القاهرة 12 نوفمبر 2019 الساعة 10:26 ص
كتبت: منار خالد
إن التسامح قيمة مهمة لا غنى عنها في ارتقاء الشعوب بأحوالها العامة منها والخاصة, ولكن ماذا لو تم الاستغناء عنها؟
وكيف لتلك اللفظة العابرة التي نستخدمها في يومنا مئات المرات, أن تكون سببًا واضحًا في تشكيل ثقافات ومرجعيات شعوب بأكملها وأن كل استخدام لها ما هو إلا تنفيذ وفقاً لما وضعته الأعراف والقوانين.
فهل كان لها أثر في حكم الدول, ومنها ترك أثره على محكوميها؟ أم إنها فقط ذلك المصطلح الفلسفي واسع الجدل مفتوح التأويل!
يقول الفيلسوف الإنجليزي "جون لوك" (1632- 1704), في رسالته عن التسامح, أن التسامح الديني يعني "أنه ليس من حق أحد أن يقتحم باسم الدين الحقوق المدنية والأمور الدنيوية".
وبهذا، فإن فن الحكم من وجهة نظر لوك, ينبغي ألا يحمل في مرجعيته الاجتماعية الأسس الدينية.
بينما للمفكر والفيلسوف الإيطالي نيكولا ميكافللي (1469- 1527), شؤون أخرى حول فن الحكم مثلها في كتابه الشهير "الأمير" الذي نبع من واقع خبراته بالحياة السياسة في عصره حين ذاك.
من أهمها أن الأمير الجديد يعيش في حالة من المخاطر والمخاوف.. فهناك مخاطر داخلية تكمن في سلوك رعيته، ومخاوف أخرى خارجية تتمثل في سلوك الدول المجاورة له.
وبصدد ذلك، فعلى الأمير أن يخشى كل خصومه، وكثيرا من أصدقائه، ومعظم رعاياه، وعليه أن يتخلّص من خصومه وحساده بكل ما أوتي من قوة.
كما رأى أنه على الأمير الراغب في عدم زوال سلطانه عدم التحلي بالفضائل ولا يعبأ بها.
لأن الغرض من السياسة هو "الحفاظ على القوة السياسية وتدعيمها" أياً ما كانت سواء مشروعة أو غير مشروعة ومنها انتقل ميكافللي إلى أن تكون سياسة الأمير مع محكوميه لا تهتم ولا تعبأ بأسس العدل, الظلم, الخير, الشر, الخ. باعتبارها قضايا أخلاقية لا شأن لها بالحكم؛ لأن الغرض الأساسي من السلطة هو تمكين السلطنة وتعظيم قوة الحاكم, دون النظر إلى الأخلاقيات, وحتى إن استدعى أمر الحفاظ على السلطة اللجوء إلى الرذائل.
فيقول "إن القسوة والرذيلة تضمن للدولة هيبتها".
وبما أن التسامح بذاته وسع مجال تأطيره بين الفلاسفة من أنه مجرد سمة أخلاقية, أم قيمة اجتماعية؟ ففي إطار الأخلاق يكون مماثلا "للعدل, الخير, الحق, والجمال,.." أما عن وضعه كقيمة إنسانية, اختلف الفلاسفة في ذلك, بل من بداية الأمر اختلفوا حول كونه قيمة مكتسبة أم فطرية, كما اختلفوا أيضًا حول إشكالية أن الحقوق المدنية لا شأن لها بالدين, فيقول الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط (1724 - 1804), في مقولة اعتبرها الكثيرون حين ذاك حدثاً فلسفياً حاسمًا من أجل ضمان دخول الإنسانية الأوروبية عصر التنوير، "الدين في حدود مجرّد العقل", ومنها تظهر الثنائية الأكثر جدلاً على مستوى الكثير من المجتمعات وهي (الدين/ العقل), فاعتبرهما البعض متضادين والبعض الآخر بمثابة مكمل بعضها البعض, وهناك من اتخذهم مأخذ الاستعانة بكل منهما عند الضرورة إذا تطلب الحكم الأخذ بأحد منهم في معاونة الآخر, ودون الخوض في دهاليز ذلك الاضطراب الإشكالي على مر العصور, فقط ستتأصل قوة العقل وقدرته على التسامح التي هي في الأصل سمة دينية مطروحة بالأديان السماوية, فالإله بذاته وجنوده في الأرض من الأنبياء والرُسل بمثابة رموز للتسامح, مثال الدين المسيحي الذي يرى أن سمة التسامح تُحيل العنصرية ومنها تسود فكرة تقبل الآخر, وهذا يعود للتعصب الذي ساد عصر يسوع بين اليهود والسامريين, وأيضا النظر للنساء حين ذاك نظرة دونية ضحلة, لكن يسوع اختلف في صفاته عن مقاوميه الذين قالوا عنه "هذا يرحب بالخطاة ويأكل معهم"! (لوقا 2:15).
ومنها كان يسوع رمزًا لا خلاف عليه للتسامح.
وكذلك الدين الإسلامي يتجلى في الفرص التي وضعها الله عز وجل كرخصة لإفطار رمضان على سبيل المثال إن كان مريضًا أو على سفرًا وتناول الطعام المُحرم للمُضطر والتجاوز عن قِصر الصلاة من قِبل الإله في حالات خاصة كالسفر وهكذا..., ومنها فالإله بذاته أيقونة للتسامح.
