوقوله: يا إخوتى حانتْ اللحظة الحاسمة: إما أنْ نؤمن إيمانــًـا مطلقــًـا، أونكفركفرًا مطلقــًـا..ومن منكم يستطيع أنْ يكفربكل شيىء؟
اعتقد بعض مستمعيه أنه قد اقترب (من حدود التجديف) بينما واصل الأب موعظته وقال: الطاعة العمياء هى ميزة المؤمن بالقدرالإلهى..وإنّ الله أسبغ علينا- فى محنة الطاعون، إغراقنا فى ذلك النوع من الشقاء، الذى لابد لنا فيه من الإيمان بمقولة: إما كل شيىء أولاشيىء..وكان تعقيب الراوى إنّ هذا الكلام يــُـذكرنا بمؤلف أحمق قال أنه لاتوجد أنصاف (أوضاع) وبالتالى ليس هناك إلاّ الجنة أوالنار..وعلى الإنسان أنْ يختاربينهما..والعجيب أنّ الأب عندما سمع هذا الكلام قال: إنّ هذا إلحاد..ولايقوله إلاّصاحب نفس فاجرة..كما أنّ البعض يعتقد بوجود (خطايا تافهة) وهذا ضربٌ من العبث لأنّ كل الخطايا (من الكبائر) وكل تهاون هو إجرام، فإما كل شيىء أولاشيىء..وعندما سمع بعض الهمهمات داخل القاعة قال: إنّ فضيلة التسليم المطلق للقدرلايمكن أنْ تــُـفهم بمعناها الضيق..ولاحتى خضوعـًـا يصعب على النفس قبوله..ولكنها استكانة يرضاها لنفسه (عن طيب خاطر) ومن المؤكد أنّ عذاب الطفل أمريفرض على العقل الاستكانة..ولهذا يجب أنْ نرضخ لهذا العذاب، لأنّ الله قد أراده..وبهذا يكون المسيحى قد أطاع ربه..وأنه يختارالاعتقاد بكل شيىء..كى لايضطرإلى إنكاركل شيىء..وقال إنه سمع كثيرين يدعون الله وقالوا: اللهم أكثرمن الخراريج فى أجسادنا..وأنا أتمنى من كل المؤمنين أنْ يكونوا مثل هؤلاء، لنثبت أننا مؤمنين بالإرادة السماوية..واعلموا أنّ آلام الأطفال هوخبزنا المر..ولولم يوجد هذا الخبزلكان من الممكن أنْ تلقى نفوسنا حتفها.
وقال إنّ أعداء المسيحية فى بداية دعوتها كانوا يدعون السماء أنْ تــُـرسل الطاعون إلى المسيحيين..ولكننا اليوم نرى الذين يريدون (مقاومة إرادة الله) بمحاربة المرض الذى أرسلته السماء لامتحاننا..وهل نحن نؤمن بالقدرأم لا؟
همس الطبيب ريولزميله تارو: قرأتُ لأحد المؤرخين أنّ الطاعون انتشرفى القرن الثانى الميلادى..وقضى على الكثيرين بما فيهم الرهبان والقساوسة الذين لم يكن لهم عمل سوى الدعاء لنجاتهم..ولكن يبدوأنّ السماء لم تسمع توسلاتهم فماتوا، ولم تــُـفرّق السماء بين المؤمنين..وغيرالمؤمنين..ولأنّ الراوى تميــّـزبالحيادية والموضوعية..والتزم بنقل ما سمعه ورآه بأمانة، لذلك قال: إنّ الأب بانلولم يرفض احتياطيات الوقاية من المرض..ولكنه شـدّد على ضرورة أنْ نــُـسلم أمرنا لله، حتى فيما يخص موت أطفالنا بالطاعون..وذكــّرمستمعيه بما حدث مع الأسقف (بلزونس) أثناء وباء مرسيليا، حيث أنه قبل القضاء على الوباء، حبس الأسقف نفسه فى منزله ومعه الكثيرمن الطعام..وأحاط منزله بسوركبير(دون باقى المنازل) وهذا الإجراء انعكس على شعورالأهالى الذين كانوا يقدسونه، فغضبوا منه..وأحاطوا منزله بالجثث لكى يلوّثوه بالعدوى..وقد بلغ منهم الغضب لدرجة أنْ ألقوا إليه ببعض الجثث من فوق الجدران..وذلك لكى يتأكدوا من أنه سيموت بالعدوى..وأضاف الأب بانلو: وهكذا ظلّ الأسقف فى فترة ضعف..وكان قد ظنّ أنه قادرعلى أنْ يعزل نفسه عن دنيا الموت، فكان مصيره أنْ تساقطتْ جثث الموتى على رأسه من السماء، وهذه هى حالتنا، فيجب أنْ نقتنع بأنّ بحرالطاعون ليس به جزر..وليس هناك وسط ويجب أنْ نتقبل هذه الكارثة، لأنّ علينا أنْ نختاربين أنْ نكره الله أونحبه..وتساءل: من منا يجرؤعلى أنْ يكره الله؟
