القاهرة 31 ديسمبر 2019 الساعة 11:03 ص
كتب: عاطف محمد عبد المجيد
متحدثًا عن كتابه "عالمية الفن وعالمه" الصادر عن الدار المصرية اللبنانية، يرى د. سعيد توفيق أنه (يقصد كتابه) يتصدى لقضية شائعة في واقعنا الثقافي منذ عهود طويلة، وهي قضية عالمية الفن، هادفًا إلى الكشف عن معناها، وتعرية الفهم المزيف لها وللمفاهيم المرتبطة بها من قبيل: "العالم " و "العالمي" و "المحلي". ورغم أن هذا الكتاب (يقول توفيق)، حافل بالتأملات الفلسفية لمسائل بالغة العمق، فإن التأمل فيه لا يأتي من علٍ، بل ينبع مما هو متداول في حياتنا الثقافية، أي من ذلك الأساس الذي يقوم عليه الوعي الهش المسيطر على ثقافتنا، والذي ينبغي تعريته من أجل الكشف عن الأرض الصلبة التي تكمن تحته والتي يمكن أن نؤسس عليها من جديد.
العالم الأكبر
كذلك يرى المؤلف أن عنوان كتابه دقيق في استخدامه لكلمة "العالم"، فمع أن هناك عالمًا إنسانيًّا واسعًا تحيا فيه الشعوب في لحظة تاريخية ما، فإن هناك عالمًا أصغر يخص شعب ما يتمثل في تاريخه المتراكم، وفي معتقداته، وعاداته وتقاليده، وقيمه الخاصة التي يؤمن بها. هنا يؤكد الكاتب أن العالم الواسع الذي نعيش فيه كموجودات بشرية، ينطوي أيضًا على ذلك العالم الخاص الذي يعيش فيه كل واحد منا وينتمي إليه بكل تفاصيله، ومن خلاله ننظر إلى معنى ذلك العالم الإنساني الواسع الذي يكتنفنا.
توفيق الذي يُعرّف الفن بأنه تعبير عن دلالة إنسانية عامة كما تتجلى في حالة إنسانية خاصة، أي التعبير عن ذلك العالم الأكبر كما يتجلى في العالم الأصغر الذي هو أنا وأنت، وهو يبدي إعجابه بمقال للمفكر جلال أمين لبساطته وعمقه.
يقول المؤلف إن هناك نقادًا متقعرين يستخدمون لغة طنانة دون أن يقولوا شيئًا جديدًا. وفي معرض حديثه عن عالمية الفن يقول إنه من أشد الأخطار التي يمكن أن تهدد ثقافة مجتمع أو عصر ما، أن تتحول الثقافة إلى ثقافة لفظية، أي تقوم على حفظ وترديد الألفاظ والمفاهيم دون تمثّل أو هضم لمعانيها. هنا يقول توفيق إن استخدامنا لبعض المصطلحات القادمة إلينا من الغرب يشبه استهلاكنا للسلع والأدوات القادمة منه إلينا، فكلما مللنا من سلعة بحثنا عن أخرى جديدة وهكذا. المؤلف يرى أن علاج هذا الأمر يوجد في الفلسفة لأنها هي الملاذ الأخير لعلاج مثل هذه الظواهر الثقافية السلبية. مضيفًا أن إحدى الوظائف المهمة للفلسفة هي التحليل الذي يهدف إلى توضيح المفاهيم والكشف عن معاني الظواهر من خلال إظهار الحقائق المختفية وراء سطحها، والتي تشكل ماهية كل منها وتمنحها اسمها. هنا يؤكد توفيق أن مفهوم عالمية الفن من المفاهيم المطروحة في ساحة الثقافة العربية بصورة ساذجة ومشوشة، إذ يُطرح داخل قضية زائفة متفشية في واقعنا الثقافي وهي قضية عالمية الفن ومحليته.
علاقة جوانية
توفيق الذي يؤكد أنا لفن هو مرآة الشعوب والحضارات، يخْلُص إلى القول بأن خاصية المحلية في الفن بوصفها علاقة انتماء وخصوصية بين الفن وبيئته وحضارته، إنما هي علاقة "جوّانية" أي علاقة من الداخل أو الباطن، ولذلك، يرى، يمكن تسميتها باختصار محلية جوانية.
هنا يورد توفيق ما قاله توماس مونرو عن الفن؛ إذ يقول إن الفن يعبر على الدوام عن شيء يتميز به زمانه بوجه عام، وهو يعبر كذلك عن سمات إنسانية عامة معينة تتسم بها عصور كثيرة. على أنه في نواحٍ أخرى يعبر عن جزء فقط من عصره. أما الأدب، يقول المؤلف، لا يستخدم اللغة باعتبارها مجرد أداة توصيل لمعانٍ أو تصورات عقلية، بل يستخدم اللغة على نحو خاص بتفجيره للطاقات الإبداعية والجمالية الكامنة فيها في أساليب متنوعة. هنا يرى توفيق أن جزءًا كبيرًا من هوية أو بنية العمل الأدبي وقيمته الجمالية يقوم على اللغة ذاتها من حيث هي أداة تعبير جمالي.
هنا وفي معرض حديثه عن عالمية الفن وانتشاره، لا ينكر توفيق وجود كثير من الأعمال الفنية ضئيلة القيمة؛ لكنها في الوقت نفسه لها حظ وافر من الانتشار. مضيفًا أننا نجد كثيرًا مما يُكتب باسم الأدب في واقعنا الراهن، ومنذ عقود عديدة، ليس بأدب حقيقي، وإنما هو كتابة تبقى أسيرة واقعها المحدود، وهي إن نجحت في أن تتخطى حدود موطنها لفترة قصيرة من الزمن، بنيل جائزة هنا أو هناك، فإنها سرعان ما تخْفت بعد ذلك ليطويها النسيان. هنا أيضًا يرى المؤلف أنه من حقه أن يقول إن كل أدب هو كتابة لخبرة الذات، وخبرة الذات تعني خبرة أو تجربة تكشف عن رؤية الأديب للعالم.
ما الفن؟
هنا يؤكد توفيق أن نجيب محفوظ لم يسعَ إلى جائزة ولم يكتب من أجل أن تُترجم أعماله، ولهذا جاءته أرفع الجوائز دون أن يسعى إليها؛ لأنه عكف على أدواته الفنية في البناء الروائي لشخصيات لها دلالة إنسانية عامة؛ لكنها تحيا في سياق زماني مكاني خاص. توفيق الذي يرى هنا أن عوالم الفن لا تُحصى، يقول إن الصلة بين ما هو خاص وما هو عام في تعبير الفن عن العالم هي صلة وثيقة. غير أن الفن يموت حينما يتحول إلى مجرد خبرة ذاتية لدى كل من المبدع والمتذوق. هذا وينهي المؤلف كتابه هذا متسائلًا ما الفن إذن؟ مجيبًا أن هذا السؤال من أصعب الأسئلة الفلسفية؛ لأنه يشبه في صعوبته سؤالنا عن معنى الوجود أو الحياة أو الزمان. مؤكدًا أن الفن لا هو مع الأخلاق ولا هو ضدها، وهو ليس مجرد رسالة اجتماعية، مكتفيًا برؤيته للفن على أنه هو التعبير عن معنى أو حقيقة شيء ما، من خلال التشكيل الجمالي في صورة متعينة.