القاهرة 21 يناير 2020 الساعة 11:05 ص
كتب: عاطف محمد عبد المجيد
في كتابه " الشاعر والتراث " الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، يتناول د.مدحت الجيار العلاقة التي تربط الشاعر بالتراث، متحدثًا عن الشاعر والتراث في نظرية الأدب، عن الإطار الاجتماعي لجدل الشاعر والتراث، وعن علاقة الشاعر بالتراث في نظرية المحاكاة. كما يتحدث هنا أيضًا عن علاقة الشاعر بالتراث في نظرية التعبير الرومانسية، مثلما يتحدث عن الرومانسية العربية والتراث وتطور الذات الشاعرة واتساع مفهوم التراث، ولا يفوته أن يتحدث عن انفتاح النص الشعري والجدل مع جوهر التراث. بدايةً يعرّف الجيار تراث كل أمة بأنه هو مجموع ما خلّفه السابقون للاحقين من أبناء الأمة، ويُوزع تراث الأمة على أفرادها حسب قدرات كل من الفهم والاستيعاب والممارسة والحفظ، ويكون التراث إهابًا كبيرًا لكل شيء داخل وعي الجماعة ووعي أفرادها، ينمو ويتطور حسب نمو تطور هذه الجماعة. كما يرى أن الفرد لا يستطيع، داخل سياق الجماعة، أن يتنصل من تراثه أو أن يرفضه كليةً، غير أنه يمكنه أن يرفض منه ما هو ثانوي وسطحي، في سبيل استبقاء ما ينفعه في مرحلة من مراحل حياته.
هامش ومتن
في مقدمته يرى الجيار أن العلاقة بين الشاعر والتراث تقوم بمجرد أن يبدأ الشاعر في كتابة نوعه الشعريّ، لأنه يتناص مع هذا التراث ابتداءً من الموروثات اللغوية والأسلوبية والموسيقية، وانتهاءً بالقضايا والموضوعات التي تملك تطورًا ذاتيًّا واجتماعيًّا، عبْر حلقات التاريخ القديم والوسيط والحديث. وهكذا يؤكد أن علاقة الشاعر بالتراث تتحرك عبر عصور ومذاهب ومدارس واتجاهات تتعاصر وتتداخل وتسيطر إحداها أحيانًا، لكنها تعود إلى هامش النص بعدما كانت تمثّل متْنه. وبهذه الحركة، حسب رؤية الجيار، يتكون ملمح التراث الخاص بكل عصر ومذهب وشاعر. في كتابه هذا يهتم الجيار بدراسة علاقة الشاعر بالتراث في عصوره المتعددة المتغيرة المتطورة، متعرضًا لنظريات الشعر التي تناسب كل مرحلة وعصر، هادفًا إلى رصد ملامح هذه العلاقة في كل مرحلة تاريخية وكل نظرية عاشها الشاعر والشعر العربيين على السواء. هنا اتخذ الجيار توجهيْن يمثّل الأولَ منهما البابان الأول والثاني دارسًا علاقة الشاعر بالتراث في النظريات الشعرية الأربع وهي: المحاكاة، التعبير، الخلْق، الواقعية. فيما يعتبر الجيار التوجه الثاني توجّهًا تطبيقيًّا يتابع من خلاله علاقة الشاعر بالتراث من خلال النصوص الشعرية العربية في عصور التاريخ العربي المتتابعة: الجاهلي، الإسلامي، الأموي، العباسي، المملوكي والعثماني، والحديث، محاولاً رصد العلاقة الجوهرية المستمرة في كل عصور الشعر العربي ونظرياته. في كتابه "الشاعر والتراث" استشهد الجيار بنماذج لشعراء يمثلون التطور العام للشعر العربي في عصوره ومذاهبه ونصوصه المتنوعة، مثلما يمثلون النقلات الأساسية في تاريخ الشعر العربي كله، ومن هؤلاء: امرئ القيس، حسان بن ثابت، جرير، الفرزدق، أبو العلاء المعري، البارودي، أحمد شوقي، حافظ إبراهيم، العقاد، المازني، أبو القاسم الشابي، إبراهيم ناجي، ميخائيل نعيمة، علي محمود طه، صلاح عبد الصبور، أحمد عبد المعطي حجازي وأمل دنقل وغيرهم. لقد حاول الجيار في كتابه / بحثه هذا أن يرصد قيادة بعض الشعراء وبعض النصوص لنظرية شعرية أو اتجاه في تشكيل النص الشعري، كما حاول رصْد نقْل النظريات الشعرية الغربية إلى خصوصية عربية، ونصوص شعرية عربية خاصة باللغة العربية. أيضًا قام الجيار برصد التطور التاريخي والاجتماعي والشعري لعلاقة الشاعر بالتراث من خلال منهج اجتماعي تاريخي تحليلي، مستشهدًا بما يمثل جوهر حركة المجتمع والتاريخ والفن الشعري. كذلك نلاحظ أن الجيار ركز في كتابه هذا على أن المبدأ الجمالي والصيغة الفنية للنص الشعري تخضع للبنية الثقافية الأم التي تَوَلّدَ عنها الشاعر والنص والتراث والمتلقي على السواء في كل عصور الأدب العربي وكل نظرية من نظريات الشعر الكبرى.
