القاهرة 07 يناير 2020 الساعة 10:37 م
بداية وحتى لا تبحثوا عن اسم رئيس التحرير المختفي الذى نبحث عنه.. أفيدكم علما أنه اختفاء معنوي، وليس المقصود منه اختفاء رئيس تحرير بعينه.. وهو اختفاء نبحث فى أسبابه.. فقط كل ما عليكم أن تتابعوا عن كثب النشاط الثقافي والمعرفي لأغلب رؤساء تحرير المؤسسات الصحفية فى مصر، ودورهم نحو مجتمعهم، وأنتم سوف تصلون إلى أحد أسباب الاختفاء!!.
هل لكم أن ترجعوا بذاكرتكم قليلا إلى عقود مضت، وتطالعوا بعضاً من تجارب وسير رؤساء تحرير مؤسساتنا الصحفية وتكوينهم المعرفي، وكيف كان أغلبهم رغم أعبائهم المهنية يخصص وقتاً لقراءة ومتابعة المؤلفات التى تصدر عن دور النشر، وكيف كان بعضهم أيضاً يخصص وقتا لزيارة معارض الفنون التشكيلية، والذهاب إلى السينما والمسرح، ولعل كل ذلك سيقدم مزيداً من التفسير لما آلت إليه الأمور الآن وتكشف عن سبب آخر من أسباب اختفاء رئيس التحرير الذى نبحث عنه؛ إلا من رحم ربى.
إدارة مؤسسة صحفية تخاطب الرأي العام فى المقام الأول تتطلب شخصاً ليس مجرد ملم بفنون العمل الصحفي وحسب، بل شخص تكوينه المعرفي والثقافي يجعله ينحاز لنشر صفحة للثقافة والفنون حتى وإن حصل على بعض الإعلانات، لكن ما يحدث الآن هو أن لدينا رئيس تحرير بإمكانه تأجيل أو إلغاء صفحة للثقافة والفن تماماً فى مقابل الإعلان.. نعم.. فإذا حضر المال ذهبت الثقافة.. ويذهب معها أيضاً رئيس التحرير فى مجتمعنا!!.
أعلم أنك عزيزي القارئ لم تصدق ما أقوله، كل ما أطلبه منك أن تتطلع على نتائج استطلاعات الرأي التي توزع على رؤساء تحرير المؤسسات الصحفية فى مجتمعنا وآرائهم فيما يتضمن بعدد ما يقرؤونه من كتب، وآخر معارض الفن التشكيلي التى قاموا بزيارتها، وكذلك ردودهم فيما يتعلق بآخر مرة ذهبوا فيها لمشاهدة المسرح والسينما، ستجد أن الإجابات صادمة، وهو ما أتفهمه جيداً خاصة أن التكوين المعرفي والثقافي لرئيس التحرير فى مجتمعنا المصري لم تعد كما كانت من قبل، ولا تقل لي أن الضغوط الاقتصادية التي يتعرض إليها الصحفي سببا فى ذلك، ولك أن تسأل رؤساء التحرير عن رواتبهم وأنت تعلم أن السبب بعيد كل البعد عما يتقاضونه من رواتب بعضها يصل إلى مئات آلاف من الجنيهات شهرياً.
هل التكوين المعرفي والثقافي لرئيس التحرير له تأثير على المحتوى الصحفي؟، الإجابة ستصل إليها بنفسك عندما تتعرض لعناوين الصفحات الأولي لأبرز الصحف على فرشة بائع الجرائد، وهى عناوين تتشابه وكأنك تقرأ نشرة واحدة متكررة إلا أنها منشورة عبر أشكال إخراجية مختلفة بعض الشيء.
أزيدك من الشعر بيتا.. لك أن تنظر إلى إصدارات رؤساء التحرير الحاليين من الكتب ستجد أن أغلبها فى مجال السياسة فقط، ونادراً ما ستجد أن أحدهم صدر له مؤلفات ما بين الرواية والمسرح والموسيقى والترجمة، ولك أن تقارن ذلك بجيل أحمد بهاء الدين الذى أثرى المنطقة العربية بـ "37" كتاباً، وفتحي غانم الذى كان روائياً وشارك معه صلاح حافظ في رئاسة تحرير مجلة روز اليوسف عام 1973 وفي عهدهما وصل توزيع المجلة إلى 150 ألف نسخة توزع بدون مرتجع.
عزيزي رئيس التحرير الذى نبحث عنه، دعني أتركك مع ما فعله الكاتب الكبير الأستاذ أحمد بهاء الدين، والذى كان إلى جانب تخصيص مساحة من وقته الثمين للمعرفة والثقافة وكتابة أنواع مختلفة من الفنون، أن أتركك مع نموذجا لرئيس تحرير مكتشف مواهب أيضاً، وهو ما سردته الكاتبة سوسن الأبطح فى مقال لها نشر بجريدة "الشرق الأوسط" عن ذلك، عندما حكت عن صلاح جاهين واكتشاف أحمد بهاء الدين له، قائلة: "توجه ليعمل في الصحافة محرراً، فوجد نفسه في أوقات الفراغ يرسم ليتسلى وينفث كربه، فإذا برئيسه أحمد بهاء الدين يرى رسوماته صدفة على مكتبه، ويبهر بها ويقرر أن يخصص له صفحتين أسبوعيتين للكاريكاتير، إلى أن أصبح رسام «الأهرام» الذي ينتظره الناس كل صباح. ومع ذلك يعتقد أنه دخل عالم الكاريكاتير لأنه ينجز عمله في اللحظات الأخيرة، ومن باب العجز عن الدقة والإتقان. رسم ببساطته وعفويته الخلابة، وكأنه يقدم لقارئه مشاهد مسرحية تضج بالناس والحركة والقصص والنقد اللاذع. هكذا لم تكن ثمة هوة بين الفنون عند جاهين".
"الأبطح" لا تتوقف عن دور بهاء الدين مع جاهين وحسب، بل تروى أيضاً كيف يرى جاهين أستاذية مكتشفه، قائلة: جاهين يقول إن أفضل ما حصل له، هو أنه التقى بالأشخاص المناسبين في الوقت المناسب وهذا صحيح. فهو غالباً ما كان يمارس ما يحلو له، ويجد دائماً على زاوية الدرب، من ينتظره، لينقله إلى مكان آخر. هكذا حصل مع شعره العامي، وأزجاله ورباعياته التي ستدخله الشهرة من أوسع أبوابها.. يتفق الجميع على أن لا شيء من كل ما ترك لنا عبقري مصر وفيلسوفها الشعبي صلاح جاهين، يفوق أهمية رباعياته التي أودعها نبض قلبه، وحركة الشارع في مصر، وضمير الناس.. وعجبي".