القاهرة 11 فبراير 2020 الساعة 09:42 ص
حوار: ياسمين مجدي
• التراث القبطي حافظ على ألحان وموسيقى مصر القديمة
• لابد من وضع خطة عملية للمحافظة على المخطوطات القبطية الموجودة بالكنائس والأديرة
يذكر عصام ستاتي في كتابه القيم "مقدمة في التراث القبطي" معرفا بالتراث القبطي: "إن الفولكلور القبطي يعنى - بكل بساطة - الفولكلور المصرى, فالقبط هم الشعب المصرى قبل وبعد دخول الإسلام مصر, ومخطئ من يربط بين المسيحية والقبطية: لأن المسيحية دين والقبطية قوم. ومن ثم فإن البحث فى الفولكلور القبطي هو بحث فى الهوية المصرية: فى مكوناتها الإنسانية والمعرفية منذ ما قبل التاريخ, ما قبل العقائد والأديان.
وهذا البحث ليس فى تاريخ الكنيسة أو فى تاريخ المسيحية فى مصر ولا حتى فى الدور الوطني للكنيسة رغم أهمية ذلك. إنه ببساطة شديدة بحث فى الثقافة الشعبية التى تمارسها طبقة بالمعنى الجيولوجي من طبقات المجتمع المصرى, بل يمارسها المصريون عامة سواء كانوا مسيحيين أو مسلمين"
ومن هنا قررنا الإبحار في عالم التراث والفلكلور القبطي الضخم والهائل على مدار عشرين قرنا من الميراث المادي والمعنوي والفني الذي لا يمثل شركاءنا في الوطن – الأقباط – ولكن يمثل قصة شعب عريق وحضارة لا مثيل لها، مع الكاتب والباحث والصحفي الأستاذ روبير الفارس الذي يعد أحد أهم من تناولوا التراث والفلكلور القبطي وليس من خلال أبحاث علمية ولكن أعمال أدبية رائعة تعتبر خير مثال للتلاحم الوطني بين كل أطياف الشعب المصري منذ عهد الفراعنة وحتى اليوم.
• التراث القبطي جزء لا يتجزأ من التاريخ المصري، في رأيك ما هو التعريف الدقيق للتراث القبطي؟ وما هي أهم إشكالياته؟
التراث القبطي يتضمن الميراث الثقافي لأقباط مصر وهو ميراث خلفه أجدادهم على مدار عشرين قرنا وهو ميراث ثري ومتعدد ومتنوع ويشمل تراثا ماديا يظهر في عمارة الكنائس والأديرة ومحتوياتها من المنحوتات والصور والأيقونات والمخطوطات وتراثا شفاهيا يظهر في الأغاني الروحية متعلقة بروحانيتهم من تراتيل ومدائح وتمجيد للقديسين وسيرهم وقصص شعبية ومواويل والموسيقي وتراثا مكتوبا يتضمن تفسيرات للإنجيل وأقوال الآباء في الحكم والوعظ المكتوبة باللغات القبطية واليونانية والعربية.
- وتكمن أهمية هذا التراث في أنه هضم الموروث الفرعوني في داخله وأنتجه باللغة العربية التى تعلمها الأقباط بعد دخول الإسلام مصر؛ أما إشكاليات التراث القبطي فلها حديث طويل:
- فالنظرة إليه بكونه مرتبطا بالأقباط على أنه تراث ديني مسيحي ظلم أكاديميا وعلى مستوي البحث العلمي؛ الأمر الذى أدى إلى تجاهله، كما أدى إهمال آثاره المادية إلى اندثار عدد كبير من الأديرة والكنائس في الوادي والصحاري. كما نهبت العديد من المخطوطات القبطية وهربت وسرقت لتضمها الآن مكتبات عدة أشهرها مكتبة الفاتيكان. وهذا التراث يلاقي أيضا تعنتا كنسيا في جزئه الشعبي، فالجزء الشعبي أضاف قصصا خرافية لسير القديسين وأمور لا تتفق مع العقيدة. وعندما تقوم الكنيسة بتنقية كتب التراث بها مثل كتاب السنكسار، وهو كتاب يضم سير قديسين وشهداء الكنيسة مرتبة بشكل يومي حسب تقويم الشهور القبطية يتم حذف هذه الأجزاء الشعبية من القصص والترانيم وبالتالي يتم فقدها؛ لأنه لا أحد يهتم بها أو يجمعها في كتب منفصلة عن كتب الكنيسة الرسمية وهو من الأمور التى حفزتني لجمع هذا التراث.
