القاهرة 17 ديسمبر 2019 الساعة 09:59 ص
بقلم: فرج الضوي
فى دراستنا لهذه المجموعة القصصية التي بين أيدينا كان لا بد لنا من تناول العناصر الآتية:-
1-إشكالية مونودراما اللغة الحالمة فى القصة الحديثة و مكونات القصة التقليدية
2- الشكل التطويري للنص الأدبي
3- الأساليب اللغوية الأقرب الى السريالية
4 – الشكل الأدبي الناتج من مختبر الكتابة الإبداعية
5- مناجاة الذات و كشفها للمتلقي
يقول الباحث إبراهيم أحمد:
لا بد لنا من الإقرار بأن المسرحية المونودرامية تقترب من فن القصة القصيرة, ولكنها ليست قصيرة لأنها تعتمد على تفجير الدراما من خلال السرد والحركة والمونولوج والحوار الذاتي الذي يحاور مجموعة من الشخصيات المتخيل.
إن خيطاً رفيعاً يفصل بين القصة القصيرة والمونودراما, ولكنه فاصل يعترف به كونه يميز شكلاً فنياً من آخر, خاصة إذا ما علمنا بأن السرد القصصي الذي يعتمد على اللغة العادية لا يصلح للمونودراما التي تحتاج وبشدة إلى سرد يميل إلى الشعرية والشاعرية و كذلك تميل لغة القصة إلى السردية والوصف والشاعرية نجد لغة المونودراما تحصر نفسها في اللغة الدرامية التي تُفجّر الحدث وتوصل الهدف إلى الجمهور.....
يقول الباحث شعبان يوسف عن تطور أشكال المنتجات الأدبية:
الزخم الذى ينبثق فجأة فى الرواية و مرة أخرى فى الشعر و ثالثة فى القصة القصيرة هذه الأجناس الأدبية التي تداخلت بينها الخطوط واختلطت بينها الدوائر وأصبح كل جنس أدبى يأخذ من الآخر قسطا للدرجة التي استعدت نقادا كبارا يبتكرون مصطلحات جديدة على هذه الأجناس الهجينة – إذا صح التعبير – ويهزون ثبات المصطلحات المستقرة ليطلقوا مصطلحات بديلة أو مصطلحات مؤقته فقرأنا مصطلحات (عبر النوعية – والقصة القصيرة – و المسراوية – والمتتالية القصصية... وهكذا... دون توقف حقيقي عند هذه المصطلحات ودون تأمل ما حاق بالجنس الأدبي من تغيرات شبه كاملة فأخرجته من السياق الطبيعي، فجاءت هذه المصطلحات مؤثرة للسلامة و مستسلمة لغواية البلاغة والمجاز... دون التعمق فى درس الأشكال التطورية للنص الأدبي.
و هنا يجب التوقف والتأمل مما تركه لنا رشاد رشدي فى فن القصة القصيرة و مكوناتها.... الخبر والقصة و المعنى الشخصيات لحظة التنوير نسيج القصة وحدة البناء والنسيج والمعادل الموضوعي... فنحن بصدد جنس أدبى غير تقليدي استخدم بعض الأدوات فى اعتماله لتكنيك القصة القصيرة وتخلص من بعضها... نرى بعين الراوي الحدث الذى لا يتخذ النسيج الطبيعي للقصة بتعامله مع الصور واللغة الشبه سريالية فاللاحوار... واللاشخوص... واللامكان... أحدث فرقا وتغييرا واضحا فى ذلك المنتج. وهنا قد انتقلنا إلى عالم جديد بكل آفاقه ومعطياته ففي ثقب صغير ندور فى أفلاك التماهي والماورائية أحيانا... فنحن لا نعرف أكانت تتحدث عن إنسانة أم فراشة... تخرج للكون..... تخلصت من جسدها و بعض الأشياء المهملة.... هنا تتجلى صورة فى لغة سريالية بمحاولة الخروج من الجسد وإهماله والتوحد مع الكون بالروح لا تزال هنا تصاحبنا إيقاعات اللغة الحالمة.
