القاهرة 17 مارس 2020 الساعة 10:02 ص
بقلم: د. محمد السيد إسماعيل
يقال إن الرواية هي سيرة العالم أما الشعر فهو سيرة الشاعر الفرد فهو الذى يعبر عن خلجات ذاته وتعددية رؤاه والشاعرة ميمي عبد الجليل شاعرة لها صوت خاص لا يتماهى مع غيره من الأصوات الشعرية وتمتلك لغة طيعة شاعرية وإيقاعا منضبطا وقدرة على التعبير عن حالات الذات المتداخلة المتقاطعة وديوانها الذى يحمل عنوان "ماوحشتكش" يقدم مجموعة من التجارب الشعرية من خلال الأسلوبين الخبري والإنشائى خاصة الاستفهامي والعنوان نفسه يحمل هذا التداخل بين الأسلوبين فمن الممكن أن ننظر إلى " ما" فى بداية العنوان على أنها أداة نفى وبهذا يكون الأسلوب خبريا وعلى أنها أداة استفهام فيكون الأسلوب إنشائيا لكن متن القصيدة يميل إلى كونها أداة استفهام من خلال العلامة الدالة على ذلك.
هذه المزاوجة بين الأسلوبين تتوازى مع التداخل بين الشعر والغناء والسرد ولنستمع إلى قولها "طب مشتاقتش للصحكاية / وللسهراية / طب مشتاقتش تبقى معايا / ف الشتواية / كنا بنسهر نحكى حكاوى / كنت تغنى فجأة تقولى / ردى ورايا" ففى هذه السطور سوف نلاحظ إشارات الشاعرة إلى غواية السرد وسحر الغناء خاصة فى الليل الذى هو مسرح الأحلام.
وتواصل النفوس المحبة وللشاعرة حساسية متميزة فى استخدام المفردات اللغوية من قبيل توظيفها لما يوحى بالتصغير والتأنيث من قبيل الضحكاية والسهراية والشتواية غير أن الأمر لا يقتصر على الدوال المعبرة عن السرد بل إن الشاعرة توظف البنية الحكائية كما يبدو فى قصيدتها التالية "الطفل المدلع جدا" التى تستخدم فيها ضمير الغائب وتبدأ مباشرة بذروة الحدث" كسر اللعبة / سهر عينها / وهد كيانها وكتف ايدها / بعد م غلبها وعذبها / صار يتخبط مش متظبت / زعق صرخ / قال للناس اللعبة القادرة / كانت غادرة / جاب قوانين الدنيا بحالها / علشان يثبت إنه كرهها لسوء أفعالها"
نحن إذن أمام شخصية رجل لاه يعامل المرأة كأنها لعبة يمكن أن يكسرها فى أي وقت مدعيا أنها كانت غادرة رغم يقينه بعشقها له لكنه أراد أن يجرب لعبة أخرى وهكذا يظل فى حالة من الاضطراب بين حبه الأول وحبه الجديد وهو ما يحقق درامية القصيدة ورغم عودته لحبه القديم فإنه لم يعد ذلك الطفل البريء "كان قلبها مليان بالحسرة / ضاع الطفل الساكن فيه / كان نفسها جواه تلاقيه / كان بيدارى دموع فى عنيه" وتظل راغبة فى استعادة الطفل الذى كان لكنها تدرك أن هذه الطفولة هي العقدة التى تسببت فى تدميرها وتدمير اللعبة الثانية " عملت كل حاجات تراضيه / نفسها يرجع طفلها تانى / حتى ان كان فى اللعب انانى / وكسر كل ايدين اللعبه / أصل الطفل اتدلع جدا "
ورغم أن قرار الذهاب والعودة فى يد هذا الطفل الذى بلغ سن الرجولة دون أن تتغير طبيعته اللاهية فإن المرأة هي الأقوى حيث تنظر إليه بوصفه طفلا مدللا لا يعرف قيمة ما بيديه وأن الكسر الذى تسبب فيه قد طاله هو الآخر "لما كسرها قلبه اتكسر برضو معاها" وهكذا نجد تطورا سرديا من حدث إلى آخر وتصويرا لأعماق سخصية كل من المرأة وطفلها المدلل. وفى قصيدة "وبشهادتك" نجد ذلك التوحد الشكلي والروحي بين المرأة العاشقة وحبيبها وكأنهما "توأم": "وبشهادتك / أنا مطبوعة على شكلك / ووشى اللى قصداد الناس / بقى نصه اكيد وشك / ملامحي دايبة فى ملامحك وروحي خفيفة تشبهلك"
والتوحد بين الحبيبين تيمة شعرية موروثة تقول الشاعرة واصفة هذا التوحد الروحي "بقينا روح ومقسومة / م بين جسدين / ومتشابهين " كما توظف مايسمى بشعرية التفاصيل التى تبدو فى قولها" أنا بفهم عيونك لما تندهلى وبعرف امتى تتعصب / وانا جاياك على مهلى / وبعرف قهوتك امتى وسكر شايك المضبوط" ثم تنتقل إلى حالات التشابه بين الحزن والفرح" أنا وانت بنشبه بعض ف الأحزان / بنشبه بعض فى الايام / وف الأوجاع وف الأحلام" وقصص الحب الكبيرة تتحول إلى حكايات تروى وهو ما توظفه الشاعرة حين تقول " انا وانت حكاية وتايهة فى الملكوت " أو "أنا وانت حكاية عمرها م تموت " وفى قصيدة "يمين الله" يبلغ الحب مداه حين تتعشق الشاعرة اسم حبيبها فتقول "يمين الله / انا عاشقة حروف اسمك وعاشقة هواك وعاشقة انى اجيب سيرتك" وهو ما يذكرنا بقول قيس "أحب من الأسماء ما شابه اسمها / ووافقه أو كان منه مدانيا" ويستدعى الحب وجود اللائم والغريم وهو ما تشير إليه الشاعرة فى " هو انت ايه ؟" :" عامل لقلبك طوق / طب قصدك ايه ؟/ انى أبيع عشرتك وانسى الهوى والشوق / ولا أخون سكتك واعيش حياتي وافوق / ده انا عشت عمرى اعشقك بالعند فى اللايمين" ويرتبط الحبيب بالضياء والرمش الجارح " بسهر انادى الشوق / وامد ايدى لفوق / اتمنى اطول ضيك / رمشك جرحنى بذوق / وانت اللى مين زيك"
وتقدم الشاعرة صورة طريفة حقا حين تقول "خدك مخدة شوق" وتتأكد الرؤية الدينية للشاعرة فى إيمانها بهوان الدنيا وخداعها "دنيا بتخدعنا وبتبعنا / دايما متفقة على خداعنا" ويتجاوب مع هذا نعى الزمان: "الزمان ده مش اصولجى / يعنى دنيا مش تمام / الايافة للناضورجى واللى يتهانوا الكرام " لكن الشاعرة لا تستسلم لتناقضات هذا الزمان بل تقف على النقيض منه :" انا ضحكة ف قلب الويل / تخلى الورد بيفتح / انا النسمة ف عز الحر بتطيب / وانا بسمة نهار مكسور ومتغيب"
وتستخدم الشاعر الكنايات الشعبية مثل "طوب الأرض حبه" و" العيش والملح" وتوظيف العادات الشعبية مثل استخدام البخور لطرد الحسد واستخدام إيقاع التكرار وغيره.
هذه بعض سمات الكتابة الشعرية للشاعرة المتميزة ميمى عبد الجليل.