القاهرة 21 ابريل 2020 الساعة 12:41 ص
وائل سعيد
شكلت قضـية الموقف الديني من الشعر والشعراء واحدة من القضايا التي شغلت الأوساط الثقافية والأدبية والدينية والاجتماعية، وقدتجلت في كثير من الكتب الدينية والأدبية والنقدية العربية، منذ مرحلة مبكرة من تاريخ الكتابة العربية وحتى الوقت الراهن، غير أنه وجب التوضيح أنه في تاريخ الثقافة العربية لم يعرف عن النقاد أنهم قسموا الشعر الجاهلي إلى شعر وثني وشعر ديني، ولا قسموا شعر العربية بعد الإسلام بحسب الأديان، بل لجأوا إلى المعايير الشعرية كما هي محددة في "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام الجمحي، وحتى في العصر الحديث، لم نعثر، كما يقول الشاعر محمد بنيس في كتابة "الحداثة المعطوبة"، لـ "عامل الدين في التقسيم على أثر، مهما كانت الرؤية التي انطلق منها نقاد الأدب ومؤرخوه، ومهما اختلفوا في معايير التقسيم والتصنيف".
ولهذا فلا مجال للمعيار الديني العقدي في الحكم على الأعمال الشعرية، وتكفير أصحابها لمجرد أنهم استلهموا بعضا من النصوص القرآنية المقدسة في أعمالهم، لأن هذا هو أس الأصولية الدينية التي تكفر كل شيء يقترب من الدين الإسلامي، معززين بذلك وهم "الأدب الإسلامي"، المنكر للثقافة العربية القديمة، والجاهل بالحدود المعرفية، وهذا للأسف هو ما نشهده في السنوات الأخيرة مع المد الأصولي، وتكفير العديد من الشعراء، وبل حتى الفنانين، لمجرد أنهم تجرأوا على استلهام القرآن في أعمالهم، ولا أدل على ذلك من تكفير الشاعر المصري أحمد الشهاوي أكثر من مرة، ورفع دعاوى قضائية عليه، والشاعر والأديب اليمني عامر السعيدي، وكذلك الفنان مارسيل خليفة، وغيرهم من الأدباء والشعراء والفنانين.
لعلاقة الشعر بالدين وجوه متشعبة، يحكم بعض صيغِها التوَتر والتعارض، ويوجه صيغاغيرها نزوع الدين، في فترة ما، إلى إخضاع الشعر كي يغدو في خدمته، على نحو يجعل الثاني تابعا للأول، كما أن ثمة صيغا أخرى لهذه العلاقة، فيها تبدى سعيالشعر إلى استثمار لغة الخطاب الديني في البناء النصي، وفي إغناء الملمح الشعري مثلما هي الحال في تجارب شعرية عالمية اتخذت من الكتب المقدسة نصا غائبا. إن لهذه الصيغ، التي لا تستنفد كلّ تجليات العلاقة بين الشعر والدين، تحققاتها في الممارسة النصية، كما أن لها امتداداتها في التأملات التي انشغلت بصوغ رؤية نقدية أو فكرية عن موضوع العلاقة بين الشعر والدين.
ليس هذا التشعب هو كل ما يسم علاقة الشعر بالدين ويفتحها على احتمالات عديدة، بل ثمّة أيضاً، كمتا يقول الناقد المغربي الدكتور خالد بلقاسم، الجذور البعيدة لهذه العلاقة، سواء أارْتَبَطَ الدين، في هذه الجذور، بديانات التوحيد أم بديانات وثنية، وهو ما يجعل المعرفة بمَوضوع العلاقة بين الشعر والدين رهينةبالحفرعن تجلياتها في الماضي البعيد، بغاية استشكال هذه العلاقة وإنتاج معرفة ببعض قضاياها، قبل تأمل امتداداتها في الوضع الجديد الذي وجد الشعر العربي نفسه في مواجهته لما ظهر الإسلام.