* الرواي المتطور.. الذى ينظر بعين ماورائية تسبر أغوار الغيب قبل الوجود فنراه ينظر إلى مراحل نشأة أطوار النضوج قبل الخروج للحياة من الشرنقة.. وهو بهذا يتخطى قدرات الراوي التقليدي... فإن الراوي التقليدي يدرك ببصيرته النافذة كل شيء عن نفسية و كينونة بطل القصة ويرصد كل الأحداث والتفاعلات النفسية للبطل أو للشخصيات شأنه فى هذا شأن أي إنسان طبيعي له بصيرة.
* لحظة التنوير فى القصة الحديثة... لقد أصبح الثقب الصغير كبيرا للغاية الآن..! هي اللحظة التي تتجمع فيها وتنتهى إليها كل خيوط الحدث وذلك يعد نتاجا طبيعيا لتفاعلات وتشابكات نسيج الأحداث و الحوار واحتكاك الشخصيات وتفاعلها مع الأحداث والبطل... من هنا أبدأ أنا الباحث ... فقد اكتشفت أن الرصد فى السرد للحظة التنوير فى القصة التقليدية يرتكز على ابراز تأثير الحدث على النفس الإنسانية و ذلك بالغوص فى تفاصيلها و ما يجول فى خلجاتها... إذن المرتكز الوحيد الأساسي هو التفاعل النفسي البشرى... وهنا يجب أن نلتفت إلى قصة الكاتب الإيطالي لويجى برانديللو... (الحرب).... لنقارن بين لحظة التنوير فى قصته التقليدية ولحظة التنوير فى القصة الحديثة... يحكى عن بعض الركاب فى القطار وعن راكب فقد ابنه فى الحرب كان يقف ممتشقا و متصنعا السعادة باستشهاد ابنه فى الحرب فداء لوطنه... وفى خفايا نفسه ترتعش شفته وتكسو عينيه الرماديتين طبقة من الدموع وسط تشجيع من الركاب وإطراء عليه... حتى يتقابل على طرف النقيض منه بسيدة تتشح بالسواد وذهب ابنها إلى الحرب... وهى ناقمة على الوضع والبلد والحرب، ثم تتأتى لحظة بسؤال يخلو من الكياسة منها... إذا فقد مات ابنك حقا...؟؟.... هنا تتكسر كل جبال الجليد التي اصطنعها الرجل ذو المعطف الفاتح اللون.. و تتضح له الحقيقة الجلية التى حاول أن يخدع نفسه و الناس من حوله بها... و تدور به الدنيا حينما يدرك حقيقة أن ابنه رحل إلى الأبد و لن يعود، شهيدا كان أو ضحية أو ميتة عادية.. لكنه رحل بمجد أو بغير مجد رحل... هنا ينهار باكيا فى عويل شديد.... هنا نرى كما ذكرت آنفا أن هناك مأساة إنسانية رسمت وسردت بمعالجات لحظة تلاقى عين المرأة الناقمة الواسعتين فى عيني الرجل ذي المعطف الفاتح... وحدث الصدام بهذا السؤال المباغت الفج.... الساذج... كل ذلك له رصد للنفس البشرية وما يطرأ عليها من فعل الأحداث.....
أما هنا فى شكل هذا المنتج الإبداعي المتطور فقد تغيرت تلك الأداة وأصبحت أكثر رحابة وأكثر تطورا فقط... جملة ترسم فى شبه صورة شاعرية... قد تجمعت فيها كل الخيوط؛ وبالتالي أدت و صرحت عن المعنى العام وكشفت كل ما كان خلفها.... وليس مجرد شرح لحدث تقليدي يحدث بين شخص أو عدة شخوص. وأيضا بحوار و بعقدة درامية وبحلها أو بتركها مفتوحة... فهنا لا حوار لا شخوص لا عقدة درامية لا حل لا نهاية مفتوحة بل مجرد صورة تم رسمها... أدت ببلاغة الى كشف الكثير مما كان يستهلكه أي كاتب تقليدي فى قصة تقليدية بأدواته وشخوصه وحواره. لقد أصبح الثقب الصغير كبيرا للغاية الآن..! وهنا محاولة خلق عالم مواز ولكن بتشكلات وألوان و معطيات مغايرة.
