القاهرة 03 مارس 2020 الساعة 09:15 ص
طلعت رضوان
المـُـبدع الروائى الكبيرنجيب محفوظ (1911- 2006) كتب أكثرمن رواية مـُـستلهمـًـا موضوعها من تاريخ مصرالقديمة..ومن أمثلة ذلك روايته (عبث الأقدار) التى صدرتْ طبعتها الأولى عام1939، أى كان عمره28سنة..ورواية (رادوبيس) عام1943، ورواية (كفاح طيبة) عام1944، بخلاف ترجمته لكتاب (مصرالقديمة) عن اللغة الإنجليزية..وصدرتْ طبعته الأولى عام 1932.
أردتُ بهذا الاستهلال التأكيد على أنّ محفوظ..وهوفى مرحلة الشباب اهتـمّ بالتاريخ المصرى القديم..وعندما قرأتُ رواياته عن تلك الفترة التاريخية..وقارنتُ المعلومات الواردة فيها، بما ورد فى كتب (علم المصريات) اكتشفتْ أنه قرأ الكثير من الكتب عن الحضارة المصرية..وعن نضال جدودنا ضد الغزاة..كما جاء فى روايته (كفاح طيبة) التى تناول فيها فترة احتلال الهكسوس لمصر..والنضال الذى قادته أسرة (سقنن- رع) ووالدته (تيتى- شيرى) وبعد وفاة سقنن- رع، جاء الدور على ابنه الأكبر(كاموس) وبعد وفاة كاموس، كان الدورعلى (أحمس) وفى هذا المحوريبرز دورأمهما (اعح- حتب) التى تولــّـتْ تشجيع ابنيها الصغيريْن، بل وتحريضهما على الاستعداد لطرد الهكسوس من مصر.
ولذلك ركــّـزمحفوظ على دورأم كاموس وأحمس، بعد أنْ قــُـتل الأب (سقنن- رع) فى ساحة القتال..وكذلك أبرزمحفوظ دورالجدة (تيتى- شيرى) وفى الصفحات الأولى من الرواية، جسّـد ما جاء فى كتب علم المصريات، عن الانطباعات السائدة لدى الغزاة الهكسوس، فأورد على لسان أحد قادتهم..وهويقول لزميله: إنّ هؤلاء المصريين يكرهوننا..فردّ عليه: نعم..كما أنّ التفاهم لاجدوى منه معهم..وعند هذا الحواربين قائديْن من الهكسوس، فإنّ محفوظ – بملكة الإبداع- أشارإلى الطبيعة الهمجية لهؤلاء الغزاة..وأنّ أصل كلمة هكسوس فى اللغة المصرية (حقا- خاسوت) أو(الحكام الأجانب القذرين) وأنهم من البدوالرعاة..وأشارمحفوظ إلى أنهم طلبوا من الملك المصرى (حاكم طيبة) أنْ يسمح لهم بإقامة المعبد الذى يعبدون فيه إلههم (بعل) والذى هوأحد آلهة الساميين، وخاصة عند الكنعانيين.
ومن المشاهد المهمة فى رواية محفوظ ، الحوارالذى داربين ملك الهكسوس، الذى أراد أنْ يتشبــّـه بملوك مصر، فكان تعليق البطل كاموس: إنّ قائد الهكسوس ((ينظربجشع إلى شعورنا القومى..واعتزازنا بحضارتنا)) وأضاف كاموس وهو يــُـوجه حديثه إلى جنوده ((عليكم أنْ تتذكــّـروا دائمًـا، أنّ الرعاة قوم نهب وسلب)).
