القاهرة 07 يناير 2020 الساعة 10:54 م
كتب: حاتم عبد الهادي السيد
يحيلنا القاص إبراهيم العامري في قصصه القصيرة جدا، أو إبيجراماته، إلى الميثولوجيا – لأول وهلة – وإلى العودة إلى الرمز والحكاية الرمزية، التى تذكّرنا بقصص كليلة ودمنة التى تمتاح الرمز السياسي؛ لتسقطه على المجتمع والعكس، ليحيلنا القاص الى الواقع الاجتماعي والقوانين التى تقيد الحريات وتقمع صوت الحرية، وتجعل من الفرد تابعاً للسلطة، أو للرمز الذى يمثل النقطة المركزية للديكتاتورية التى تحكم الأنظمة السياسية، وتخضع البشر وتجعلهم يعيشون بشكل يشبه "خراف الحظائر"، كما يمثل الفيلم الذى عرض للخراف – حالة التخويف والترويع والهلع كي يخيفهم من الخروج من الحظيرة كي لا يتعرضوا للمذبحة التى تعرض لها الخراف من قبل، أولئك الذين فكروا في الخروج من الحظيرة في السابق، ولم يطيعوا أوامر الراعي - فكانت المذبحة نتيجة لخروجهم عن إطاعة الأوامر، والسجن الذى وضعوا فيه هو رمز للديكتاتوريات الفاشية التى تجبر الشعوب/ الخراف إلى تلمّس الطاعة العمياء، وعدم الخروج على القوانين المتسلطة ، وإلا فإن السجن والقمع والقتل الفردي والجماعي سينتظرهم، مثل مذبحة الخراف التى أحالنا اليها الكاتب ببراعة شديدة واقتدار يدللان الى عمق رؤية، وبراعة إسقاط دون أن تطال منه – هو ككاتب – تلك القوانين أو الحكومات أيضاً؛ لأنه يتحدث – هنا - عن عالم الخراف والحظائر، ولم يتعرض من قريب أو بعيد، للسلطة، والنظام والحاكم، والقوانين، أيضاً.
هذا الأسلوب - في يقيننا - نراه ،عودة جديدة، وبراعة في استخدام الرمز الميثولوجي للتدليل إلى العالم السياسي والاجتماعي لأحوال الأمة العربية، بل العالم وكل الأنظمة الغاشمة التى لا تستمع لصوت الشعوب، ولقد استخدم كاتبنا رمزيته على لسان الحيوانات مثلما استخدمها من قبل الفيلسوف والمبدع "بيدبا" في كليلة ودمنة وكذلك ابن المقفع وغيرهما كى لا يتعرض للعقاب أو تطاله القوانين الغاشمة من جرّاء انتقاده للمجتمع، من أجل تعديل السلوك المجتمعي تجاه الشعوب التى تحلم بالحرية والفضيلة، وتنشد العدل وتتطلع إلى القيم الإنسانية السامقة.
كما نلفت الانتباه إلى عنوان الأقصوصة / الإبيجراما حيث كتب: "حضيرة" ويقصد بها – فيما أحسب – "حظيرة "، فهل هي لهجة؟ أم تعمية لغوية، كى لا يتم ضبط المؤلف متلبساً بمن سرق المشار اليه في النص عبر دوال السيموطيقا ومدلولاتها وعلامتها السيموطيقية التى أظهرت لنا عمق رؤية وجمالية أسلوبية عبر إبيجراما تصلح كذلك "كحكاية رمزية للأطفال والكبار" إلا أنها موجهة للضمير الاجتماعي والسياسي بامتياز، ولمن بيده مقاليد القرار في البلدان والدول والعالم والكون والحياة، أى يتسع الرمز إلى دول العالم ولم يحدد دولة معينة لتظل لقصته الديمومة والاستمرار عبر الزمن أينما وجد التسلط والقمع والاستبداد والظلم في أى عصر، وهذا استشراف وذكاء من الكاتب وحذر وحيطة منه أيضاً، وقد صدر للكاتب: أنفلونزا الوحدة وهى المجموعة القصصية الأولى له في المكتبة العربية.
