القاهرة 26 نوفمبر 2019 الساعة 10:32 ص
"قراءة مشاهداتيّة/ جمالية"
بقلم: حاتم عبد الهادي السيد
يحيلنا السماح عبد الله – منذ البداية- في ديوانه: "طرف من أخبار الحاكى" إلى السرد، حيث يمازج بين الشعرية والسردية، أو كأنه يحيلنا إلى الشعر القصصى، أو القصة الشاعرة الجديدة.
ولعلنا نلمح العنوان السردى الجميل للحاكى وحكاياته، سردياته الذاتية الكبرى التى تموضع الواقع السحرى، وتحيلنا إلى المعادل الضمنى والموضوعى، الادهاشى، عبر الإزاحة، والتضمين، والسرد الشعرى المكتنز، الذى يستفيد من طاقات السرد والشعر معاً، فهو يمازج بينهما عبر النوعية، لإنتاجية قصيدة متفرّدة، قصيدة خاصة، عبر لغة ساردة شاعرة، وعبر التفاعيل التى تقترب من مضامينية السرد، وكأنه يستنطق شعريّة جديدة، وهى بالفعل كذلك، ليجدد فى مسيرة السرد والشعر معاً، مستفيداً من طاقة اللغة ومفرداته الخاصة، التى تضفى على القصائد تنويعات إيقاعية بديعية، فالموسيقا ليست صاخبة بل تنتضم عقد مسيرة الشعرية عبر هارمون ىسلسل، مستخدماً اقتصاديات اللغة المائزة– الأقرب إلى التجريد والتكثيف – فنقف كقرّاء أمام معمار للشعرية والقص، وكأنه الراوى العليم، الحكاء القديم/الجديد، السارد، الشاعر الذى يمازج بين لونيين أدبيين عبر طاقة اللغة، وحمولاتها الدلالية الشاهقة، والمهيبة، والجميلة أيضاً.
إنه الشاعر الخزّاف، الجوّال في رهق الذات، وبرارى العالم، يموضع الجمال على بوابات اللغة، وعبر تراسل الحواس يحيلنا إلى النص الشعرى السردى، الشعرالإشراقى البهيج،عبر الواقعية السحريّة المنطلقة من بكارة اللغة، وخصوصيتها، ودوالها المتواشجة مع الموضوع الذى يريد لنا أن نشاركه كقرّاء في الغوص في جوهر الشعريّة لديه، وهو هنا كراو حكّاء، وشاعر مغرّد، يصدح غير مبال إلا بالمعنى واقتصاديات اللغة، والتنقّل كفراشات الضوء عبر الحدائق الشعرية الجمالية، والصور التراكبية، الإحالية، الرامزة، فكأن النص يماهينا عبر الإدهاش، والمفارقة، والمعمار الأسلوبى الذى يعرف كيف يعفق أواره، ويتربّع سرّة مضماره، وكنهه، وجوهره الأسنى، يقول :
كانت تحب طائراً
، له علامَةْ
يفوت كل يوم في الغروب فوق دارها
فتشير من شباكها الواطئ
، عندما تراه بالأصابع الحنون:
مع السلامة
وتملأ المساء
، بالغناء. (الديوان ص:16).
ولنلحظ هنا الجملة السردية الشاعرة، فقد بدأ قصيدته بالفعل "كان"، وهو الراوى الذى يسرد التفاصيل للحب الذى بين يديه وذلك الحبيب الطائر/ الفتى الموسوم بعلامة، المحب الذى يمر عند الغروب من فوق دارها، وهى تشير له ببراءة: "مع السلامة"، ثم تأتى اللغة بحمولاتها، وفضاءاتها الكونية، لتضيف للشعرية، للنص السردىّ، أفقاً أكثر اتساعاً، فهى تملأ المساء بالغناء، لتدلّل إلى إشراق المساء، وسعادة المحبوبة وطائرها العاشق.
كما نلحظ استخدامه للفعل "كان" كثيراً، في بدايات قصائده، للتدليل إلى زمكانية الحدث، وتلك خصيصيات السرد المكتنز بالتفعيلة الساحرة، وكأنه يريد أن يخشّ إلى الموضوع مباشرة، ويشرك القارئ في الموضوع السردى الشاعرى.
