القاهرة 17 مارس 2020 الساعة 09:43 ص
بقلم: د. محمد سمير عبد السلام
"التوهة" عنوان للعرض المسرحي الذي قدمته فرقة المنيا القومية المسرحية ضمن موسم 2020 المسرحي؛ والعرض عن مسرحية الشاعر، والمسرحي المبدع أشرف عتريس؛ وهو أيضا مؤلف أشعار العرض وأغانيه، وأخرجها للمسرح الفنان محمد جمال سليمان؛ وفريق عمله من الفنانين؛ مثل الفنان عماد التوني كمخرج منفذ، وساعد في الإخراج الفنانون محمد سيد، وعصام أسامة، وخالد حسن رشدي؛ ولحن الأغاني الفنان ماهر كمال، والديكور والملابس من تصميم الفنان محمد علي؛ ومن أبطال العرض الفنانون، والفنانات؛ محمد ربيع (عجيزي)، وسيد حسني، وياسر فؤاد، ومجدي أبو زيد، ومحمد سمير الكردي، وعاصم عمر، وإسراء جمال، وليلى قطب، وزينب طه، وصفاء قطب.
وقد استعاد المؤلف الشاعر أشرف عتريس، قصة حسن ونعيمة من التراث الشعبي المصري في سياق درامي يجمع بين أصالة الماضي، وتجدد الأسئلة الثقافية، والفلسفية حول مصير كل من حسن، ونعيمة الذي يبدو مؤجلا في النص، أو يحمل دلالات وجودية تتعلق بقراءة الهوية الفردية وتأويلاتها الممكنة، أو دلالة الاحتجاب المصاحبة لفكرة زمنية الكينونة، وعلاقتها بالغياب في تصور مارتن هيدجر؛ فنعيمة تؤول وجودها الشخصي من داخل غنائية حسن الطبيعية، وحسن يتطور بصورة دائرية طبيعية في النص، والعرض؛ ويذكرنا بغناء أورفيوس المجرد، وتجدده في الفضاء الطبيعي، والأسطورة رغم الغياب المحتمل.
ويجمع نص أشرف عتريس بين أصالة العودة إلى التراث، وأجواء القرية القديمة في بنية المكان، والأنماط السكونية للعلاقات الاجتماعية، وشعرية الحوارات الكثيفة التي تعزز من التفسير الإبداعي للماضي، وأثره الجمالي المجازي في وعي المتلقي، كما يعيد النص إنتاج العلاقات البنائية الأولى للقصة على المستوى الزمني، ويضيف بعض الاستبدالات التي تجمع بين الحلم، والواقع أحيانا في بنى الشخصيات، وفي مستوى تطوير الشخصيات دراميا في بنية النص؛ فعلى المستوى الزمني يوحي نص أشرف عتريس بدلالة التجدد في العلاقة بين كل من المسيطر، والهامشي؛ وكأن بنية قصة حسن، ونعيمة – في الذاكرة الجمعية – قابلة للتحول ضمن نمط آخر مختلف للعلاقة بين المسيطر، والهامشي في عالم القرية؛ فالهيمنة الصاخبة القديمة لخطاب المسيطر في بنية الحكاية الأولى، قد تحولت في نص التوهة إلى علاقة استنزاف دائرية مؤجلة النهايات الحاسمة، كما عززت من فاعلية الهامشي/ الغنائي بدرجة كبيرة في خطاب نعيمة، وصرخة التمرد الوجودية في نهاية العرض؛ والتي توحي بتجدد ثيمة الغنائية الطبيعية، وفاعليتها الهامشية التي تعيد طرح السؤال الثقافي حول هامشية الهامشي نفسه في تاريخ الفن والثقافة والذاكرة الجمعية؛ وهي علاقة تذكرنا بتصور رايموند ويليامز – في الدراسات الثقافية – حول فاعلية الهامشي ضمن علاقته البنائية المتجددة بالمهيمن؛ فصوت حسن في التوهة يستعصي على الموت الحاسم، وصرخة نعيمة تتجدد في وعي ولاوعي المتلقي؛ وقد أجادت في تجسيدها الفنانة إسراء جمال بصورة تذكرنا بالأداء التمثيلي الذي يستعيد روح الآخر الشخصية الفنية عند ستانسلافسكي في كتابه إعداد الممثل.
