القاهرة 28 يناير 2020 الساعة 12:45 م
قصة: محمد مجي ـ المغرب
في مطعم شعبي بسيط اتخذت مكانا في طابور طويل، أنتظر دوري لآخذ طبق لوبيا ، أتعبني الوقوف، قبل أن أجد نفسي أتقدم قليلا نحو ذلك العارض المبلط، خلفه امرأة في سن أمي، الفقراء هنا يتحسسون جيوبهم، خلفي في الطابور امرأة وابنتها يحصيان فكات نقود، هل تكفيهن لأخذ طبقين أم طبق واحد، شبح الجوع أحيانا يخضع لمنطق الجيوب، أخيرا حان دوري وسلمت لي تلك السيدة طبق متبل بالفول المدعوك وخبزة مجزأة لأربع كسرات، دفعت لها وانسللت من الطابور، المزيد من الجائعين يتوافد على المطعم، سرت لتلك المقاعد الخشبية التي اتخذت حجم المطعم من الداخل، الناس هنا يلتهمون بشراهة، حتى حينما تأكل لوحدك تسرع مخافة أن يأتي طفيلي وينغص عليك لذة طعامك البسيط، أفواه تمضغ وأخرى تتلقف اللقمة وتبلعها دون المضغ، رجل سال فمه دما، أخفى وجهه وفر خارجا، صديقه يقول: حبة حصى أسقطت سنه، صرت أنا أيضا أحرك شدقي يبطئ. للمكان رائحة خاصة
الطابور ينفجر بين هارب ومتعجب، مجنون تقيؤه الباب، جحافل الذباب تنط خلفه، يصرخ والزباد يخرج من فمه، يتقدم خطوة ويرجع خطوتين نحو الوراء، جلبابه فوق كتفه، وسرواله حزمه بحبل تتدلى عقدته. صاحب المطعم يحذر خدامه منه: هذا المجنون سيسبب لي الإفلاس، تقدم ذلك المجنون نحو باحة الأكل، وبدأ يخزر في الجالسين، الكل متوجس منه، امرأة تمسك يد زوجها وتسأله: قد يكون متأبطا لسكين تحت معطفه. قام بدورة على كل الزبائن، وعاد إلي حيث بدأ. شمر على ساعده المثخن بضربات سكين، يده شريحة لحم بها خطوط الحز والتقطيع، منها من شفي ومنها من لا زال ينفش دما، بدأ يلتهم ما فضل من الطعام في تلك الأطباق التي تركها الزبائن ولم يأت بعد النادل لجمعها ودفعها نحو مغسل المطعم، يلتقط حبة أو حبتين من اللوبيا ويقضمها ببطيء بأسنانه الأمامية، ثم يدفع وراءها كورة يكورها من لباب الخبز.. وحين ينتهي من الطبق يلسعه بلسانه، فيسيل الماء الملون بتوابل على لحيته، يخرج لسانه فيلتقط ما استطاع إليه.
حين انتهى من تفقد كل الأطباق، رفع يده ملوحا كأنه يريد أن يصفع وجها ما، ثم هوى على تلك الأطباق وألقى بها خارج الموائد، ورفع سرواله حد ركبتيه ثم فر هاربا، تبعه الحشد وصاحب المطعم الذي ندب حظه من ذلك المجنون: سيقتلني ذلك اللعين يوميا يأتي إلى مطعمي ليفسده، وإذا طردته ومنعته من الدخول، يأخذني الناس على ذلك، ويصفني بالشحيح، وإذا تركته يدخل يفتعل المشاكل ويخرب مطعمي، المجنون فر هاربا وعبر نحو الجهة الأخرى للرصيف.
من هناك بدأ يصرخ ويتوعد صاحب المطعم وهو يمرر يده على عنقه، ثم نظر حوله وبدأ يلقي بالحجارة على المطعم والزبائن. خلف المجنون جلس رجل في المقهى يدخن ويرشف قهوته، قام من مقعده وقال لصاحب المطعم: لقد أغضبتم ذلك الجني الذي يسكنه وإذا قتله الجني ستكونون السبب في موته.. المجنون خرت قواه من كثرة الغضب والرشق بالحجارة، هوى على الأرض وأسند ظهره إلى عمود الإنارة بعد أن نزع خفيه واحتضنهما.. امرأة في مطعم شعبي يقبع بمحاذاة المجنون، رفعت غطاء قدر وفاحت منه سحابة بخار، ملأت طبق بالحساء وأخذته نحو المجنون، ربتت على كتفه ونظر إليها بعينين ذابلتين، ثم وضع طبق الحساء أمامه وظل يحركه بملعقة ريثما يبرد قليلا.