ولكن هل التسامح هو الإفراط في المغفرة أم لكل فعل مردوده الخاص؟
وبالعودة لمبادئ ميكافللي، نجد أنه لا شأن للحاكم في التسامح, وأن لا وجود لقيمة التسامح عند أميره, بينما عند "لوك" فالفصل بين الدين والعقل واجب لتيسير الحكم, والعقل هو بذاته الذي ينطوي على إصدار القيم, أي حالة الفصل هذه جردت التسامح من جذوره الدينية ووضعته كفعل عقلاني يُستخدم عند اللزوم. وهذا حتى لا يأخذ أحد بقية المبادئ الدينية ويستغلها في تخريب السلطة باسم الدين, أي تجريد التسامح من أصوله الدينية ليس بهدف تجريده هو بذاته, بل بهدف تجريد جميع القيم الأخرى والثبات على أنها قيم عقلانية دون النظر إلى الدين.
وكذلك في التعصب، فيقول الفيلسوف الفرنسي الشهير فولتير (1694- 1778), "إن الحق في التعصب حق عبثي وهمجي، إنه حق النمور وإنفاقه بشاعة: فالنمور لا تمزق بأنيابها إلا لتأكل، أما نحن فقد أفنينا بعضنا بعضا من أجل مقاطع وردت في هذا النصّ أو ذاك".
كما كتب فولتير عن الحروب الدينية المسيحية التي قامت في الفترة بين (1562-1598), وقال "ونحن نعلم كم هو باهظ الثمن الذي دُفع منذ أن راح المسيحيون يتشاحنون ويتقاتلون بسبب العقيدة! فمنذ القرن الرابع وحتى أيامنا هذه ما فتئت الدماء تُسفك بغزارة، إن على المحارق ومنصات الإعدام وإن في ساحات الوغى".
ومنها قررت أوروبا منذ القرن السابع عشر على تربية العقول على قيمة التسامح المدني وحرية الضمير حتى لا تُهدر الدماء مرة أخرى!
أي تأسست قيمة التسامح كعرف سائد نابع من أحكام وتشريعات مادية هي في أصولها وقائع دينية/ تاريخية.
ومن هنا، يُطرح السؤال الأهم على الإطلاق: كيف يمكن اللقاء بين العقل والدين؟ فالعقل هو أكثر الأشياء المُثبتة والمؤكد على وجودها أكثر من الدين ذاته, فإذا كفر الإنسان بالدين لا يمكن أن يكفر بعقله؛ بل يقدره أكثر لأنه في رؤيته الخاصة أرشده لما هو صالح له.
لذا وفي قوام المجتمعات كان يجب أن يؤخذ التسامح مأخذ القيمة العقلانية والاستناد على الدين يأتي في مكانة المرجعية أو الخلفية التاريخية فحسب حتى يستطيع التسامح أن يُعمم على الجميع بكافة الاتجاهات والعقائد والأعراق.
فالبلدان التي تحترم تلك الاختلافات هي بالفعل من نشأت على الفهم الصحيح لذلك التدرج, بينما البلدان التي أخذت الدين قبلتها قبل العقل بات التسامح لديها قيمة متضاربة, ينادون به ولا يُفعِلون وجوده فيما بينهم, وإذا تعثر الأمر عليهم فهمه عادوا إلى الكتب السماوية حتى يتأتى لهم فهم القيمة المتضاربة؛ مما جعل الاختلاف قائما إلى وقتنا الحالي لا محالة, لأن التسامح يُستخدم كمبرر ديني وليس كقيمة عقلانية وإنسانية في المقام الأول.
وهذا ما أدى إلى ربط الأمور السياسية بالدين والتحكم في السلطة بالتشريعات الدينية والعكس في مواضع أخرى؛ ليحدث اللغط القائم وتصبح قيمة التسامح هي القيمة الضائعة المُهمشة وسط ذلك الانخراط والاندماج الشنيع؛ لتهدر القيمة وتتحول إلى مُصطلح سطحي بعدما قامت عليه فلسفات ونُظر إليه برؤى ومبادئ عدة.
فهذا لا يعني التخلي عن الهويات أو العقائد الدينية, فحسب التمسك بالهويات وفهم شؤون الدين هو أمر التسامح في المقام الأول, فإذا تمسك الإنسان بهويته أدركها وأدرك هوية غيره المختلف وتسامح معها وأعطاها قدرها ومساحتها الخاصة, دون انتهاك الحريات والتعالي على الآخر بحُجة التميز في الدين أو العرق أو اللون.
ففقدان قيمة التسامح لا يدلل إلا على تشتت هوية الذات من الأصل.
كما أن سيادة التسامح الحقيقي كان سيمنع ظهور ممارسات عدة كالتنمر الذي ساد, بل وتوغل في وجدانيات الشعوب وكاد أن يمحي قيمة التسامح من الأساس ويسيطر بذاته ووجوده, حتى باتت الجمعيات المعنية بحقوق الإنسان تقيم حملات ومبادرات للقضاء عليه, وهذا يوضح إلى أي مدى وُلد من رحم تجاهل التسامح أشياء أخرى مُخيفة تهدد بقاء الإنسان المختلف.
ومنها نسير في أزمات نفسية بل ونراها متجسدة على أرجُل, كل منهم يمشي وهو يحمل في ذاته ضغائن نحو الآخر؛ لتصبح الإشكالية اجتماعية بل ونفسية تتوارث وتتسبب في العزلة وتشتت الماهيات.
وتصل حد إرادة الكثيرين في التخلص من الماهية الأصلية وإحداث ما يسمى "بالفرنجة" ومنها اللجوء إلى البلدان التي اتبعت التسامح منذ البداية.
خلاصة القول: الاتجاه والعودة إلى قبلة التسامح ثانية بعد النفور منها كقيمة عقلانية ولكنها حين ذاك تُعامل معاملة القانون أو العرف وليس القيمة العقلية التي لا تعرف مجتمعا بل تعرف العقل البشري, التي هي منبثقة منه في الأساس.