فى المقابل كان الطبيب المستنيرتارويقول لزملائه الأطباء: هناك آراء هـدّامة تقول أنه لاجدوى من أى شيىء..وواجبنا أنْ نقاوم هذه الآراء بالعمل..ونرفض أنْ نجثوعلى ركبنا..ويجب الكفاح بكل الوسائل العلمية المتاحة..ومن أجل ذلك بذل الطبيب العجوز(كاستل) مواصلة أبحاثه لإختراع المصل المناسب للقضاء على الوباء..وذكرالراوى (وهوصديقه وزميل الطبيب ريو) أنّ تاروكان يفضــّـل الدخول فى نطاق الحصارمع الآخرين..ولم يكن يخشى من انتقال العدوى إليه..حتى ولومات وحتى عندما أيقن بأنه قد أصيب بالعدوى..وبالرغم من أنّ زملاءه نصحوه بتوقى الحذرفإنه لم يكن يأبه لهذه التحذيرات..وكان يقول لصديقه ريو: انظرإلى عيون المصابين وهى تنظرإليك، لقد وضعوا ثقتهم وأملهم فينا نحن الأطباء، فهل نخذلهم؟
والطبيب تارو- بجانب أفكاره الليبرالية..وتعاطفه الإنسانى مع المصابين- كان من عــُـشاق المسرح والأوبرا..وذكرالراوى أنه بالرغم من كارثة المرض، فإنّ (مسرح البلدية) كان يعرض مسرحية (أورفيه الموسيقية) واستمرّهذا العرض يلاقى نجاحــًـا واستقبالامن الجمهور..وكان هذا العرض يــُـخفف من آلام الطاعون..وكان تارومن الحريصين على مشاهدة العرض..وعندما سمع الأب بانلويقول فى موعظته: إما الإيمان أوالكفرفإنّ تاروقال: إنّ هذا الكلام فيه جرأة..وفى نفس الوقت يدل على الحيرة والتمزق والقلق، أكثرمن تعبيره عن القوة، فسأله قسيس صغيرالسن: هل تقصد أنّ الأب بانلوكان متناقضــًـا مع نفسه؟ أجاب تارو بشكل غيرمباشرفقال: عرفتُ قسيســًـا فقد إيمانه أثناء الحرب العالمية (الثانية) عندما شاهد آثارالحروق والجروح على أجساد المدنيين والعسكريين..وأضاف إنّ مشكلة الأب بانلوأنّ إيمانه الدينى جعله يوافق على أنْ يفقد ذراعه أوعينه على أنْ يفقد دينه.. ولكن هذا الإيمان لم يمنع الأب- راعى الكنيسة- من أنْ يــُـغيــّـرمسكنه، مثله مثل باقى المواطنين، عندما تضاعفتْ قوة الوباء..وصارتْ أكثرضراوة..وفى تطورفى شخصية الأب عندما بدأ يشعربالحمى، فعرضتْ عليه السيدة التى استضافته أنْ تستدعى الطبيب ليكشف عليه، ولكنه رفض بإصرار..وعرفتْ منه أنه لايوافق على آراء الأطباء، وبصفة خاصة الطبيب الملحد (تارو) فاكتفتْ تلك السيدة بأنْ قـدّمتْ له بعض المنقوعات..وطلب منها أنْ تدعوله بالشفاء..ولكن الطبيب ريوعندما علم بمرض الأب ذهب للكشف عليه..واستقبله الأب بفتور..ولما فحصه لم يعثرعلى أى عرض من أعراض الطاعون..ولكن النبض كان ضعيفــًـا..وقال للأب: لايبدوعليك أى عرض خطير..ولكن حالتك تدعوللشك..ولن أتخلى عنك وسأظل بجانبك..واعتبرنى من أصدقائك، فقال الأب: شكرًأ..ولكن ليس لرجال الدين أصدقاء..ولقد وضعنا كل شيىء فى يد الله..وبالرغم من ذلك عندما ساءتْ حالته تـمّ نقله للمستشفى..واستسلم للعلاج الذى فــُـرض عليه.