ونحيل القارئ هنا عبر إبيجراماته القصيرة إلى اكتشاف ذلك بنفسه، لنشركه معنا في القراءة النقدية والقصصية، عبر تشاركية حميمية في محاولة منا لتجديد شكل ومعنى ومبنى النقد الأدبي الآن.
1- حضيرة:
بعد ارتفاع سعر النفط، وتعرض صاحب تاجر المواشي لخسارة فادحة، بسبب كساد السوق، وحلول اللحم المستورد المجمّد، بدلا من خرافه الطازجة. قرر التاجر أن يشدّ الحزام، وأن يستخدم خشب حظيرة الخراف كوقود في هذا الشتاء، لكن فكرة ترك الأغنام دون سياج خطيرة، واللصوص كثر، والذئاب قريبة، والخراف نفسها ستختار البرية والمساحات الواسعة، التي لا تقيّد رعيها. ففكر التاجر بطريقة تضمن له الخشب والإبقاء على الخراف مجتمعة في الوقت نفسه. كان حلّه ذكيا؛ إذ أحضر شاشة كبيرة مسطحة وعرض على الخراف فيلما بعنوان (خارج الحظيرة) الفيلم يروي مذابح جماعية لخراف تعيش خارج الحظائر.
وفى إبيجرامته/ قصته: "ثعلب" يحيلنا القاص الباسق/ إبراهيم العامري إلى الحكمة التى تقول: "يظل الثعلب ثعلباً وإن نوى أن يتوب إلا أن طبائعه تغلب محاولته للتطبّع والامتناع عن الافتراس ومداومة محاولاته الماكرة في الدهاء والخبث والانقضاض على الفريسة بالتآمر، وهى حكاية – كسابقتها – تصلح لأن تكون للأطفال إلا أن رمزيتها وإسقاطاتها الميثولوجيا تحيلها إلى مصاف القصص السياسية التى تنتقد الواقع الاجتماعي هنا لحياة البشر الذين يظنهم الإنسان قد تابوا وأنابوا فإذا هم كما هم لأنه خلق مجتمع الفضيلة من جديد وتثبتاً لمنظمة القيم الإنسانية الباسقة والباذخة والنبيلة أيضاً. توبتهم لم تكن مؤكدة، وغير صادقة حتى لو تغير المكان والزمان ولبس الإنسان قناعاً مغايراً فسيظل كما هو اذا لم يكن هناك صدق حقيقي في المواقف، وتلك لعمرى رؤية حكيم يعمد الى إعادة خلق مجتمع الفضيلة من جديد ة وإلى طبيعتهم الشرسة نراهم يعود، وكذلك تثبيتاً لمنظومة القيم الإنسانية الباسقة والباذخة والنبيلة أيضاً ن وهى كذلك رؤية كاتب يعارض المجتمع بفضحه للممارسات التى يقوم بها البعض لكسب مكانة مغايرة لواقعهم عبر الميثولوجيا، أو قناع الفضيلة والزهد الذى يتشدقون به وفى أول فرصة وبسرية شديدة نراهم يعودون الى طبيعتهم البشعة في المراء وممارسة الخديعة والمراء والقتل فاذا ما ظهروا للناس تحلوا بالزهد والتقوى والفضيلة ، وهذا يذكرنا بما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي عن الثعلب في شعره القصصي حين قال: برز الثعلب يوماً في ثياب الواعظينا.. إلى أن يقول: "مخطئ من ظن يوماً أن للثعلب ديناً، إذ الثعلب هو ثعلب ولو لم يتثعلب!
2- ثعلب:
(الثعلب الصغير وقف أمام المرآة في هذا اليوم ولم يفكر حينها أن يكتشف جمال ذيله الناعم مثلما تفعل أخته الصغيرة، ولم يكن يري في نفسه أية معالم للافتراس. كان يحاول أن يقنع نفسه أنه ليس ثعلبا، قد يكون سلحفاة أو أرنباً، أو حتى كائناً بحرياً يعيش في بقايا سفينة. وبينما كان منهمكا بالتفكير في هذا الأمر، قرر أن يترك عالم الافتراس، ويسكن قريبا من حقل الكرفس الذي يبعد مسافة غير بعيدة عن القرية. فحزم ملابسه وترك الوكر رغم تحذيرات الأم التي لم تفلح معه كلّ محاولاتها لمنعه من ذلك. وفي طريقه لوجهته جاع الثعلب الصغير، ولحسن الحظ رأى حمامة مكسورة الجناح، لا تستطيع الطيران، فالتهمها على عجل، وأكمل السير).