وفى قصيدته "الذهاب الى شجر الزيتون" نلمح طاقة اللغة السردية الشاعرة،فهو يبدأ "باستفهام"ليحيلنا الى النص عبر تشاركية يتغيّاهاللقارىء،ليشركه في غواية السرد الشعرى الرائع، عبر لغة تبدو بسيطة،لكنها دالة ورامزة، عبر سيموطيقا الجمال المتبدّى من حمولات اللغة الحكّاءة،الإشراقية،الباذخة، يقول:
هل مرّ على شجر الزيتونِ الرجلُ
، العزّافْ؟
العائدُ من غنوته
، وهو يشير إلى الطير الرفرافْ
كان حيِيًّا كالعذراءِ
، وكان جميلا كالموسيقا
، وهو يرتِّلُ خطوتَه
، فوق ترابِ السكّةِ
، وهو يعاين مطرحَه
، بجوار الزرع الفرحانِ (الديوان ص:28).
ولنلحظ تكرار الفعل "كان" عبر هذا المقطع، وفى أغلب قصائد الديوان لنؤكد قبضه على مسيرة الشعرية، عبر القصّ السيميائىّ الإحالى المفارق، والضمنى، وعبر المعادل الإدهاشى السحرى للغة التراكبية، التشكيلية، التى تحمل مضامينية تختزل المعنى من أقرب الطرق لتعقد تشاركية والقارئ، عبر الراوى السارد، وربما يتدخل الكاتب أحياناً في مسيرة السرد لكن قد لا يظهر ذلك مباشرة، وتلك لعمرى مخصوصية متفردة لشاعر يمفصل السرد، ويرفوه، وكأنه يغزل من صوف المفردات عباءة الشعر الإشراقى الجميل.
ولعلنا نلمح خطابية اقتضتها مسيرة السرد المكتنز للغة الشاعرة عبر استخدامه للغة الخطاب، المسبوقة بأداة النداء "يا أيها الأعمى" والتى يستخدمها كثيراً، دون أن تؤثر على مسيرة الشعرية، ولا تجعلنا نقول إن الخطابية تقلل من جودة العمل وبخاصة في القصيدة الرومانطيقية، إلا أن استدعاء السردية - هنا- قد أكسبها مشروعية، بل مزيّة مضافة، وجمالية مشرقة، يقول:
منحتك عينيها لتبصرها
، يا أيها الأعمى
، فلما أن رأيتَ
، رأيتها عمياءَ كاسلةً عن الخطواتِ
، فانطلقتْ خطاك
، تسابق الشجراتِ
، تبحث عن نهارٍ فاتنٍ
، أو فضةٍ. (الديوان ص: 42).
ولعلنا نلحظ إشراقات التصوف المخصوص، الفلسفة الشعرية الجامحة نحو الإفضاء والبوح، لمدارج السالكين والعارفين بأغوار الذات، عبر اللغة النورانية، العرفانية، الشيفونيّة الرائقة. كما تبدو جماليات الأسلوبية عبر السرد الشعرى الكونى، لتظهر فلسفة الشاعر عبر الشعرية الصادحة بغنائية كبرى، أشبه إلى الإنشاد الصوفى، أو الدعاء الكونى لقصيدة مشرقة على الكون والعالم، والذات والمجتمع، أو كأنه يماهى بالأسطورة الخاصة، والميثولوجيا الرامزة، عبر التخييل الإدهاشى، والخطاب الشعرى الكثيف لطاقات تظهر جماليات اللغة المكتنزة، والتي تشى بشاعر يعرف مخصوصيات الإبداع، عبر الغناء، والتغنّى بلغة أقرب إلى الحنين، وبالخطاب الهادئ، الذى يتعالق مع الذات التشاركية للقارئ الذى يندغم معه، ويسمو بأفق التخييل واللذة الجمالية، عبر اللغة الباذخة الممتدة، المتطلعة إلى الشّوف، والعرفان، واليقين، والمدى الكونى المتشظّى حوله، يقول:
إنا جَمَّعْنَا حفنةَ أيامٍ
، مكسواتٍ بالفرح المنقوصِ
، لأجلكَ
، منذوراتٍ للرزق الصالحِ
، والمذمومْ
أطلقناك إلى طرقاتٍ متعرجةٍ
، فيها ما قد خبأناه لكفيكَ
، عطاءً مكتوبا
، للمحرومْ
فامش إلى آخر هذا الدربِ
، وقف في منتصف السكةِ
، حتى إن جاءتك امرأتان
، على رأسهما نورٌ
، يتدوَّرُ
، وفراشاتٌ
، تفرش خطوهما
، وتحومْ
قل لهما :
، هذا حظي من نافلة الشعرِ (الديوان ص:44) .
