القاهرة 07 ابريل 2020 الساعة 11:21 ص
كتب: عبد الباسط سنوسي
كان علي حتماً، أن أحبها بتطرف داعشي، وأن أنازِل الحياة كما يحلو لها.. وأن أَفرش جسدي الممشوق وسادة ناعمة الأحلام لعينيها..
وإن هز ورم الوطن رأسه أذبحهُ إغداقا. هو لا يعني للحبّ معنى خارج التقتيل والاغتيال، رافعًا رأسه حد السماء كأسطورة متشبعة تقف على شرفات قِصص ألف ليلة وليلة.. ذات ليلة يبتسم العشق مضرجا بأوجاع.. وكأن الوحدة خلقت له، ترديه بين رفرفة جفن وأخرى حزينا حد وطني!
كغليون أبي الذي ضاع مني، إثر آخر هزاتي خارطتي.. تحت عنوان "صفقة القرن"!
نادرة هي دمعة الرجل العربي، لثراء رجولته.. ولفرط شهامته.. هل يبكي الرجل لتنكيل العروبة به ، فتتمرد أدمعه ولا يتسنى له إلا الصمت أمام عمق الأشياء..
قالت لي تلك الأنثى المخملية ذات يوم وهي تمسك يدي بقوة ((أحبك يا رجل..)).
فاكتفيت بتجاهلها.
لم أبح لها أنّ وجعي عربي.. وأن عروبتي قد أبدعت بالتنكيل بي.
وأنّ درجة الخيبة بها تصل سقف سلم رشتر للهزات.
وبأن الرصاص قد تفنن في اختراق جسدي ليرسم عليه خارطة جديدة تشبه بيت لحم.
نزار ذلك الرجل، مات عشقا.. مثلما مات حليم حزنا..
تلك الحياة؛ تهب الحب وجعًا كما لو
أنّها تعوّضه عن سعادته العاطفيّة قدرا من الخذلان.
هو يبدع في كرهها. يرى في عينيها عليه مزيدًا من الخيبة له.
أوليس الوجع من لوازم أوطاننا في كلّ ركن منه يسلب منه ما هو أغلى؟
وهل الأوجاع خلقت لتكون عربية؟
يبقى الأصعب لنا، أن نعرف إن كانت الهوية العربية ماتت بموت الحب بزمن ليلى.. وما هو الأغلى بالنسبة لقيس قرن العشرين، وأن نتوقّع أن تُغيّر السنين فينا ما هو أغلى، وكيف لا، وصفة القرن تسدل ليلها مجالسة العمر تترشف معه فنجانا من القهوة.. هبوطاً إلى تلك الحقائق الموحشة..
أذكر جيدا ذاك اللقاء قبل سنين من اليوم، في خجلك المغترب تكمن أنوثتك. لم تكن تشبه لطف النساء، في زمن أصبحت به المشاعر تباع علنا في مقاهي الإنترنت وفي الموبايلات.
لم تكن طيفاً ضوئيا بل كانت مملكة تتربع عرش العشاق. كانت مختلفة بلهفة أول لقاء، فاتنة بأنفاسها وبعروق يدها الأنثى.. وبصوتها الذي يستبيح فتك رجولتي..
تترنم عواطفك بها دون خيار في أن تكون غير متيم حد الثمالة.. مذهلة في خدش حياء الشهوة درجة الدهشة، حسناء متنكرة بثوب ملاكٍ.
ترتجف أنفاسي حيناً، مربكة تلك اللقاءات، وقبل أن تنوي محادثتنا تختفي.. مثل الحكايا.. فتراني أباشر اللحاق بأماكنها، وما ألبث أن أجدها تعاود الانطواء.. تمدّ يد السلام لها تعانقها بغرابة أول لقاء بشفقة دون مبرر .. وكأنها تعلم أن الأيام أوجعتني! ثم تعاود الغياب، وتمسي إمرأة بكل ما أوتيت من قوة.. إمرأة يحكمها عرف الوطن والعروبة.. فيباشر عند ذاك الغائب في حاضرها بمكان ما.
عرفت مؤخرا أنها إمرأة تمتهن الحب، وحده من يصنع عروبتها..للحظات كثيرة أقف مكاني مذهولًا.
أيّ سحر تملك هاته المدينة؟ كيف تسنّى لها الجمع بين النضج والكبرياء، أن تكون مغتربة وعلى هذا القدر من الثبات؟
ليتني علاء الدين ومصباحه السحري تراني أقف على ذكراك، لتغفري لي ثمن صفقة لم ارتكبها... ندمت يومذاك لأنّي لم أصبر بكل ما أوتيت من قوّة، فقد لا أكون معك اليوم.. اتلقى جرعات من ناضرك الثري جدا.. والمريح حد السعادة.. كحقن إضافية لاستمر بين المرض وأنت تسكن العّلة.. مبهجة حد قهوتي.. بكل ذلك الخوف كنتي تبتسمين بثغرك الطازج مزهرة في وسط يرعبك.. بشَغفِ الغرابة وأحمر شفاهك المحشو بكمين الإغراء ينال بكل من صادفه شهيدا في سماءك وحدك.. وأنا الهارب مني إليك..حزنت لبعدك يا وردة يمضى بها العمر.. معتزلةً في حاضرها كل من صادفته من أنواع الرجال.. مائلة للأفول والذبول والغياب المستمر.. عن حاضر دون معنى.. تنتظرين دون جدوى.. ترهن سنون العمر حال الميت المحتضر.. لا تأبه لغضب من حولها.. على أدراج الذكريات، قبالة موانئ الأحلام، ومن على شرفات نهر الدجلة والفرات، كانت هنالك كراسي حزينة جدا تشتاق للقاءات بعيدة جدا.. بعد عينيك.. كراسٍ هنا وهناك.. موجعة تماما .. كئيبة المنظر كالفراق ،تنتظر مصادفات جديدة تلون حياتها، وأكواب قهوة ذابلة حد الضجر، وشموس ترحل في تلك المساءات الضيقة باختناق يقف طيفك هناك كالحقيقة وتراني جالسا على أحد كراسيها مجردا من أنا، بطاولتك الجورية المفضلة المحجوزة باسمك.. حتى أن صاحب المقهى لم يغير موديل المقهى خوفا من أن يخدش الذكريات.. وكأنه يقصدنا أنتظرها علها تأتي من حيرتها. امتهن في غيبوبة ذكرياتك صبري على أحر من لهفة فأتلمس الوهم كالحقيقة..