وفى قصته: "حكاية"، يحيلنا المبدع إبراهيم العامري إلى الغابة وخشخشة العشب والخوف من مجهول وأفاع وذئاب وحيوانات مفترسة فإذا به يفاجئ بليلى الإنسانة في حضن الذئب المتوحش يجمعهما عشق رومانسي ممتد ليسقط الصورة عن وحشية الذئب ويعيد له صفات انسانية مغايرة تجعلنا نسقط ما سردناه سلفاً عن طبيعة الحيوانات المفترسة والغادرة كالثعلب ، فالذئب أكثر وحشية من الثعلب الا أن الحب قد أحال ذئبيته إلى حيوان أليف ووديع يحتضن الفتاة في مشهد عناق يشبه عناق البلشون في هيامه وانفصاله عن الواقع الإنساني الذى فرت فيه الفتاة من عالم البشر إلى عالم الحيوان تتلمس الحب والوفاء والدفء بعيداً عن الواقع المادي/ الأيديولوجي الذى فرت فيه ليلى الجميلة إلى الذئب وكأنه يعيدنا الى الميثولوجيا وعالم الأسطورة من جديد ولكن بشكل أسطورة إبيجرامية قصيرة تختصر الحياة الانسانية وتختزلها في جملة أو موقف أو كبسولة أو توقيع إبيجرامى تكثيفي يشى بجمالية تكشف عن تملك الكاتب لقاموسه اللغوي ودلالته المنتقاة عبر الكلمات ومتوالية السرد المتهادي كبحر ينساب على سرة المرمر الميتافيزيقية واللاميتافيزيقية عبر جدلية العلاقة بين عوالم شتى تجمع الحقيقة بالحلم بالدلالة السيموطيقة والرمز الجميل الذى يكشف عن عوالم انسانية جديدة ومساحات أخرى للحب لم نكتشفها عبر أسطورة الذئب وليلى في المخيال التصوري للحب الذى يطوع المتوحشين ويرضخهم له ليخرجوا من عالمهم المادي إلى الحلم والخيال وسدم الكون الممتدة عبر الكون والحياة وهو بهذه الأقصوصة الرائعة يحيلنا إلى ذواتنا لنكتشف الماهيات الأولى للذات والعالم والكون والحياة.
حكاية:
كنت أمشي في الغابة، واسترعتني خشخشة في العشب، خفت، تناولت حجرا وعصى، قد يكون الذئب أو أفعى جائعة، أو يكون أحد المجرمين الهاربين، وقد يقتلني. كانت الخشخسة تزيد وتنقص، وكنت أسمع لهاثا وشيئا من الهمس. استجمعت قواي، اقتربت قليلا، تسللت عبر العشب بتؤدة، كانت ليلى بحضن الذئب في عناق حار، وعلى ما يبدو أنهم هربوا من الخرافات وأعين أهالي القرية.
وفى النهاية: لقد آثرنا طريقة غير نمطية في تناول قصص الكاتب إبراهيم العامري الرائعة، وعلى بساطة السرد يبدو عمق المعنى والمبنى عبر لغة يغزل من صوف مفرداتها عالمه/ عالمنا، ذاته/ ذواتنا، وكأنه يعيد رتق خرقة العالم كصوفي ينشد الحق والفضيلة وقيم الإنسان السامقة الباذخة التى تدلل الى كونية سرده وتجديفه الى ما بعد الحداثة بسرعة وبمهارة وبهدوء وانسيابية تدلل على كاتب مفعم بالأمل والعشق والحلم، يتوضأ بالحب وينتقد الواقع لينشر السلام في العالم الممتد الأرجاء.