تتعدد مواقع استشكال العلاقة بين الشعر والدين، بصورة تظهر تشعب قضايا هذه العلاقة، ذلك أن هذه القضايا تتعلق بمسافة نظرية وفكرية بين طرفين شديدي التعقيد. وهو ما يجعل كل تجسير لهذه المسافة مقترنا بتصور الشعر وبتصور الدين، وبالمعرفة التي ينتجها كل منهما. إن هذا التصور هو ما يتحكم في كل محاولة لبناء هذه العلاقة نظريا وفكريا. ولهذايمكن تعيين بعض مواقع استشكال هذا الموضوع انطلاقا من الأسئلة التالية: ما الفرق بين المعرفة الشعرية والمعرفة الدينية؟ ما موقف الدين من الشعر؟ وما رؤية الشعر إلى الدين؟ ما الفرق بين الشاعر والنبي؟ ما الحمولة التي اتخذها مفهوم النبوة عندما وجد طريقه إلى توصيف المنجز الشعري؟ كيف اشتغل المقدس في الشعر من خارج ما هو ديني؟ فيم ينفصل بناء اللغة الشعرية، بمختلف مستوياتها، عن بناء اللغة في القرآن؟
للتقرب أكثر من هذا الموضوع، خصصت مجلة "ذوات" الثقافية العربية الإلكترونية، الصادرة عن مؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، ملف عددها (62)، لموضوع "الشعر والدين:بين التجاوب والتوتر"، وهو ملف من إعداد الكاتب والناقد والمترجم المغربي الدكتور خالد بلقاسم، الذي قدم له بمساهمة بعنوان "الشعري والديني: اتصال أم انفصال؟"، ووزعه إلى المحاور التالية:بين المعرفة الشعرية والمعرفة الدينية؛ الدين والشعر في تداول المعنى؛ الشعر والدين: سيمياء الخلق بين الإمكان والتحقق؛الشعر وسؤال المقدس، وعرف مشاركة الباحثين العرب: الشاعر والناقد التونسي الدكتور منصف الوهايبي بـمقال بعنوان "بين المعرفة الشعريّة والمعرفة الدينية"، والناقدة اللبنانية الدكتورة نايلة أبي نادر بمقال "الدين والشعر في تداول المعنى"، والناقدة التونسية حياة الخياري بمقال "الشعر والدين: سيمياء الخلق بين الإمكان والتحقق"، والناقد المغربي الدكتور يوسف ناوري بمقال "الشعر وسؤال المقدس"، فيما تم تخصيص حوارالملف للشاعر المصري أحمد الشهاوي، لأن مجمل أعماله الشعرية انشغلت بجزء من القضايا التي تثيرها علاقة الشعر بالقرآن، ولأن ممارسة هذا الشاعر النصية حرصت على استثمار هذه العلاقة بنفس صوفي، مكن الجسد من حضوره ومن متعته في آن، زيادة على أنه تعرض للتكفير بسبب استلهامه للنص القرآني في أعماله الشعرية.
وإضافة إلى الملف، يتضمن العدد (62) من مجلة "ذوات" أبوابا أخرى، منها باب "رأي ذوات"، ويضم ثلاثة مقالات: "هل يمكن تجاوز العدوان باسم الديني؟" للباحث والكاتب المغربي الحسين أخدوش،و"مفهوم الشّعر ما بين الخَدَر الدينيّ والخَدَر العاطفيّ" للشاعرة السورية فرات إسبر، و"الأدب ونزيف اللّغة: تأمّلات جمالية في كتابة هلينسكسو" للكاتب الجزائري محمد بكاي؛ ويشتمل باب "ثقافة وفنون" على مقالين: الأولللكاتب والباحث السوري يوسف الشوفي بعنوان: "في الهوية والاغتراب: بين "ذئب البوادي" و"موسم الهجرة إلى الشمال""، والثاني للكاتب والباحث المغربي محمد رزيق، بعنوان: "مقامات وانكسارات في رواية "صيف جليدي"".
ويقدم باب "حوار ذوات"، لقاء معالقاص والرّوائي المغربي محمد مباركي، الذي أغنى المكتبة العربية بمدونة سردية مهمة، تمتح من الواقع وتنغمس في أقاصي الذات الإنسانية بما هي تشكيل مجتمعي متولدة عن إخفاقات المجتمع وتناقضاته؛الحوار من إنجاز الكاتب المغربي محمد أعزيز.فيما يقدم "بورتريه ذوات" لهذا العدد، صورة عن الشاعر والناقد المغربي الدكتور محمد بنيس، رائد الحداثة الشعرية بالمغرب، وأحد أهم الأصوات الشعرية والنقدية في المغرب والعالم العربي، الذي يعود له الفضل في إرساء العديد من المبادرات الفكرية والثقافية المهمة، من بينها مجلة "الثقافة الجديدة" و"بيت الشعر في المغرب"، المؤسسة التي أعطت للشعر والشعراء بالمغرب صوتا مخصوصا، محمد بنيس الرقم الصعب في المعادلة الشعرية بالمغرب والعالم العربي،الذي اختار مقاومةالقبح والفساد، وتأثيث العالم بالإبداع والجمال، وممارسة الإصلاح عن طريق التنوير والفن، ولو تطلب ذلك الآماد البعيدة؛ البورتريه من إنجاز الشاعر والكاتب المغربي عبد السلام المساوي.
وفي باب "سؤال ذوات"، يستقرئالكاتب والمترجم اليمني رياض حمادي، آراء مجموعة من الشعراء والنقاد العرب حول سؤال: لماذا يتّكئ الشاعر العربي على النص الدينيويشتبك معه حتى اليوم؟وفي باب "تربية وتعليم" يتناول الأكاديمي المغربي المهتم بقضايا التربية، الدكتور أحمد سوالم موضوع "درس التّاريخ والتفكير النقدي"، فيمايقدمالأكاديمي والباحث التونسي محمد الكحلاوي، قراءةفي إصدارات "مؤمنون بلا حدود" حول التصوّف، وذلك في باب كتب، والذي يتضمن أيضاً تقديماً لبعض الإصدارات الجديدة لمؤسسة "مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث"، إضافة إلى لغة الأرقام، التي تقدم أحدثتقرير لمنظمة اليونسكو، والمتعلق بتأثر التعليم بسبب إغلاق المدارس والجامعات،جراء انتشار فيروس كورونا المستجد عبر العالم.