فقال أحد قواد الجيش المصرى: إنّ الغزاة من البدويستهدفون سرقة الذهب، وبعد ذلك يسلبوننا حريتنا. فقال كاموس: ما جدوى الكلام؟ علينا أنْ نستعد لتحرير وطننا..وعندما تقابل مع أمه (اعح- حتب) ساندته فى ضرورة تجميع أكبرعدد من الفلاحين لينضموا إلى الجيش المصرى..وعن الجدة (تيتى- شيرى) كتب محفوظ أنها- كانت تشارك أم كاموس الرأى..وشجعتْ حفيدها على مواصلة تجهيزالجيش لطرد الغزاة البدومن مصر..وأضاف محفوظ أنه بالرغم من تعديها سن الستين ((كانت تــُـديم المطالعة فى فى كتب (خوفو) و(كتاب الخروج إلى النهار) وتاريخ العهود المجيدة، التى خلــّـدها أبطال، أمثال الملوك (مينا) و(امنمحات) وباقى ملوك مصرالعظام)) وأضاف محفوظ أنه ((كان للملكة (تيتى- شيرى) شهرة عظيمة فى جنوب مصركله..وأنّ جميع المصريين- من النساء والرجال- يعرفونها ويحبونها، بل ويقسمون باسمها المحبوب..وذلك لأنها بثــّـتْ فيمن حولها- وعلى رأسهم ابنها الملك (سقنن- رع) وحفيدها (كاموس) حب مصرجنوبها وشمالها..وكراهية الرعاة المغتصبين، الذين ختموا العهود الجليلة أسوأ ختام..ولقــّـنتْ الجميع أنّ المطلوب الالتفاف حول حفيدها (كاموس) بعد وفاة والده (سقنن- رع) بهدف تحريروادى النيل من قبضة الرعاة المـُـستبدين..وأنها أوصتْ الحكماء ومدرسى المدارس، أنْ يــُـذكــّـروا الناس بشمال مصرالمغتصب..وبالعدوالغاصب..وما ارتكبه من آثام فى حق مصر..واختتم محفوظ هذا المقطع بقوله: هذه هى الأم المقدسة (تيتى- شيرى) أم سقنن- رع) وجدة (كاموس وأحمس) وكان معها فى النضال زوجة ابنها (اعح- حتب) التى دارحواربينها وبين ابنها (كاموس) الذى قال لها: إنّ قائد الهكسوس يريد أنْ يستولى على (طيبة/ الأقصر) كلها، فسألته: وماذا أنت فاعل يا ابنى؟ فقال: لن نستسلم يا أمى. فسألته من جديد: وهل تقدرعلى الحرب يا ابنى؟ فقال: نعم يا أمى. لدىّ جيش باسل. فسألته: وهل يستطيع هذا الجيش أنْ يخلــّـص مصرمن الأغلال؟ فقال: فى المرحلة الأولى يستطيع أنْ يصد عن مملكة الجنوب عدوان الرعاة.
وذكرمحفوظ ما جاء فى كتب علم المصريات، عن رغبة الهكسوس فى تشييد المعبد الذى يعبدون فيه الإله (ست- رمزالشرفى الأساطيرالمصرية) بجانب إلههم الكنعانى (بعل) الذى كان منتشرًا لدى الشعوب السامية..وبصفة خاصة فى بلاد الشام وآسيا الصغرى، ولكن كاموس ردّ عليه: بأنّ أهالى الجنوب يتمسكون بآلهتم المحلية..واجتمع كاموس مع أهالى طيبة وقال لهم: يا أهالى طيبة المجيدة، لعلّ عدونا- فى هذه الساعة التى أحدثكم فيها- يحشد جيشه على حدود مملكتنا، ليقتحم علينا ديارنا، فاستعدوا للكفاح. فصاح الجميع: ليحمى الرب كاموس ابن مليكنا العظيم سقنن- رع..وتذكركاموس أنّ والده (سقنن- رع) قال له- قبل أنْ يستشهد فى الحرب: اسمع يا كاموس إننا مقبلون على حرب ضروس..ونرجوأنْ نفوزفيها، حتى نــُـحرّربلادنا..ونخلصها من البدوالهمج.
وفى أشارة لها دلالة غاية فى الأهمية، صاغ الأديب الكبيرنجيب محفوظ حوارًا بين الأب سقنن- رع وبين ابنه الأصغر(أحمس) حيث سأل الأب ابنه: من العدوالذى يجب أنْ نحذره يا أحمس؟ فقال الغلام (بالرغم من صغرسنه) اليأس..وذلك لأنّ أمه (اعح- حتب) وجدته (تيتي- شيرى) قد زرعا فى عقله ووجدانه- منذ طفولته- أنْ لا يستسلم لليأس عندما يكبر..ويــُـشارك فى الحرب ضد الهكسوس بجانب شقيقه كاموس.
