القاهرة 17 ديسمبر 2019 الساعة 10:23 ص
كتبت: سماح ممدوح حسن
تجيء رواية الكاتب الكبير الراحل مكاوي سعيد "أن تحبك جيهان" بعد أعوام من الانقطاع عن النشر، يبدو أن الانقطاع الطويل كان استعدادا للانطلاق الجميل.
فها هي رواية "أن تحبك جيهان" والتى هي عبارة عن حيوات تحيا بداخل حيوات، شخوص فيهم ما فيهم من الخير والشر، الجمال والقبح، السواء والشذوذ.
لكن كلهم موجودون فى حياتنا، وحولنا، لكن ليست كل الأعين كعين المبدع، ف"مكاوى سعيد" يرى ما لا نرى ولا يراه الآخرون
فقد رأى "أحمد الضوى "المهندس الذى ما ترقى فى عمله عن احترافية أو لإبداعه الذى أضاف به إلى البشرية، لكنه رقىّ، بل استقل بعمل خاص بمساعدة زوجته (جليلة) التي لولاها لكان قد بقى مجرد مهندس فى شركة هو فيها أقرب إلى الموظف منه إلى المهندس.
أحمد الضوى الذى لم يختر أي شيء فى حياته، يعيش على ذكرى خاله "حسام" الذى كان يعتقد أنه أخوه، خاله المهندس الشيوعي المطارد من الأمن والذى تكرر نموذجه وتمثل فى أحد جيرانه فيما بعد "شريف" الذى عاش فى بيت خاله محتفظا بكل ما كان يملك خاله من متاع قليل وكتب كثيرة.
"شريف" الذى يعيش نفس ظروف حسام، هو أيضا شيوعي مطارد من الأمن فقد نفسه وعقله وخسر كل شيء وتحول إلى هذا الكائن الهش المستحق للشفقة, لم يحقق لنفسة ولا للمبادئ التي كان يسعى إلى تحقيقها أي شيء.
نرى أيضا "ريم" السيدة التي تعيش على أمجاد الماضي، نقابل فى حياتنا كثيرين من هذه السيدة التى نراها مغرورة متعجرفة وربما عاهرة، ويراها "مكاوي سعيد" خائبة الأمل ف "ريم" لم تستطع تحقيق حلم حياتها من أجل خيبة أملها فى أستاذها الذى تزوجته ليعينها على تحقيق الحلم؛ لكنه خذلها وتحول الأستاذ الفنان إلى ما يشبه (المقاول)بعد هجرته إلى الخليج.
وها هي "جيهان العربي" التي أحبت بصدق، وعلى عكس كل قصص الحب التي يتفرق فيها المحبون، فقد تزوجت ممن أحبت "تميم" لكنه مات لتتحول جيهان إٍلى شبح، منعزلة، عدوانية فى كثير من الأحيان (ربما لو رأيت هذه الشابة فى الحقيقة أتصور أنها تتحول بين ليلة وضحاها إٍلى عجوز كهلة يملأ الزمن وجهها بالأخاديد) جيهان التي تحولت فى قسوتها إلى حجر كالذي كان ينحته "تميم" بل اشد قسوة، ربما كانت هذه هي طريقتها فى الاحتماء من العالم بعدما فقدت من كانت تتكئ عليه.. ربما.
"تميم" الذى مات بعد أن فقد ايمانه بنفسة والذى كان السبب فيه هو ظروف الحياة، وذلك عندما اضطر إلى التحول من فنان إلى ما يشبه (صنايعي) بعدما عرف أن الفن فى هذا البلد لا يُقدر حق قدرة لكن حتى عندما غير مسار فنه ليخدم المال لم يسلم.. فقد احترامه لنفسه وربما لفنه عندما أتهم بالغش (غش الأحجار الكريمة التي كان يصنع منها حلي الأميرة الخليجية) وبعدها أدرك أنه لا سبيل لنمو الفن فى بيئة تعلو فيها كلمة المال.
أيضا صديقات جيهان العرابي "بسمة، ورنا" نقابلهما يوميا بل ربما يكون لدى كل منا صديقات مثلهن.
هناك محور مهم أيضا فى هذه الرواية؛ ربما هو أول ما يسترعى انتباه القارئ ألا وهو (اللغة) لغة الرواية الرشيقة. أقصد تلك السلاسة التي تتدفق بها لغة الرواية وتتغير بمنتهى الرشاقة دون أن يقطع على القارئ تسلسل الأفكار لكن يحكى عن كل موضع بما يلق به. فمثلا عندما يحكى عن الجزء القديم أو (الذكريات) فى حياة أبطال الرواية تكتسى اللغة بثوب من الوقار والرزانة ويسدل على رنة الكلمات رونق مختلف عن ذلك الذى تصخب به اللغة التي تحكى عن الحاضر والتى تغزوها الكلمات الحديثة المتداولة وتقتضيها أحداث الرواية فينتقل من عصر إلى عصر لكي يحكي عن كل منهم بما يليق به.
تقع أحداث رواية "أن تحبك جيهان" فى أكثر من 700 صفحة.. تنتقل بين فصولها كأن كل فصل رواية مستقلة لكنها متصلة فى الأساس؛ لذا فلن يشعر القارئ مهما بلغت أيام القراءة، بأي ملل.
نقول لمكاوي سعيد: فى ذكرى وفاته.. أبدعت.