• هل هذا هو السبب الذى لأجله قدمت كتابك "في الفلكلور القبطي" الذى أصدرته وزارة الثقافة بمصر عام 2007 ؟
- نعم هذا هو أحد الأسباب، فقد انتبهت إلى أن كتب مدائح شهر كيهك، وهي المدائح الخاصة بالعذراء مريم. وكانت الكتب تجمع المدائح بشقيها الكنسي والشعبي، إلا أن الطبعات الجديدة أصبحت تحذف الجزء الشعبي وذلك لأن الكنيسة حريصة على أن تكون كتبها سليمة من الناحية العقائدية؛ أما المؤلف الشعبي فيهتم بالخيال الواسع والمبالغات والقصص التى ترضي عشقه للعذراء مريم كما تعبر عما يعرفه سواء أكان هذا المعروف صحيحا عقائديا أم خطئا. وأنا كباحث يهمني جمع هذا المحصول الفلكلوري فقمت بتدوينه حتى لا يُنسي مع الأيام وتذكرت المواويل والأغاني التى كانت ترددها والدتي وزوجة خالي – رحمها الله- في الموالد الشعبية الخاصة بالعذراء مريم ومارجرجس والشهيدة دميانة، وسجلت لهم ما حفظتاه، ونشرت بعضه في الكتاب. ويلاحظ أيضا أن ظاهرة الموالد التى تقام للقديسين بشكلها الشعبي، مثل موالد العذراء مريم في أديرة جبل الطير بسمالوط بالمنيا ودير المحرق بالقوصية بأسيوط ودير جبل درنكة ودير الجنادلة بأسيوط والأنبا شنودة بسوهاج والست دميانة ببراري بلقاس ومارجرجس بميت دمسيس والرزيقات، وهي قرى ومدن مصرية اقترب هذا الشكل الشعبي من الاندثار حيث يحرص الأساقفة ورجال الكنيسة المسئولين على هذه الأديرة علي تحويلها إلى نهضات روحية تشمل الصلوات والوعظات وفقرات لكورالات الترانيم، كما حدث مؤخرا في دير المحرق؛ حيث انتهت الجلسات الشعبية التي كانت تتلى فيها المواويل الشعبية التى تعبر عن روح الغلابة وحبهم التلقائي للقديسين.
• أصدرت أيضا كتابا بعنوان "المسكوت عنه الفلكلور السياسي للأقباط" ماذا كنت تقصد بالفلكلور السياسي؟
- قمت بصك مصطلح الفلكلور السياسي عندما عثرت على نصوص قبطية تعبر عن حالة الأقباط النفسية وقت الاضطهادات التي مروا بها خلال تاريخهم الطويل. فالأقباط كأقلية دينية قاسوا المرار بسبب اختلافهم الديني وتقلبات الحكم خاصة في العصور المملوكية وتحت الحكم العثماني الأمر الذى أثر بشكل واضح علي منتجهم الثقافي خاصة في اللجوء إلى نسج قصص المعجزات والخرافات التي وجدوا فيها طاقة للتنفيس عن كبتهم بحماية السماء لهم من خلال الخوارق التي تظهر بكثرة وقت الاضطهاد حيث يقوم مارجرجس بإنقاذ المصلين في كنيسته أو ينقل الشهيد أبسخرون كنيسته من قلين بكفر الشيخ إلى البيهو بالمنيا لينجو حفل الزفاف المقام بها لعشر عرائس من مؤامرة صنعت بإحكام لإبادتهم وحرق الكنيسة بمن فيها والقصص التى تتوقع نهاية العالم لتحقيق الخلاص مثل رؤيا حكيمة تدعي "سبلة" تتوقع انتصار "النصرنلي وهزيمة العثمانلي" أي انتصار المسيحي وهزيمة الحاكم التركي المستبد. وأيضا القصص التى تريد الانتقام من المضطهد وتصويره في أبشع نهاية من ذلك نهاية الطاغية الروماني دقلديانوس الذى يصوره القصص القبطي على أنه أكثر إمبراطور روماني اضطهد الأقباط على مدار التاريخ فتذكر قصص نهايته بالجنون وتحوله إلى حيوان يأكل نبات الأرض والشوك؛ بل وعند موته ترفض الأرض الطيبة من فرط حنانها على الأقباط أن يدفن فيها وكلما حاول الجند دفنه لفظته الأرض إلى غير ذلك.