وأشارمحفوظ إلى معركة خسرها الهكسوس..وكان السبب أنّ هذه المعركة دارتْ على سطح سفينه..وانّ البدوالرعاة ((لايــُـتقنون فن القتال على سطوح السفن)) وهنا تأكيد – بلغة فن الرواية – على الفرق بين حضارة الزراع، الذين أبدعوا فى مجالات كثيرة..ومن بينها مهارة صناعة السفن..وبالتالى مهارة ركوب البحر، بينما البدوالرعاة لم يفلحوا فى شيىء أكثرمن صناعة الأسلحة، حتى يتمكــّـنوا من غزوالشعوب الآمنة، كما فعلوا عندما احتلوا مصر وغيرها من الدول، ولذلك حرص كاموس– فى أكثرمن مشهد– على أن ْيقول لجنوده، وهو فى ساحة المعركة: عليكم المحافظة على تراثنا القومى والتمسك به، مهما كانت الظروف، لأنّ التمسك بالتراث القومى، هوالوقود المحرّك لعجلة الدفاع عن الوطن.
ولذلك عندما انتصرجيش الهكسوس فى إحدى المعارك، كتب محفوظ: أطبق جيش الرعاة على الجيش المصرى..ودارتْ عجلة الموت..ولكن المصريين بذلوا كل ما يستطيعون من ((طاقة بشرية..ومن بسالة وبطولة)) وبالرغم من تساقط الكثيرمن الأبطال، فإنّ التضحيات لم تتوقف..وكان كاموس يقف فى وسطهم لا يهاب الموت..كما كان والده (سقنن- رع) الذى مات وهويحارب وسط جنوده، مثله مثل أى جندى..وتعمّـد محفوظ – فى إشارة دالة- على أنْ يشيرإلى أنّ كاموس لم يكن وحده الذى يبث فى جنوده الروح الوطنية..وإنما كان معه فريق من القواد الوطنيين العظام، مثل القائد (أوسر- آمون) الذى قال للجنود: لا تسلــّـموا طيبة أبدًا مهما كانت الظروف..ولنقاوم حتى نموت..كمليكنا سقنن- رع. إنّ أسوارطيبة لايمكن اقتحامها..وأضاف محفوظ أنّ القائد (أوسر- آمون) أصرّعلى توضيح أهدافه الوطنية..ولذلك قال لجنوده: نحن مسئولون عن حياة أهل طيبة..ولوأنّ الرعاة الهمج تمكــّـنوا من اقتحام أسوارها، فسوف يــُـخربون مبانيها وآثارها، لأنّ من طباعهم التوحش وعدم التحضر..وإذا حدث ذلك فستكون النتيجة تشريد الآلاف من مواطنينا المصريين..وتعرضهم للجوع والبؤس..ولذلك يجب أنْ يكون هدفنا – لوحدث ذلك- تخفيف آلامهم ومحاصرة الدمار.
وفى عدة مشاهد غاية فى الأهمية..وصف محفوظ – بأسلوبه الأدبى الرفيع- ماحدث عندما وقعتْ ابنة قائد الرعاة ضمن الأسرى..وكيف أنّ القائد المصرى (كاموس) عاملها معاملة إنسانية، بالرغم من غرورها وصلفها وتكبرها، فكان (كاموس) يتغاضى عن كل ذلك..ولم يـُـقابل سلوكها معه بالمثل..وإنما طلب من جنوده معاملتها بلطف..كما هى تقاليد تاريخنا فى التعامل مع الأسرى..وعندما أرسل أبوها ملابسها الخاصة لترتديها..وهى فى فترة الأسر، فإنّ كاموس لم يعترض..ووافق على تسليمها ملابسها.
وتعرّض محفوظ لحياة الصيادين المصريين..وكيف أنهم قـدّموا الدعم والمساعدة للجيش المصرى..وبأسلوبه البديع كشف– بطريق غيرمباشر- أنّ الصيادين كانوا– فى أوقات فراغهم يشربون البيرة (حنكت بالمصرى القديم) وأنّ هذا المشروب هوالمشروب الشعبى طوال تاريخ الحضارة المصرية.
