القاهرة 11 مارس 2020 الساعة 09:24 ص
كتبت: سماح ممدوح حسن
ربما نستطيع تصنيف رواية "اختلاط المواسم، أو وليمة القتل الكبرى" للكاتب الجزائري "بشير مفتي" على إنها رواية رعب، لكن ليس ذلك النوع المعروف من روايات الرعب المتخمة بالجن والعفاريت.
لا يتمثل رعب هذه الرواية فى أحداث القتل، أو فى وصف التفاصيل التى يُجهز بها القاتل على ضحايا. إنما الرعب يكمن فى الحقيقة إلى حد ما، حقيقة تلذذ البشر بالقتل، فما كان القاتل (المتصالح مع حقيقة نفسه) ينتشي إلا برؤية الدم ومفارقة الروح لجسد صاحبها، حقيقة أن الشر هو طابعهم الأصيل وليس الخير، وما نما فيهم بعض الخير، والذى يكون مظهريا على الأغلب، إلا لعادات اجتماعية وقوانين فرضة عليهم التظاهر بالخيرية. والدليل على ذلك، تلك الحروب والمعارك والمشاجرات العنيفة التى تنشب بين البشر لأتفه الأسباب، أو حتى من غير أسباب.
لم يكن لشهوة القتل لدى بطل الرواية لحادث آلمّ به فى الصغر مثلا، فحوله إلى هذا الوحش البشري، بل على العكس كان. ولد لأبوين على قدر لا بأس به من الارتياح المادي، ومحبان لبعضهما بعضا، ولم ينجبانه إلى بعدما تأكدا من رغبتهما فى ذلك. لكن هذا لم يكن كفيلا بمحاولته لقمع نزعات الشر، أو كما هو مقتنع، حقيقته ولا غير.
ذكرني كتاب "بشير مفتي" بتجربة علمية "بحث فى علم النفس" قامت به إحدى الباحثات الأوربيات، وفى التجربة، قامت العالمة نفسها، والتى قررت أن تجعل نفسها مادة التجربة، وقفت بلا حراك فى أحد الأماكن وسمحت للمارين بفعل أي شيء يخطر على أذهانهم وهى لن تأتي بأي ردة فعل تجاه أيهم، ولن يحاسب أيا كان لاقترافه أي فعل مهما كان مؤذيا لها.
وبدأ الجمهور فى أول الأمر بلمسها بطرق لطيفة، كالمصافحة، ثم بدء بعضهم يلكزها بخفة أيضا، وفى وقت متقدم من التجربة بدء الناس بصفعها وضربها بشدة، ثم تجريدها من ملابسها والتحرش بها، والقلة هم من حاولوا اطعامها أو تغطية جسدها بما تبقى من ملابسها، والأقل هم من بكوا عليها.
اثبتت التجربة أن العديد من البشر، إذا ما آمنو العقاب لن يتوانوا عن اقتراف الشر فى أبشع صوره. وهكذا كانت قناعة بطل الرواية الراسخة، والذى استمر حتى النهاية فى ممارسة ما هو متيقن أنها حقيقته حتى النهاية.
(هنيبال) فى الجزائر
يشبه القاتل فى رواية "اختلاط المواسم، شخصية "هانيبال" الطبيب النفسي فى رواية "التنين الأحمر" للكاتب "توماس هاريس" وكان هنيبال طبيب وقاتل يتلذذ بالقتل ويتلذذ أكثر بأكل ضحاياه. الرواية التى تحولت إلى الفيلم الأمريكي الشهير "صمت الحملان" وكان الدكتور هنيبال هو أيضا يتبنى نفس وجهة نظر القاتل فى هذه الرواية بالنسبة للطبيعة الوحشية للبشر.
الجزائر ومدينتي (تيزى، وزو) كانت هي مسرح جرائم "القاتل" الذى بدأ بتحرير وحش القتل فى نفسه منذ سن التاسعة عندما قتل قطة أمه بكل تلذذ وسعادة، حتى تحينت له الفرصة فى الكبر، وقد كانت "وليمته الكبرى للقتل" عندما كانت الجزائر تواجه إرهاب الإسلامين فى التسعينيات، وانضم حينها الشاب القاتل إلى فرقة أمنية (قانونية) للقضاء على هؤلاء الإرهابيين، والتى وجد فيها نفسه وشخصية الحقيقية ومتعته الأثيرة، بالتأكيد أكثر مما وجد فى مقاعد الدراسة التى لم يكملها فى القانون. وكانت تلك هى الفترة التاريخية الأبرز فى الرواية، والتى دارت كل حيوات الشخوص خلالها بالكامل، ربما هي واحدة من أسوأ الفترات التاريخية فى الجزائر والتى شهدت حصد أرواح العشرات مِن مَن لم ا أي ذنب أو جريرة.