كما يستخدم الشاعر "الدراما" عبر ثنائيات الصوت، والمخاطبات، وكأنه يشكّل لك الجمال على سجادة الوجود من خلال الخطاب التحويلى، لمقصديّات اللغة المائزة، والصور الجمالية البلاغية الأكثر طزاجة ومخصوصية، وكأنه قد تفرّد بأسلوبيته ولغته في إنتاجية قصيدة تغايرية أكثرسموقاً، ولنلحظ ذلك عبر المشهدية للفتاة الأولى والثانية، ودلالات "فعل الأمر" امسك، اضرب.. والمحاورة البديعة، عبر دلالات الفعل المضارع: "ستقول" المسبوق بسين التسويف التأكيدية؛ لنشاهد براعة السرد الممتزج بالشاعرية المونقة، اللطيفة، والعميقة، والتى تخشّ إلى الروح سريعاً لتملأ فضاءها بالإشراق، والمتعة الروحية، يقول:
امسك عكازًا
، واضربه على الأرضِ
، لكي تعرفَ سكتك الْمُعْوَجَّةَ
، والممدودةَ
، والطرق الملتوية للقصد المعلومْ
ستقول الأولى للثانيةِ:
، لإبراهيم خُطا كمليكٍ
، يعرف تدويرةَ تفاح النسوةِ
، لما يحمرُّ التفاحُ
، ويتدلى من فوق الشجر
، العطشانِ
، ويطلب حصتَه من فرحٍ مقسومْ
ستقول الثانيةُ لها :
، لا إن له خطوات ملاكٍ
، يرعى أحلامَ الفتياتِ
، ويجلس عند نوافذهنَّ
، لكي يهديهن العنبَ الناضجَ
، والخمر الشفافَ
، وباقات النرجسِ
، والفل الملضومْ. (الديوان ص :47-48).
وفى قصيدته "قاطع الأشجار" نلمح مزاوجة للتفعيلة، بالقصيدة العمودية، لتدللان إلى تمكن الشعرية لديه، وإحكامه على جذوة القصيدة العمودية كذلك، عبر تراسل الحواس والتشكيّل البصرى رأيناه ينثر القصيدة العمودية، ويكتبها على هيئة التفعيلة، ليدلل على مقصدية الشعرية. فهو يبدأ بالسرد مباشرة من خلال المضارع: "تأتى" وكأنه يحكى القصة عبر المضارعة الاستمرارية؛ ليدخل إلى القصيدة فضاءات السرد مباشرة، عبر عمود الشعر التشكيلى الذى وزّعه عبر التشكيل البصرى على الورق، ليحيلنا إلى استخدام "التدوير الشعرى، والمجاز ، والإزاحة، والتشكيل البصرى والجمالى للقصيدة العمودية في ثوبها الحداثى الفضفاض، فهى ليست محايثة بقدر ما هى استلاب للذهنية، ولاستنطاق طاقات الشعر العمودى في صنع قصيدة تشكيلية بصرية، عبر الاستعارات والمجاز، والبلاعة العربية، ولعل استخدامه لثنائيات الأسلوبية التفعيلية والعمودية إلى جانب طاقات السرد المتجددة قد جعلنا نشير إلى لغة جديدة يتغياها ويتقصدها، وكأنك أمام لوحة سوريالية، للغة فيزيائية، سيميائية محمّلة بتراث روحى، وصوفى وجمالى شامخ، ومستفيداً من طاقات السرد، وحمولات اللغة الحكّاءة، المكتنزة البديعة، يقول:
تأتي مفككة الأزرار صاعدة
درجا يطلع راكبه لحطاب
ينضو ثيابا بكف دربت أبدا
على اجتلاء جذوع الشجْرِ في الغاب
وبكفه الأخرى يزيح ستارة
ويرد خوف الهوا شراعة البابِ
ويطعم الجسد المصقول خبزته
محروقة
، من جوى صاد
، وجوابِ
يسقيه خمرته
، مبلولة بَرَدًا
، قد رُشَّ من مطعمٍ حانٍ
، وشرَّابِ
وتستوي في يديه
، ما بها خطأٌ
كأنما هُيِّئتْ لمزاج أربابِ
العين آسرةٌ
، والنهد ذو أربٍ
، والروح تحضر في زي لغَيَّابِ
ويبدأ الجدل المعهود من زمنٍ
ما بين قانعةٍ ترضى
، ومرتابِ (الديوان، ص : 156-158).
وفي النهاية: نحن أمام شاعر شاهق، جمالى، صوفى، إشراقى، مجدّد. يطوّع طاقات السرد والشعر لإنتاجية قصيدة مغايرة، كونية، ذاتية، حالمة. ويعبر بنا عوالم مضيئة أكثر إشراقاً وسموقاً، ومتعة روحية. وهو الشاعر الذى يتوسّل البوح، ويستنطق الجمال الكونى للعالم والكون والحياة.