وبالرغم من أنّ الرواية تدورحول النضال المصرى، ضد الغزاة البدوالهمج، الذين وصفهم (كاموس) بأنهم (بلا عقل ومثلهم مثل الدواب) فإنّ المبدع الكبيرلم يــُـفوّت الفرصة- أثناء الهدنة بين الجيش المصرى..وجيش الهكسوس- ليــُـشيرإلى خاصية من خصائص الثقافة القومية، للمصريين طوال فترة الحضارة المصرية، وهى خاصية كثرة الموالد التى تــُـقام لآلهة الأقاليم..ومنها الإحتفال السنوى لآمون فى مدينة طيبة..ووصف محفوظ ما يحدث فى هذا المولد، الذى قال عنه أنه (عيد) بالنسبة للشعب المصرى، حيث الرقص والغناء..وتوزيع الطعام (من الموسرين) إلى المحتاجين..وأنّ هذا العيد القومى تــُـشارك فيه النساء مثلهنّ مثل الرجال، ولذلك- فى إشارة دالة وموحية من الأديب الكبير- ذكرأنّ النساء شاركنَ- بجانب الرجال- فى النضال لتحريرمصرمن قبضة الرعاة الهمج.
وبعد أنْ استشهد (كاموس) فى ساحة المعركة..ولحق بوالده (سفنن- رع) ليعيش حياته الثانية فى (مملكة أوزير) الذى يستقبل الموتى..ويستمع إلى شهادتهم أمام رب الحكمة (توت– أوتحوتى) والذى يرفع تقريره إلى أوزير..والمتضمن أنّ هذا المرحوم (كل متوفى فى الحضارة المصرية، اسمه المرحوم) كفة أعماله فاضلة ويستحق دخول (حقول اليارو= الجنة بالمصرى القديم) أوأنّ كفة أعماله غيرفاضلة وبالتالى يستحق أنْ (يبتلعه عم– موت) وعندما جاء الدورعلى (كاموس) أصدر أوزيرأمره بدخوله (حقول اليارو) ليمسك الفأس ويزرع ويحصد..كما يفعل الفلاحون فى الحياة الدنيا.
وبعد وفاة كاموس جاء الدورعلى البطل القومى (أحمس) الذى جاء تحريرمصر من الرعاة على يديه..وهنا يتعاظم دورالجدة (تيتى- شيرى) ودورأمه (اعح- حتب) ولذلك بمجرّد طرد الهكسوس من مصر، فإنّ أحمس أراد تكريم أمه، فكتب بردية أشبه (بالوصية) طلب فيها من الشعب أنْ يستمرحبهم وتستمرطاعتهم لأمه- وأم كل المصريين، لأنها وبفضلها تـمّ تحريرالوطن..وجاء- وفق نص البردية:
الثناء الدائم لسيدة البلاد..وملكة شواطىء المناطق النائية.
إنّ اسمها يرفرف على كافة البلاد الجبلية.
وهى التى تتخذ القرارات الخاصة بشعبها.
إنها زوجة الملك، فليمنحها الإله الصحة والقوة.
وهى على بينة بكل الشئون التى تخص مصر.
إنها الملكة الأم المبجلة.
لقد جمعتْ بين نبلاء مصر..وعملتْ على تضامنهم معا.
وقد أعادت الفارين..وجمعت المنشقين.
وجعلتْ السلام يسود مصرالعليا.
ودحرتْ المتمردين.
اع- حتب.. فلتتمتع بالحياة .
لم يكتف أحمس بكتابة تلك البردية..وإنما منحها (وسام الذبابة العسكرى) فكانت أول امرأة فى التاريخ تنال وسامًـا عسكريـًـا..كما منحها خنجرًا صغيرًا منقوشا عليه بعض الحيوانات والطيور.
وهكذا صاغ محفوظ تلك الملحمة النضالية/ الواقعية بأسلوبه الأدبى الرفيع.