أما البناء الفني للشخصيات، واستبدالاتها، وتطورها الدرامي، فقد اختلف في خطاب أشرف عتريس الدرامي في النص؛ إذ ارتكز على الحضور الشعري للشخصيات، والتقاطب، أو التعارض البنائي بين الغنائية الطبيعية التي يمثلها حسن، ونعيمة، وفريق حسن، ووالدته، ووالد نعيمة، ومشاعر الشر السحرية اللامعقولة؛ ويمثلها الدجال، وصديق حسن، وسعدية، ووالدة نعيمة، والعمدة؛ وقد عزز النص من بعض الاستبدالات الجمالية التي قد تذكرنا بشبح شخصية ابن صبيحة التي اقترنت بقصة حسن في التراث الفني الدرامي؛ وأداها ببراعة الفنان محمد توفيق في فيلم حسن، ونعيمة الذي كتبه عبد الرحمن الخميسي، وأخرجه هنري بركات سنة 1959؛ وذلك ضمن العالم الداخلي لشخصية ابن العمدة في نص أشرف عتريس؛ ورغم الاختلاف بين الشخصيتين في العلاقة بالبطل / حسن، وبمصيره، فإنهما يتشابهان في الغرابة، والجنون؛ وهو ما يؤكد عبور النص للبنى الزمكانية، مع حرصه على تأكيد الأصالة.
وقد أسهمت أغاني العرض التي كتبها المؤلف الشاعر أشرف عتريس في الكشف عن العالم الداخلي لشخصية حسن؛ ومن ثم فريقه الذي يتداخل مع الصوت الإنساني القديم المتجدد للمجموع في بنية المكان، وتاريخ الفن، كما قد أسهمت الأغاني في بناء التوقعات المرحلية المتجددة حول تطور الحدث الدرامي في العرض المسرحي؛ فمن الأغاني التي مهدت للحلم، والخوف معا في صوت حسن، وفريقه أغنية يقول فيها الشاعر أشرف عتريس بصوت حسن الدرامي، والفريق:
"نهرب ونتوه / نكدب على بعض، وبنصدق / عودنا الخوف / والخوف بقى عادة بتسرقنا / وزمان الغربة بيسرقنا / ولا يعرف حد، ولا يعرف حد / بحسب عدد السنين / فات كم سنة ع الحلم....".
لقد ولد الخطاب الغنائي لحسن، من صوت فريقه، ومن الازدواجية بين مخاوف الغربة، وتجدد حلم الحب البسيط الطبيعي من التراث، والذاكرة الجمعية، ومدى عبور غنائية حسن للزمكانية؛ وقد بدأت علاقة حسن بنعيمة في التصاعد عقب تلك الأغنية التي بدت كنبوءة بصراعات قادمة، وبتجدد لغنائية حسن من داخل الصراعات الاستباقية التي تجلت أيضا في تصاعد نغمات اللحن الذي أبدعه الفنان ماهر كمال؛ إذ تصاعدت الموسيقى بصورة توحي بولادة حلم حسن، ونشوئه المتجدد، وبصخب الصراع الكامن في بنية حلم حسن نفسه.