• بوصفك باحثا ومؤلفا لك أعمال صادرة في التراث القبطي مثل (متّى المسكين المطارد، صلاة القتلة، مترو مارجرجس، في الفلكلور القبطي) وغيرها من المقالات والأبحاث المنشورة، ما هي أصداء الفلكلور والتراث القبطي على الثقافة العربية والعالمية؟
أصداء التراث القبطي يصعب حصرها بطبيعة الحال، ولكن علي سبيل المثال فإن التراث القبطي حافظ على ألحان وموسيقى مصر القديمة، فعندما بشر مارمرقس رسول المسيح المصريين بالمسيحية لم يقدم لهم موسيقي بل كلمة فقاموا بوضع الكلمات المسيحية على الألحان التى يحفظونها من ذلك لحن يسمي الجلجثة أو الغلغوثة والذى يقال يوم الجمعة العظيمة التى هي تذكار صلب المسيح حسب الاعتقاد المسيحي، فاللحن رثاء لموت أوزيريس. وعلى مستوي فن الرسم تجد أن أيقونات شهداء الأقباط من الفرسان مثل مارجرجس والأمير تادرس وماربقطر وغيرهم، ويظهرون يمتطون الخيول ويقتلون تنينا أو ثعبانا يعد رمزا للشر. هذه الأيقونات مأخوذة من نحت فرعوني موجود بمعبد الأقصر لحورس يطعن ست الشرير. وعلى مستوي العمارة تأثرت المساجد الإسلامية بالكنائس بصورة واضحة ، بل إن مسجد ابن طولون بالقاهرة والذى يعد أعجوبة في البناء صممه المهندس القبطي سعيد بن كاتب الفرغاني. وعلى المستوى العالمي فإن قصة القديسة تاييس التى كتبها الروائي الفرنسي الحائز على نوبل أناتول فرانس، والتى تدور حول راهب يسعى لتوبة غانية فيقع في حبالها مأخوذة من الأدب الرهباني القبطي، ومذكورة في كتاب "بستان الرهبان" وهذا ليس عجيبا إذ أن الأقباط هم الذين قدموا للمسيحيين في العالم فكرة ونظام الرهبنة المسيحية، حيث أسسها ابن قمن العروس ببني سويف القديس أنطونيوس ووضع نظام الحياة المشتركة الأنبا باخوميوس.
• من هو روبير الفارس، هل هو المؤلف والروائي، أم الباحث والمؤرخ، أم المتخصص في التراث القبطي؟
ما المشكلة أن أعمل في هذه المجالات كلها إذا كان هناك خيط رفيع يضمها وهي الإنسانيات. أنا صحفي أقوم بالكتابة في ملف الأقباط والكنيسة، وهذا الاهتمام جعلنى أقع على تراثهم المجهول فجمعته وأصدرت كتب عنه ، كما أصدرت كتب صحفية لتوثيق عدد من الأحداث والشخصيات، وقدمت تأريخا لهم ولها، وبالمناسبة وجدت اهتماما كبيرا من جامعات ومعاهد علمية بالأقباط وتاريخهم وتراثهم فقمت بزيارة جامعة فرانكفورت بألمانيا وساسكس ببريطانيا وبنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية.