بالرغم من الوصف شبه التقريري فى الفراشات تعلن العصيان فإن له مبرره من أن ضمير المتكلم طفلة.. هنا نكتشف بالرغم من استخدام الكاتبة فى الحكي أدوات تقليدية كضمير المتكلم والوصف شبه التقريري والفراشات كمعادل موضوعي للأحلام إلا أن الجديد هنا فى تلك القصة القصيرة جدا هو اختزال وتكثيف رحلة حياة بكاملها برغم أنها بضعة لقطات سريعة لم تعتمل الكاتبة فى نسيج القصة أحداثا تقليدية تستثير بها إدهاشا وقتيا للمتلقي ثم بعدها يستفيق المتلقي من ذلك الإدهاش بعد ما يدرك أنه من الممكن و الجائز أن تحدث تلك الأحداث... هنا خالفت الكاتبة تلك التحليلات بسبرها ما وراء الإدهاش وهو إصباغ الذاتية والحدث المدهش بذهنية لها صداقة تأملية مع الكون النجوم الفراش الربيع السحاب الهواء الأرجوحة... وذاكرة استرجاعية.. لها القدرة على استعادة تفاصيل اللعب مع الطبيعة حين تقول كبرنا وتغير البيت... من المدهش أيضا أنها نجحت فى محاولة رسم الحياة بالفرشاة كأننا أمام لوحة تشكيلية ترسم فى البداية بيد طفلة كرسومات الأطفال بألوانها الكثيرة البريئة المبهرجة ثم تبدأ فى النضوج بعدما تكتشف تلك الطفلة أنها كبرت ثم تغير كل شيء من حولها... حتى ذاكرة قلبها الذى فقد لمسة صوت أختها... من تلك اللحظة بالذات فى ذاتية ضمير المتكلم الطفلة التي كبرت وهى بطلة القصة... يبدأ التماهي و تتداخل الخطوط والفواصل بين القصة الحديثة والمونودراما.... التدرج النفسي فى شخصية البطلة
تقول زينب سعيد فى الفراشات تعلن العصيان:....
بعدما انتهيت من إفطاري ذهبت إلى الخارج للعب، كان فصل الربيع قد بدأ، أنا أنتظره كل عام بلهفة، هنا لا نعرفه إلا بظهور الفراشات أحبها للغاية، أستمتع بصحبتها أكثر من أي شيء أجرى خلفها أرغب فى الإمساك بواحدة لاصطحابها معي إلى المنزل، فترافقني عندما تصاحبني الوحدة، لكن كلما أمسكت بواحدة تأبى أن ترحل معي، وتفضل علي مصاحبتي الموت، يعتريني الحزن فأغادر، وأتجه نحو منزلي..
إن استخدام الفراشات كمعادل موضوعي للأحلام... وهى أداة تقليدية إلا أن غير التقليدي هنا هو لغة السرد الشاعرية الحالمة، وكذا حداثة تكوين الصورة.... و نسج الحدث الذى يكاد يكون إلى حد ما لا واقعى.. ( رومانتيكي)... (هي تجرى) تعادل مشوار العمر وسنونه التي تمر... (خلف الفراشات لتمسك بها) وهي تعادل الأحلام التي تفلت منها وتأبى التحقق والموت هو المعادل لهروب الأحلام...
أنا لا أدري أسرار الحديث مع النجوم... تلك الطفلة الغريبة التي تحاول إحصاءها... ربما حاولت جمع تلك اللآلئ المنثورة فى عتمة الليل الكبير... أو ربما حدث ما لا نتوقعه من نشوء لغة بينها وبين تلك البقع النورانية المنتشرة فى أرجاء الكون الشاسع أو لعلها سافرت إلى هناك أكثر من مرة و رأت عوالم وكائنات وأكوان و دنى لا نعرفها.... ربما ... السر يكمن فى قلب تلك الطفلة.... أما نحن فلا نملك إلا التأويل.