علاقة جدل دائم
مما يراه الجيار هنا أن علاقة الشاعر بالتراث تبدأ منذ اللحظة الأولى التي يجرب فيها أدواته المُشَكّلة للنص الشعري، وتتحقق هذه العلاقة حين " يصنع " أو يبدع النص الشعري الأول بالنسبة له، وتتطور العلاقة أيضًا فيما بعد حتى تنتهي بقدرته على الكتابة الشعرية بعامة. وخلال هذه المرحلة الطويلة تتطور العلاقة مرة أو عدة مرات حسب علاقة الشاعر بنصه، ووعيه بذاته الشعرية، ووعيه بأدوات وماهية ومهمة النص الشعري. هذا ويصل الجيار إلى القول بأن علاقة الشاعر بالتراث لا تتوقف لأنها علاقة جدل دائم مع موروثه الخاص من التراث ككل، تنميها قدرات وثقافة، ومهمة واضحة للنص الشعري، غير أن هذه العناصر " الأداة، الماهية، المهمة، القدرات، الموروث " تختلف من شاعر لآخر، ومن جيل لجيل، ومن عصر لآخر ومن مذهب لآخر. أيضًا يذكر الجيار أن التعرف على مكونات الشاعر، كذات مبدعة ضمن ذوات مبدعة كثيرة، لابد وأن يصل بنا إلى معرفةٍ بطبيعة نصه، وفهمه لماهية ومهمة الشعر والتراث كليهما، لأن الذوات المبدعة في كل عصر تتجادل مع بعضها البعض كما تتجادل مع النص الذي تبدعه بتاريخه وتقاليده، ومع تراث أمته بتاريخه وتقاليده، خاصة وأن الأنواع والمذاهب الأدبية تثري بعضها البعض حتى يصل الأمر إلى جدل عام بين الأدب والفنون التشكيلية والفنون الجميلة، بل جدل عام بين بنية ثقافية فنية أدبية شعرية فكرية وبين البنية المادية الحضارية في كل المجتمع. كذلك مما يتوصل إليه الجيار في كتابه هذا أن إبداع العقل الإنساني ينتقل من مجتمع لآخر، ومن فرد لغيره، بفعل عوامل كثيرة متنوعة ومتجددة، الأمر الذي يجعل النظر إلى علاقة الشاعر بالتراث، بخاصة، تخرج من إطارها الفردي إلى أفاق إنسانية عامة تتجاوز النوع والنص الذي يكتبه، والتراث الذي يدين له بالولاء إلى أنواع أخرى.
هنا يرى الجيار، فيما يرى، أن الشعر، كغيره من الأنواع الأدبية، نص مفتوح وليس مجرد علاقات لغوية تتشابك وتتكاثف حتى تُشكل نصًّا شعريًّا مفتوحًا على مغاليق النفس الإنسانية وسراديبها الغامضة، وعلى العالم المكتَشف، كما تتعمق صلته بالعقيدة والفكر والفلسفة والأخلاق والثقافة، وبالواقع الطبيعي والاجتماعي والموروث اللغوي والتقني والفني، ومن هنا كانت قيمة الشعر المعرفية لا تقل عن القيمة المعرفية للعلوم، بل تزيد، لأنه يتخطى هذه الحدود ويحلم بالمستقبل، وهو ما لا تستطيعه العلوم التجريبية، ومن هنا يصبح الحدْس والكشْف من خصائص هذا الشعر، ولهذا يملك الشعر سحره، حتى الآن، لأنه لا يزال قادرًا على الخلق والتنبؤ والاستشراف وتجاوز الواقع والذات، رغم التقدم العلمي والتكنولوجي، ورغم المكتشفات الفلكية والطبيعية. بل يصل الأمر بالشعر أنه يُشكّل من فوضى هذا العالم، ومن غموض الذات نصًّا يتيح لنا تعاملاً أفضل مع الذات والعالم والآخرين.
العربي والأوروبي
إلى جانب هذا يرى الجيار أن علاقة الشاعر بالتراث تتطور وتتغير، على المستوى النظري العام، وفق نظرية الأدب السائدة، ووفق حوافز الخروج عليها في كل عصر من عصور صياغة نظرية الشعر. وبعد أن يورد الجيار، في أحد فصول الكتاب، تعريفات السابقين للشعر والشاعر يقول إن الشاعر العربي تعامل مع تراث أمته الإسلامية على أنه مفتوح على العالم كله، بصرف النظر عن كونه باللغة العربية، وأصبحت علاقة الشاعر العربي بالتراث أكثر رحابة وتنوعًا، في حين تحولت لدى الأوروبي إلى قيد وإطار ضيق للإبداع حتى بدأ عصر النهضة. وبعد أن يدور الجيار حول الشاعر وعلاقته بتراثه من كل الجوانب، لا ينسى أن يذكر أن الحداثة نشاط عقلي فعّال، لابد أن يُغذيه اتجاه عقلي أو ديمقراطي لتتوجه العناصر المتعددة إلى سياق الوحدة من خلال التعدد، وحتى يُعطي هذا الاتجاه العقلاني الديمقراطي فرصة لاتساع الأفق في النظر إلى التراث، وفي فهم المعاصرة والتحديث، الأمر الذي يربط بين التجديد وحركة العقل والواقع معًا ويوظفهما في تشكيل استراتيجية للقول، أو للخطاب العربي في كل تجلياته. بقي أن أقول إن هذا الكتاب مهم لمَن أراد أن يعرف علاقة الشاعر بتراثه من كل نواحيها بنظرياتها ومفرداتها.