القاهرة 24 ديسمبر 2019 الساعة 12:16 م
كتبت: سماح ممدوح حسن
في رواية "الوصايا" لعادل عصمت، يقص علينا الراوي (بطل الرواية) أحداث تلك الليلة التي سبقت موت جده والتي استدعاه من بلد عمله البعيدة ليلقنه وصاياه الأخيرة (الوصايا العشر) والتي كانت عبارة عن خلاصة حياة الجد والتي أراد من الحفيد أن يستدل بها وتضيء له سديم الحياة.
خلاصك في مشقتك، إياك والعمى، المتعة عابرة كالحياة، كن يقظا وقت الفرح، الثروة مثل الدابة عليك أن تسوقها، احذر أن تقتل أخاك، الأحزان سموم القلب، تحمل الألم، المحبة دواء أيام الباطل، وأعظم الفضائل التخلي.
كان الجد (الشيخ عبد الرحمن) في اليوم الذي سبق موته يسكب تلك الوصايا في أذن حفيده علّه يستفيد رغم يقينه من أن الحفيد البالغ ثمانية عشر عاما لا يفهم كثيرا تلك الوصايا الآن، لكنه أيضا يعرف أنه ربما سيفهم لاحقا.
لكن كيف لمن هو على أعتاب الشباب أن يفهم خلاصة تجربة شخص آخر؟ فالفتى غر لم يختبر ما مر به الشيخ من تجارب هي التي صقلته وجعلته يخرج بهذا الدرس الطويل من الوصايا العشر التي يلقيها على مسامع الحفيد الآن والذي لا يفهم أو يقتنع بشيء منها.
كم من شيخ، جدا كان أو أبا أو عما من هؤلاء الذين وصلوا إلى المحطة الأخيرة في رحلة السديم حاولوا تمرير تجربتهم وخبرتهم للصغار ظنا منهم إنهم بذالك يوفرون عليهم مشقة ما مروا به من قبل, أو حتى ظنوا أنهم بذالك يجنبونهم أخطاء ومخاطر هم في غني عنها؟ لكن هيهات أن يقتنع الشاب، فكيف يقنع ويتعظ برحلة لم يقطع فيها ميلا واحدا، لم يشعر أو يحس، لم تغيره الحوادث التي مر بها الكهل وجعلت منه من هو عليه ويحاول عبثا أن يمرر الحوادث كلاميا له. هذا الأصغر الذي لن يقتنع إلا برحلته الخاصة لن يصقله إلا سيره في سديم حياته.
الرواية تحكى عن رحلة الحياة ببن قطبين، الأول الشيخ ووصاياه وما يمثله من رسوخ وثبات، والقطب الثاني الشباب الذي ينشد التحرر من قبضة الرسوخ الأبوي ويصنع أو يُصنع به تغيرا يستطيع التماهي معه. وكأن القطبين في صراع. فأثناء رحلة الشيخ تناوبت على العالم من حوله تغيرات لم تستطيع إيجاد طريقها إلى بيته وعائلة إلا عندما دبت دماء جديدة في بيته، وبدء نزاع التمسك بالقديم مقابل الركض وراء الحديث.
فالشيخ قد حضر أهم فترات التغيرات التاريخية في مصر من انتزاع ملكية أراضى وأيام الملكية وأيام الجمهورية، الهزيمة في الحرب ثم الانتصار فيها، وجاء بعده الانفتاح والذي رأى منه ما لم يخطر على باله يوما وما خطر على باله وتخوّف منه. لكن الشيخ متمسك بمكانه ويريد تمسك أهله به أيضا, حتى عندما أجبر على بعض التغير الضروري عندما هدم البيت وجدده تطير من هذا الأمر وظل حتى مماته يندم على هذا الفعل.
لكن، هل بعد هذه الرحلة الطويلة وإلزام الشيخ نفسه ومن حوله ممن استطاع السيطرة عليهم وجعلهم يمضون في طريقه والعمل بوصاياه، هل نجح هذا الأمر وأتى بثماره؟ فالشيخ الذي كان يرى في أن أعظم الفضائل هو التخلي, ووزع أرضه التي هي أغلى ما ملك لم تأت الخطوة بالثمرة المرجوة منها وتفرق الأخوة بعد أن باعوا الأرض.
أيضا الأحزان التي هي سموم القلب هل أستطاع الشيخ عصمة قلبه من الحزن على ما فات وما يحدث وما هو آت؟ إياك والعمى وهذا ما اتضح في النهاية أن الشيخ كما أبصر في السابق الكثير من لأشياء لم يرها حينها غيره إلا أنه عمى عن بعضها عندما لم يستطع أن يجارى تغيرات الحياة والتي لم يستطع التغلب عليها وظن أن الثبات هو الأصل والتغير طارئ.
بعدما ينتهي القارئ من الرواية سوف يجد نفسه يسأل السؤال الذي طُرح كثيرا. هل نتعلم من أخطاء من سبقونا؟ هل بعد كل هذه الدروس التي حاول الشيخ تمريرها إلى الحفيد قادرة على تجنيبه الوقوع في ما كان يحذر منه (الضياع) كما اعتاد أن يقول له. ربما في نهاية رحلة سديم الحياة فإن المؤكد لنا حتى الآن أن على كل إنسان عبور هذه الرحلة (رحلته الخاصة) حتى يستطيع أن يكون هو. والدليل على ذالك عودة بطل الرواية وهو في الخمسين من عمره إلى نفس المكان الذي تلقى فيه الوصايا وهو في الثامنة عشرة, ولم تفلح وصايا الجد في تجنيبه خيبات الأمل والأخطاء. فمهما حاول السابقون تعليم اللاحقين وتحذيرهم لن يجدي هذا بالنفع الكبير، فعلي الإنسان أن يتعلم أو لا يتعلم من تجربته هو. وهو فقط مهما كان ثراء تجارب الأولين.