وبعدما انتهت تلك الفترة وانتصرت الدولة على الإرهاب، وبعد أن كاد ينهار لآن انتهاء تلك المرحلة أتى عليه بالويل، فقد حُلت الفرقة الأمنية التى كانت تقوم بعمليات تصفية الإرهابيين، حينها أتاه المنقذ، أو السيد (ع) والذى كان رئيسه المباشر فى فرقة الإعدام. لكن هذه المرة جاءه الرجل منشدا تكوين فرقة إعدام خاصة، لتحقيق المكاسب من ورائها، وقد كان.
وقوع ما لم يكن بالحسبان
طوال حياته السابقة لم يمر على خيال القاتل، ولا حتى فى أحلامه، أن يحب. فكانت مثل تلك المشاعر ما هي إلا محض هراء ووهم، اخترعه البشر حتى يخبئوا رواءه حقيقتهم الوحشية الأصلية. لكنه أحب، سميرة قطاش، تلك الفتاة التى دفعت ثمن آثام أخلاقية واجتماعية، وتناقضات يغرق فيها مجتمعها، فظلت طوال عمرها تنشد وتدافع عن الحرية وهى عاجزة على ممارساتها. وفى رحلتها قابلت رجالا أحالوا حياتها جحيما حتى أفضو بها إلى الانتحار.
الانتحار بيد الحبيب (القاتل) لكنه أيضا عرف كيف ينتقم لها.
التقاء المصائر
هنا ننتقل إلى الجزء الثاني من الرواية، حيث ظهور الشخوص التالين للقاتل، كأول ظهور لغيره. سميرة قطاش، الحبيبة، التى فتح باب حكيها للقاتل عن حياتها، باب لنتعرف منه على بقية الشخوص، والذين سينقم منهم القاتل بالقتل، والذى كان يتوق إليه بالأساس. وعرفنا كيف التقت مصائر الجميع وانتهت على يد شخص واحد (القاتل).
عرفنا هنا عن شخصية أستاذ الفلسفة (المتناقض والمنافق الأكبر) والذى ربما، يمثل نموذجا لكثيرين من رجال العرب. ذلك الشخص المتنور المنفتح العقل، صاحب التجارب، والخبرات. المجرب العارف. المنفتح على كل الآراء بحرية أوربية وربما أكثر، فقط حتى تمسه تلك الحرية بشكل شخصي.
فبعد أن كان يتباهى بمغامراته النسائية فى الداخل والخارج، ما إن أوهمته الخطيبة "سميرة قطاش" كذبا، بأن لها مثل علاقاته، تركها. وكانت هذه أولى خيبات آمالها الكبرى.
ثم الأستاذ الجامعي أيضا (ومعلمها) صادق سعيد، والذى أحبته حبا جما، وبكل صدق، لكنه لم يرتض منها بغير جسد وعلاقة عابرة.
ثم شخصية "فاروق طيبي" ذلك الذى أحبها بصدق ولم تستطع أن تعرض عليه سوى علاقة لا تحمل ذرة حب، فقط نكاية فى صديقه، صادق سعيد، وهذا ما فطن له فاروق، فانتحر.
أما عن الشخصيتين الأخريين، أحدهم ذلك الذى ظل يراودها كثيرا ولما رفضت اغتصبها بعنف، وهو من بدء به القاتل، والذى لقنه جزاءه، بقتل وتمزيقه بخنجره. أما الآخر فكان ذلك العاطل الذى تعرفت عليه فى سنة يأس بعد حادث الاغتصاب البشع وأقام معها علاقة ليبتزها بها. وهذا أيضا لقى جزاءه على يد القاتل.
نهاية تليق.
لقى كل أبطال الرواية نهايات أنبئت عنها بداياتهم. قتل الشخصين اللذين لم يقلا فى وحشيتهما عن القاتل، هذا اغتصبها وذاك ابتزها. انتحر الحبيب المخلص بعدما يأس من حبه الأعظم والوحيد. وجُن صادق سعيد، الأستاذ الجامعي، بعدما عرف بخبر انتحار صديقه، وبعدما خسر زوجته وحبيبته، وانتحرت سميرة قطاش بشكل شاعري كما تمنت على يد من أحبها وبالطريقة التى اختارتها ونظمتها بنفسها، أما القاتل برغم حبه لها، وحبه الأول والأخير، لكنه نفذ قتلها بغاية السرور والشهوة.
وعاد القاتل كما بدأ، مجرد قاتل يمارس طبيعته التى هو مقتنع تماما بأنها الطبيعة الأصلية للبشر، وشرع فى استئناف العمل فى القتل مع السيد (ع).