وقد أبرزت رؤية المخرج الفنان محمد جمال سليمان حالة التقاطب بين حسن، وفريقه، ونعيمة، ووالدها من جهة، وسعدية، والعمدة، ووالدة نعيمة، والدجال، وصديق حسن من جهة أخرى؛ وذلك من منظور يجمع بين الأصالة، والتشكيل التعبيري للمشهد، والكشف عن عوالم ما وراء الواقع، ونماذج اللاشعور الجمعي التي تذكرنا بعودة الخيال الأدبي القديم، وتجدد العلامات الأسطورية في تصور نورثروب فراي في كتابيه الخيال الأدبي، وتشريح النقد؛ وتجلت أصالة الفضاء في شعرية العلامات التي تشير إلى أجواء الريف المصري، واستخدام الحصير، وتشكيلات الحوائط البسيطة مع وجود بعض الفجوات في كل من منزل نعيمة، ومنزل حسن؛ وأرى أن هذه الفجوات تحمل قدرا من التجريب في البنية السيميائية للفضاء؛ إذ تدل على الانقسام الداخلي في كل من منزل نعيمة، ومنزل حسن؛ فهي تعد نبوءة بوأد الحب، والغنائية، وحجب نعيمة فيما وراء أسوار العمدة؛ وتجلى المنظور التعبيري في المزج بين ملابس الدجال السوداء، وفريقه، والإضاءة الحمراء، وارتفاع حضوره فيما وراء التلال على المسرح؛ وكأن حضور الدجال / دور الفنان ياسر فؤاد مؤجل في ذلك الارتفاع الذي يصل شخصية الدجال بنماذج اللاشعور الجمعي، وفضاءاته الخيالية التي لا تنفصل تماما عن الواقع؛ فقد تصاعدت نغمات الشر الداخلية في وعي ولاوعي سعدية / دور الفنانة ليلى قطب مع الدجال في نوع من الهارموني، أو التناغم في نهاية المشهد؛ وكأن شخصية سعدية تتصل داخليا، وواقعيا بفضاء الدجال، وسنجد تكرار هذا الاتصال في التوافقية الصامتة بين مؤامرة سعدية لحجب نعيمة – في النهاية – والحضور الصامت للدجال / الفنان ياسر فؤاد فيما وراء منزل العمدة؛ فالنماذج القديمة للشر مازالت في حالة من الفاعلية الخفية / التعبيرية في الفضاء السيميائي التجريبي للعرض المسرحي؛ وقد بدا ذلك واضحا أيضا في حضور نعيمة الذاتي الأخير فيما وراء الحاجز الشفاف الذي يعكس هويتها الفردية الأنثوية، وصرختها التي تجدد النماذج الغنائية القديمة في أسطورة أورفيوس مثلا؛ فعلامة الحاجز تكشف عن قوة نعيمة الفردية، واحتجابها في الوقت نفسه.
هكذا كشفت رؤية المخرج الفنان محمد جمال سليمان عن تعددية الفضاء المسرحي التجريبية، وقد نفذها مصمم الديكور الفنان محمد علي، وأسهمت في تحولات الحدث، والعوالم الداخلية للشخصيات باتجاه تجاوز النهايات الحاسمة؛ فتيه حسن يؤكد استمرار أغانيه على هامش الحدث، وظهور نعيمة فيما وراء الحاجز الشفاف، يوحي بمراوحتها بين الظهور والغياب، أو تحولها كنموذج في وعي، ولاوعي المشاهد.
ونلاحظ أن تقنية الاتصال الروحي في لحظات الصمت طبقا لمنهج ستانسلافسكي بدت واضحة في بعض المشاهد؛ مثل مشهد قهر سعدية لنعيمة، وخضوع حسن لقوى الشر في صديقه، أو في ارتفاع عصا العمدة باتجاه حسن، وفي اتصال وعي سعدية بحضور الدجال في الفضاء المرتفع من الخشبة، أو نفاذ صرخة نعيمة فيما وراء الفضاء الخيالي الذي يتحرك حسن باتجاهه في النهاية.
وأرى أن العرض قد أعاد إنتاج العلاقات البنائية لقصة حسن ونعيمة بصورة جديدة، توحي بتجدد الدلالات الثقافية، والوجودية للقصة طبقا لأخيلة النص، وتجدد السياق الثقافي النسبي بين تأويل الحقيقي، وأخيلة الوعي، واللاوعي.