أما الأدب فهو الرئة التى أطل من خلالها على فلسفة الوجود، ولا تقتصر كتابتى للقصة أو الرواية على شخصيات قبطية، فأنا أكتب نماذج إنسانية عامة. ومؤخرا نشرت لي مجلة "أقلام من العالم" التى تصدرها جامعة سان دياجو الأمريكية ترجمة لقصتى القصيرة "بكارة مبتلة" والتى ترجمها السعودي عصام الجاسم، وهي تدور حول عملية انتحارية يقوم بها إرهابي عاجز جنسيا.
• من إشكاليات التراث القبطي اختلاف مصطلحي الأدب القبطي عن أدب الأقباط، برأيك ما هو الفرق بينهما؟
هذا صحيح، وفي رأي لا يوجد أدب قبطي أو أدب إسلامي أو أدب بوذي، الأدب هو الأدب مصطلحا شاملا جامعا، يتناول نماذج إنسانية فردية تعبر عن نفسها ومجتمعها، والدين مجرد مكون من مكوناتها، أذكر أني سألت الأديب الكبير إدوار الخراط عن هذا المصطلح فانزعج بشدة ورفض أن يصنف أدبه الذى احتوى على شخصيات قبطية تحت هذا المصطلح الغريب. وهنا أريد أن أقول هل يمكن أن نصنف رواية "تاييس" لأناتول فرانس على أنها أدب قبطي؛ لأنها تناولت شخصيات لرهبان أقباط؟ وهل يطلق أحد على الروايات الغربية التى تتناول عالم الأديرة والكنيسة مصطلح الأدب المسيحي، فهل يليق أن نصف رواية "اسم الوردة" للكاتب أمبرتو أيكو بأنها أدب كنسي أو ديري؛ لأنها تدور في دير؟ للأسف من يتبنون هذا التصنيف مثقفون يعانون من الطائفية المقيتة.
أما الأدب الذي ينتجه الأقباط فيصنف حسب المنتج، فالقصص والروايات لو كان كاتبها قبطيا فهي تخضع بالأساس للنقد الفني وليس لعقيدته ، فإما أن تكون عملا فنيا أو بحثا في العقيدة أو اللاهوت أو سير القديسين.
• في الوقت الراهن.. ما هو مستقبل دراسة وتأريخ التراث القبطي في مصر؟
في مصر هناك حالة من التفاؤل؛ حيث هناك عدة مراكز أكاديمية تهتم بالدراسات القبطية منها: مركز الدراسات القبطية بمكتبة الإسكندرية، ومجموعات التراث العربي المسيحي التى تقوم بها المعاهد التابعة للرهبنة الفرنسيسكانية، وأيضا علي مستوى الجامعات: الجامعة الأمريكية بالقاهرة، وجامعة الفيوم ، ودمنهور. وعلى رأس هذه الأشياء، الإصدارات المتميزة لدير أبو مقار بوادي النطرون، كما أن هناك جيلا واعدا من شباب الباحثين الذين يقومون بمبادرات فردية تعليمية لنشر هذا التراث، فقط، يحتاج إلى اهتمام إعلامي يسلط الضوء على هذه الأنشطة والمؤتمرات.
• أخيرا وليس آخرا، باعتقادك - كباحث في التراث القبطي – ما هي الإجراءات اللازمة للحفاظ على التراث القبطي وأدواته وسماته المادية والمعنوية؟
لابد من وضع خطة عملية للمحافظة على المخطوطات القبطية الموجودة بالكنائس والأديرة، فهي كنوز لم يتم حصرها. وللأسف الكثير منها في حالة سيئة للغاية وتحتاج إلى عمليات إنقاذ وترميم، ولابد من نقلها كلها إليكترونيا. وكذلك تنشيط التبادل العلمي مع المراكز المتخصصة في الجامعات العالمية في أمريكا أوروبا وأستراليا التى تدرس علم القبطيات، وترجمة منتجات هذه الأقسام إلى اللغة العربية ومن المهم أن توضع الحقبة القبطية وآثارها في مناهج التعليم الأساسي حتى يتعرف الطالب المصري على هذا الجزء المهم من حضارته المنسية.