القاهرة 30 اكتوبر 2019 الساعة 01:55 م
د. حسين عبد البصير*
الملك رمسيس الثالث هو آخر فراعنة مصر العظام. وفي فترة حكمه، عاصر نهايات واضطرابات في دول وممالك عدة في عالم البحر المتوسط مثل الحرب الطروادية وسقوط وهروب شعوب كثيرة بحثت عن أوطان جديدة. وتأثرت مصر دون شك بتلك الهجرات التي جاءت إلى الشواطئ المصرية بحثًا عن وطن جديد بعد الذي كان.
وكانت السنوات الأربع الأولى من حكم رمسيس الثالث هادئة. وأخذ في تدعيم دولته واستمر في سياسة والده الملك ست نخت لجلب الاستقرار لمصر. ولم تكن هناك مشكلات تُذكر في بلاد النوبة، فقد كانت مستعمرة خاضعة للحكم المصري. غير أن الليبيين، مع قبيلتين أخريين المشوش والسبد، تركوا الصحراء وحاولوا غزو الأرض الخصبة في غرب الدلتا المصرية. وقام الجيش المصري بقمعهم على الفور، ومن لم يتم قتله منهم، تم أسره واستعباده في مصر. ومنذ ذلك الحين، وعت البلاد المجاورة لمصر الدرس، وعرفت جيدًا ألا تستفز الفرعون وألا تثير غضبه، وإلا سوف تلقى ما لا يُحمد عقباه.
وفي العام الثامن من حكم الفرعون رمسيس الثالث، جاءت إلى مصر قبائل كبيرة العدد في طريقها إلى الاستقرار. وكانت قد دمرت الحيثيين قبل المجئ إلى مصر. وكانت هذه القبائل أو الشعوب ذات أسماء عدة غير أن الاسم الأشهر الذي تم إطلاقه عليها هو "شعوب البحر". وقام الملك رمسيس الثالث بتسجيل وتصوير حروبه وانتصاراته على شعوب البحر على جدران معبده الجنائزي العظيم بمدينة هابو بالبر الغربي لمدينة الأقصر. وسجل الملك نص حروبه ضدهم على الجدار الخارجي للصرح الثاني من الناحية الشمالية. ويعد هذا النص أطول نص هيروغليفي على المعابد معروف لدينا إلى الآن. وتم تصوير المعركة ضدهم على الجدار الشمالي الخارجي للمعبد.
وفي طريق شعوب البحر إلى مصر، توقفت في سوريا. وتقدموا نحو مصر عبر البر. ولم تكن حربًا عادية بمفهومها التقليدي المعروف لدينا، وإنما كانت هجرة ونزوحًا جماعيًا، وكان الهدف منها الاستقرار والإقامة في مصر؛ فقد كانت شعوبًا تتحرك بكل أفرادها من النساء والأطفال وكل ممتلكاتهم الأسرية المحمولة على عربات تجرها ثيران إلى مصر. وفي البحر، كان أسطول شعوب البحر معسكرًا في البحر كي يتوجه لاحتلال مصر والاستقرار فيها. وتقين الملك رمسيس الثالث بسرعة التحرك ووضع حد لإيقاف هذه الموجات البشرية الهائلة العدد، فتم إرسال قوات عسكرية على نقاط الحدود الشرقية حتى يتم إحضار الجيش المصري بشكل كامل. وحدثت الحرب على الحدود. وتم قتل الغزاة كما تصور مناظر المعركة على معبد مدينة هابو. وتم تصوير الفرعون رمسيس الثالث محاربًا على عربته الحربية في كل مكان في المعركة. وتم تصويره بحجم أكبر من كل المشاركين في المعركة وفقًا لقواعد الفن المصري القديم.
وعلى الرغم من أنه تم القضاء على حملة شعوب البحر البرية، فقد كان ما يزال هناك تهديد قادم من البحر هذه المرة. فدخل أسطول شعوب البحر إلى شرق الدلتا المصرية من خلال أحد أفرعها، غير أن الأسطول المصري كان واقفًا له بالمرصاد. وعلى الرغم من أن المصريين القدماء لم يفتخروا بكونهم بحارة عظماء، فقد حاربوا ببسالة يُحسدون عليهم ومارسوا كل فنون القتال التي عرفوها على البر في مواجهة عدوهم في الماء. وقام المصريون القدماء بحرق سفن أعدائهم تحت إشراف الفرعون العظيم رمسيس الثالث. وانتصر المصريون القدماء على هذه الشعوب المهاجمة انتصارًا عظيمًا تحت راية الإله آمون سيد آلهة مصر ورب طيبة، الأقصر، المقدس، والذي تم إرسال كل الغنائم إلى معبده.
وعاشت مصر هادئة لمدة ثلاث سنوات. ثم جاءت الاضطرابات هذه المرة من الحدود الغربية، من الليبيين ثانية، الذين تحالفوا مع قبيلة المشوش وخمس قبائل أخرى. وتسللوا كمهاجرين في منطقة غرب الدلتا المصرية لبعض السنوات، غير أنهم في العام الحادي عشر من حكم الملك رمسيس الثالث صار الأمر كغزوة. فقام الملك بقهرهم وقتل حوالي ألفين فرد منهم، وأخذ ماشيتهم وممتلكاتهم كغنائم لخزائن معبد الإله آمون.
هذا هو الملك رمسيس الثالث العظيم الذي جعل من جده الأعلى الملك رمسيس الثاني العظيم مثلاً أعلى يُحتذي به؛ فقد كان خير خلف لخير سلف، وحافظ على مصر من هجوم شعوب البحر واحتلال أرض مصر والاستقرار بها والقضاء على حضارة مصر العظيمة تحت معاول دعاة الهدم والفوضى؛ لذا صار رمسيس الثالث، في رأي بعض العلماء، آخر ملوك مصر العظام.