القاهرة 28 اكتوبر 2019 الساعة 01:48 م
د. حسين عبد البصير*
بعد انهيار السلطة المركزية في مصر الفرعونية بعد الحكم الليبي، أخذ الكوشيون أو النوبيون الموجودون إلى الجنوب ينظرون شمالاً ويتطلعون إلى حكم مصر القوية التي انهارت، غير أنهم لم ينظروا للأمر على أنه غزو للشمال، لمصر الكبيرة الأم حاضرة الثقافة ومبدعة الدين. والحقيقة أنهم رأوا أنه بتوجهم شمالاً بأنهم يرممون الدولة العظيمة وينقذون سلطة وسيادة المعبود آمون، ذلك الرب الذي دانوا له بالعبادة والقداسة والولاء منذ أمد بعيد. ولذلك عندما تحرك الملك بيعنخي أو "بيا" إلى الشمال ضد مجموعة مكونة من أربعة ملوك مصريين في العام الحادي والعشرين من حكمه الكوشي أو النوبي، أي في حوالي العام 727 قبل ميلاد السيد المسيح عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة وأتم السلام، فقد نظر إلى الأمر على اعتباره أن أولئك الملوك الأربعة كانوا بمثابة الأطفال الصغار الذين خرجوا عن الطوع وكان عليه أن يجعلهم يعودون إلى صوابهم وأن يعودوا إلى الصراط المستقيم. وقد انتصر عليهم بيعنخي وجعل منهم حلفاء وعينهم كحكام محليين في مقطاعاتهم باستثناء الأمير تف نخت الذي هرب إلى شمال الدلتا محاولاً تجميع قواته، وفي الوقت نفسه، أرسل إلى بيعنخي خطابًا بليغًا يطلب فيه منه الهدنة. ومن هنا جاء الحكم الكوشي أو النوبي إلى مصر والذي نعرفه عادة بحكم الأسرة الخامسة والعشرين الكوشية في تاريخ مصر الفرعونية.
ومن سلالة الملك الكوشي أو النوبي بعنخي، جاء بعد فترة الملك الأشهر طاهرقا الذي خلف أخاه الملك شبتكو في حكم مصر كفرعون من أصول كوشية أو نوبية متمصرة. وفي آشور، في العراق القديم، والتي سوف تدخل في صراع مع مصر الكوشية أو النوبية، تم اغتيال الملك سنحريب في مدينة نينوى العراقية الشهيرة، في عام 681 قبل ميلاد السيد المسيح، وتولى الحكم من بعده ابنه آسر حدون. ويعتبر اسم الملك طاهرقا أكثر الأسماء شهرة وارتباطًا بالأسرة الخامسة والعشرين الكوشية؛ نظرًا لأنه أكثر الفراعنة ذوي البشرة السمراء بناءً وتعميرًا في مصر. ولا يمكننا أن ننسى العمود الرائع الذي أقامه في الفناء الأول لمعبد آمون في الكرنك، والذي كان واحدًا من سلسلة من الأعمدة التي كانت تشكل بناءً عظيمًا في الكرنك. وكان الملك طاهرقا نشيطًا أيضًا في بلاد النوبة بلاده الأصلية. ففي كاوة، أعاد إعمار الموقع المهجور بعد أن كان قد أسسّه الفرعون البنّاء الملك أمنحتب الثالث الفرعون الشمس، وخصصه الملك طاهرقا لربه المحبوب الإله آمون. وأقام الملك طاهرقا بهذا الموقع بناءً عظيمًا يأتي في المرتبة الثانية بعد معبد جبل برقل الشهير.
وكانت فترة حكم الملك طاهرقا من فترات المواجهة الشرسة مع قوة الإمبراطورية الآشورية الضاربة في منطقة الشرق الأدنى القديم. ففي عسقلان على الحدود المصرية-الفلسطينية، واجه الملك الآشوري آسر حدون في عام 673 قبل ميلاد السيد المسيح القوى المتجمعة مع المدينة المتمردة وكانت معها مصر. وفي عام 671قبل الميلاد، هاجم الملك الآشوري آسر حدون مصر وتعمق فيها بشدة حتى احتل العاصمة المصرية الأزلية منف، وأسر ولي العهد المنتظر وكل أفراد عائلة الملك طاهرقا ما عدا الملك طاهرقا نفسه الذي هرب إلى الجنوب إلى مدينة طيبة أو الأقصر الحالية. وفي عام 669 قبل الميلاد، عادالملك الآشوري آسر حدون إلى مصر، غير أنه مات في الطريق إلى مصر، وخلفه في الحكم ابنه الملك الآشوري الأشهر آشوربانبيال والذي تراجع عن غزو مصر مؤقتًا. ثم قام الملك الآشوري آشوربانبيال بغزو مصر لاحقًا والقضاء على كل نبلاء الشمال ما عدا عائلة نخاو الأول الذي سوف يأتي من صلبه ملوك الأسرة السادسة والعشرين الصاوية، والتي جاءت من مدينة سايس في وسط الدلتا المصرية. وبذلك فقد طاهرقا العاصمة منف ثانية، وهرب إلى الجنوب، إلى ما وراء طيبة إلى عاصمته البعيدة ناباتا في أقصى الجنوب تلك المرة. وبقى عمدة طيبة النبيل الشهير مونتو إم حات محاصرًا يواجه قسوة الغزو الآشوري الذي دمر طيبة وآثارها العريقة انتقامًا من مصر وحكامها الكوشيين الذين كانوا يعاونون حكام بلاد الشام ضد الحكم الآشوري. واستسلم عمدة طيبة مونتو إم حات. وفي عام 665 قبل الميلاد، اختار طاهرقا ابن عمه تانوت آماني كولي لعهده وكشريكه في الحكم. ومات طاهرقا في العام التالي.
وهكذا انتهى حكم دولة كوش الضعيفة التي لم تستطع أن تحكم مصر القوية التي من رحمها جاء ملوك الأسرة التالية، وأعني الأسرة السادسة والعشرين الصاوية، الذين وحدّوا مصر تحت حكم وطني، وأعادوا لمصر مجدها القديم لفترة قصيرة من الزمن قبل أفول نجم مصر الفرعونية.