ركــّـزالمبدع على إظهارالفرق بين الأب الذى رفض العلاج (الدنيوى) فى البداية..واتهم الطبيب تاروبالإحاد، بينما هذا الطبيب كان يعلم بمرضه..ومع ذلك واصل العمل وسط المصابين..وكان- كما قال صديقه راوى الأحداث- يــُـصرعلى مقاومة الطاعون..وكان يشعربالحيرة والتمزق النفسى..وهوأمام طلب كثيرين من المصابين بأنْ (يرحمهم) ويــُـخلــّـصهم من العذاب بحقنهم بأية مادة تــُـنهى حياتهم، فكان يقول لهم: إننى لا أملك حق إصدارأحكام الإعدام..وأنه ظلّ يشعربالخجل أمام بطش الطاعون..وفقد سلامة النفس وطمأنينتها..وقال: أنا لم أعد أساوى شيئــًـا فى هذا العالم..وقد علــّـمنى الطاعون (ميزة التواضع) وحكمتُ على نفسى بالمنفى المؤبد كالآخرين..وعندما قال له صديقه: وبالرغم من دورك فى مقاومة الوباء، فإنّ راعى الكنيسة أشاع عنك أنك لاتؤمن بالله، فقال: هذه هى المشكلة التى تواجهنا اليوم: الانشغال بالإيمان أوبعدم الإيمان..وتركنا الأوبئة تفترسنا، لأننا نتخلى عن الأساليب العلمية لمقاومة أى وباء..والمشكلة الثانية هى وجود أشخاص يمنحون أنفسهم (صفة القداسة) ويعتقدون أنهم يملكون الحق المطلق والصواب المطلق..وغيرهم على العكس ليس معهم غيرالخطأ المطلق..والمهم هوشجاعة الإجابة على هذا السؤال: هل نتضامن مع المصابين؟ أم مع القديسين؟
إنّ شخصية تاروأقرب إلى الفيلسوف منه إلى الطبيب، فهو- على سبيل المثال- عندما يتذكــّـرأمه يرفض أنْ يقول عنها أنها (ماتتْ) ويــُـفضــّـل تعبيرأنها (تلاشتْ) وبرّرذلك بأنّ أمه فى وجدانه بالرغم من تلاشيها..ولكنها ستظل باقية فى مداركه. وفى نهاية الرواية..وقبل أنْ يشهد الانتصارالنهائى على الطاعون، رقد على فراش المرض..وشرب الكثيرمن الماء..وأشرف على علاجه صديقه ريو(راوى الأحداث) بمعاونة أمه..وكان وهويلفظ أنفاسه الأخيرة يرسم ابتسامة، أشبه بوردة على وشك الذبول..وفى تلك اللحظة تفجــّـرتْ من عينىْ صديق ريو دموع العجزلتمنعه من رؤية تقلصات وجه صديقه فى لحظاته الأخيرة..وقالت أم ريو: الإنسان الذى يدفن صديقه لايمكن أنْ يعرف الهدنة..وكان ريو وأمه بجانب حبهما لتارو..كانا يحب كل منهما الآخر، ويفكران: من سيموت قبل الآخر؟ وقال ريوعن صديقه تاروأنه عاش..وهوعلى يقين من عقم ((حياة تخلومن الأوهام)) وأنه لاسلام بلا أمل..وأنه لم يشعربالأمل طوال حياته..ومع ذلك كان يعشق دفء الحياة وصورة الموت.
فى محورغاية فى الأهمية ركــّـزالمبدع على دورالمشاعرالإنسانية، فى مواجهة الوباء..والحاجة إلى التماس الشعوربالدفء البشرى..وذكرالراوى أنه شاهد الكثير من العشاق الذين تحدوا الوباء..ولكن أجبرتهم قواعد الحظرعلى التباعد..ووجدوا أنفسهم وقد ضرب بينهم الفراق بسورمنيع، حرمهم حتى من الترسل، بعد وقف وسائل المواصلات..والتضييق فى المكالمات التليفونية..فكان الزوج أوالزوجة أو الأبناء يكتفون بأربع كلمات: أنا بخيرفكرفى نفسك..وكان من بين الحالات حالة الدكتوركاستل وزوجته، فعندما وصل المرض إلى مرحلة خطيرة، تغلــّـبتْ المشاعرالإنسانية على الخوف من الموت..وما يصحبه من آلام الفراق..وكان الزوجان العجوزان كاستل وزوجته، قد تزوّجا منذ عدة سنوات..وأنّ الزوجة كانت قد توجــّـهتْ إلى مدينة مجاورة قبل الوباء بأيام..وبالرغم من توترالعلاقة بينهما فى السنين الأخيرة، فإنّ الوباء الذى منع اتصال بعضهما..والفراق المفاجىء العنيف، برهن لهما على أنهما لايطيقان العيش أحدهما بعيدًا عن الآخر..وإزاء هذه الحقيقة التى تكشــّـفتْ لهما فجأة، أصبح الطاعون فى نظرهما أمرًا غيرذى بال..وأضاف الراوى: هكذا رأينا المشاعرالتى كانت تملأ حياتنا..وكنا نعتقد أننا نعرفها..ولكن الجديد أننا اكتشفنا الكثيرمن الأزواج والعشاق الذين لم نكن نعرفهم..ولكن فى مقابل هذه الصورة الإنسانية، ظهرتْ صورة مغايرة مع توحش المرض..ومع الشعور بالوحدة، لم يكن أحد ينتظرالعون من جاره..وعاش كل واحد وحيدًا مع همومه الخاصة..وتطوّرالوضع أكثرعندما بدأت ظاهرة اقتحام البيوت، وانتشار السرقة ..وتبادل إطلاق النار، أى أنّ توحش الطاعون انتقل إلى توحش العلاقات بين المواطنين..ولكن عندما تأكــّـدوا من القضاء على الطاعون، عادت العلاقات إلى وضعها الطبيعى، بما فيها من خيروشر..وأخذ المواطنون يرقصون فى الميادين..ويطوفون مثل الحجاح حول الأماكن التى ذاقوا فيها العذاب منذ حلّ الطاعون بالمدينة..وصاروا يعرفون أنّ أهم شيىء يتمناه الإنسان هوالحنان.