فيقدم لي النادل قهوتين محجوزتين باسمي.. واحدة منها سادة كما تحبها، فالعراق تجيد البكاء على الورق..
الكائن اللطيف الذي بداخلي
أتخيله في كثير من الأحيان
مثل مسافر.
آخذًا بالركض جميعه كي يصل وجهته
في الوقت المناسب.
وحينما يصل يتفاجئ
بكل الأشياء التي حملها معه عن طريق الخطأ.
هذا الحزن الخارج من حقيبته..
لا ينبغي أن يكون حزنه.
هذه الغربة التي تعثر بها سابقًا عن طريق الصدفة.
حملها معه ظنًا أنه قد يستعملها في وقت لاحق.
حينما يتألم المرء ويعاني
يأخذه صمت لا يعرف له نهاية.
والغريب في كل ذلك،
أن العالم
نهايتًا؛
يعجبه هذا الأمر...
لي رغبات بشيء من النسيان، وأحلام بنكهة الذكريات، يأتي بها القدر كحاضر بمفتاح يحقق الأماني..
فيغيب الشرود من خلف بستان الألم معلنا ربيع قبلات بعد طول غياب..
أتعلم ما الله؟
أن تصادف حبا كنت تعلم أنك لن تلتقي به مجددا، الله حرارة عناق بعد ذلك الغياب..
لا أحد يختار رعاية وردة احتفلت بأعياد فلانتاين في قبضة رجل آخر.. حتى إنها تختار العنوسة والتساقط بدلا من الكذب الماكر لدى كثير من نساء الأرض..
وحدها زهرة المدائن من تختارتني في غيابي ونفت حاضرا لا يعنيها.. وسكنت منفى في وطن كاذب الحريات.. وحين تمطر الأحلام أُلملمك تماما كطفلٍ مسيح، وأسدل شعرك من ثوبك ليرتوي مطرا، فالمطر يغسل الذنوب.. كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس..
أتعلمين أنا اللاشيء في عينيك كان يثير قلقي فوضى مشاعرك ، كثرت الاستثناءات الملفتة والغريبة أحيانا.. أدمنتك حد العبادة..
أذكر جيدا أنك قد رفضتني وقبّلتني حد التناقض.. آمنتي بي بكيت لأجلي. تركتني ودعتني وشقتني.. كابرتي نفسك وعاودت الاتصال.. فوضى أحاسيس كانت تخترق مملكتنا الجميلة جدا والأنيقة..
لأعيش دونك يشتهى حبيبة الفؤاد...
أتذكر جيدا ذكرى ربيعنا حين إسرائي على معراجِ ثغرك ، والساعة تخدش حياء الوقت مشيرة إلى الله إلا ربع قبلة، وسلطة المعصية تكبت شذى أنفاسك.. ومقبرة أوجاعي تسكن مذاق شفتيك.. صليت أبحث عن محمدٍ فيك والإنجيل.. بكيت.. يا بريئة بقلب بتول.. ونهر النيل يسجل الذكرى.
في قلب تشرين التفت برأسه يطالع شرفات الجزائر، حلق صوب تلك النائمة بوله وخريف عينيها يتساقط هجرا، حشوت جسدي الهزيل بما تبقى من مضجعها جنونا أمسك خصلات شعرها المبللة بحب، برفق، بلين، بعناية أمي..
أتعلمون يا عشاق، ذلك الشعور وأنت تحدق بمن تحب.. وسكون الليل يحتل أضواء بغداد.. وحده القمر من ينازلك شرف البقاء.
هي فقط لحظة قيد أنملة ويتنفس الصبح، دخلت أحلامها الثملة والهشة، تسلقت سلالم أوجاعها، وأشعلت أنوارها الباهتة كضوء شمعة.. ما كنت أعلم أنّ حزنها عميق.. عميق جدا بهذا القَدر.. كنت شارداً في زنزانة هيام بقضية جنون نافذ والملائكة تزج بداخلي ذكراك.. خلف قضبان الشوق أسامر تنهيداتها. سحبت خصلة من شعرها عبثا وجلست أداعبها بيدي تماما كما تحب، دخلت أحلامها مجددا ودخل معي عالمي، دخلت كل أوطاننا العربية، ودخل كل ماكان بيننا.. عساها تشرق شمس العروبة يوما..