أما فى حلم ملقى على الرصيف.... دمج الواقعي بالفانتازيا ... حين تحدث الحلم ونادى على البطل و كذلك محاولة أنسنة الحلم أو تحويلة إلى كائن مادى.. و كذا استخدام أداة الراوي العليم و هو يسرد والحوار المقتضب... فالدلالات البنيوية والسيميائية هنا أعطت معان أيقونية (صورية) وأخرى إشارية وأخرى رمزية.. هنا تتداخل إلى حد كبير المونودراما مع القصة الحديثة ليس فقط من ناحية السرد واللغة و لكن أيضا من ناحية تهيئة المكان للحدث (كما يهيئ الكاتب المسرحي المسرح فى نصه) بكلمات مثل... الشارع- المسجد – الأضواء- أصوات الناس... ثم بالشخصيات الثانوية التي تتدخل بحوارها البسيط لتنسج احداث القصة هنا يستطيع الممثل فى المونودراما تقمص كل تلك الشخوص الأب والأطفال التي تلعب وكذلك البطل يوسف و أيضا الحوار... أما الخط الفاصل الذى قد يصعب تجسيده هو الحلم ذلك الشيء اليقظ الحى.. كينونة من ابتكار الكاتبة لها العامل الأساسي والمهم فى القصة تقول الكاتبة : يفزع حلمه بعيدا إلى عالم آخر؛ بينما صوت ضعيف يناديه من الخلف. يو ..... سف ... هنا تضع القصة الحديثة ملمحها و بصمتها و حدها الفاصل بينها وبين أي منتج آخر و قد يزول التماهي بينها و بين المونودراما فى تلك اللحظة...
الجديد هنا أن الكاتبة فى هذه القصة قد وضعت مفهوما دلاليا للذاتية…………......semantic concept of Subjectivism حين استخدمت الراوي العليم الذى قام بشرح تجربة وفلسفة العلاقة بين البطل وبين الحلم.. تقول:
والولد ينتبه جيدا إلى خرافه، يخشى حدوث مكروه لهم، سوف يغضب الأب كثيرا لحظتها، وهو يتقدمه بمسافة، يصرخ فيه آمرا إياه أن يتفادى العربات المسرعة، فيزداد ارتباكه، بينما الحلم الملقى في الخلف ما زال يصرخ متألما من الوحدة، يناديه، يتمنى لو عاد، والتقطه من على الرصيف، لكن خوف الولد على خرافه أصم أذنيه عن النداء، وهو يفكر مبتسما في حلمه الذي يقبع في جيبه الخلفي، سوف يعتذر له عن تقييده هكذا، وسوف يغفر له الحلم فعلته، ويدعوه للرحيل معه مرة أخرى إلى عالمه الخلاب، ولكن المفاجأة ألجمته، وهو يبحث عن حلمه منفردا، بكى كثيرا وهو يفكر في قسوة ذلك الحلم الذي فر هاربا من جيبه الخلفي، فاستسلم للنوم، ربما يحلم من جديد، لكنه الصباح يطرق على جفونه، وصوت والده يصرخ فيه، فيستيقظ منتبها، يتلفت بسرعة يمينا ويسارا، يبتسم حزينا، ويصطحب خرافه في رحلته اليومية، يفكر، ربما يصادف اليوم حلمه القديم ملقى على الرصيف هناك في مكانه الأبدي!
المراجع
* و يكيبديا الموسوعة العالمية
* ابراهيم أحمد جريدة البعث مقال المونودراما والقصة القصيرة
* جاسم خلف الياس اللغة القصصية/ الشعرية في القصة القصيرة جريدةالنور
* النقد وأشكال تطوره ... شعبان يوسف ... كتاب الأبحاث مؤتمر أدباء مصر 2007
.... فن القصة القصيرة ل رشاد رشدى *
* جماليات المكان فى العرض المسرحى .... كريم رشيد