القاهرة 22 اكتوبر 2019 الساعة 10:13 ص
كتبت: نضال ممدوح
في مقدمته لمذكرات جده الإيطالي اليهودي موندو كليمون موسيري المعنونة " الكيلو متر الذهبي .. العالم المفقود للإيطاليين المصريين" والصادر عن المركز القومي للترجمة? بترجمة لــ أماني فوزي حبشي? يقدم دانيال فيشمان في توطئته للكتاب? صورة للقاهرة مغايرة تماما عن تلك التي رسمها جده في حكاياته عن مصر التي ولد وعاش فيها وحتي خروجه منها في العام 1956 فبينما جده يحكي عن القاهرة كمدينة من أجمل عواصم العالم، وقتئذٍ كان بعض نسائها ينافسن في الأناقة نساء باريس? كان أول إنطباع لــ"دانيال:" لم تتمكن نوافذ حجرة الفندق المغلقة من منع ضجيج نفير السيارات الآتي من شوارع العاصمة".
في ذلك العمل التوثيقي رصد لملامح الحياة الاجتماعية للجاليات الأجنبية في مصر وبالضرورة، طبقة الأرستقراطية المصرية من الأسرة العلوية أو طبقة النصف في المئة، المرتبطة بهم، أسهب مؤلفها في رسمها وإن كان من جانب أحادي? فطوال العمل لم نتعرف علي أية شخصية مصرية سوى الخادمة "نصرة" وجمال المطعني الصحفي بالأهرام? ومحمد فرحان الذي رفضته عائلة موسيري، عندما تقدم للزواج من ابنتهم لوريتا. كما رصد الكتاب ملامح الحياة المترفة التي حظي بها الأجانب في مصر? وكيف أنهم لاذوا إليها هربا من الحروب والفقر في بلدانهم وبحثا عن فرص أفضل في الحياة? فكانت قبلتهم الأولي مصر? بداية من من منتصف القرن التاسع عشر.
كان التناقض بين الأجانب والأثرياء المصريين من جهة، والمواطن البسيط من جهة أخرى، صارخاً، لم يحاول الكاتب الاقتراب منه؛ بل كال القدح والذم لثورة 1952 وجمال عبدالناصر، لا لشيء سوى أنه انحاز للمعدمين، ووزع عليهم الأراضي التي كانت قد استولت عليها أسرة محمد علي? وغيره من الأجانب? فكما يشير أستاذ الاقتصاد الراحل "خليل حسن خليل" في سيرته الذاتية كيف أن حياته انقلبت من النقيض للنقيض? وتدهورت حالة أسرته التي كانت تنتمي للطبقة الوسطى للفقر والعوز بعد أن استولى المرابي اليوناني على أرض والده.
يقول خليل في مذكراته المعنونة "الوسية:" نصب اليونانيون وغيرهم هذا الشرك لوالدي ولأمثاله من أعيان مصر وفلاحيها? واقتضوهم أثمانا غالية للطعام والشراب وأقرضوهم أو بعبارة أخري? كتبوا عليهم إيصالات بقيمة الطعام والشراب. وفرضوا عليهم فائدة عالية مخيفة علي هذه الديون? تتراكم وتتركب عبر السنين. بهذه الطريقة استطاع الجرسونات اليونانيون أن يكونوا ثروات طائلة في مصر. وكان كل ما تنتجه أرض المدينين يخصص لسداد الفوائد الفاحشة. فإذا لم يكف دخل الأرض? فهم ينتزعون الأرض من مالكها وفاء لديون النبيذ والروم والزيتون والجبنة الرومي. كانت هذه الخمارات والمطاعم والمقاهي التي أقامها اليونانيون في بلادنا? هي كل ما نعمت به مصر من الحضارة الإغريقية الحديثة.
ــ الكيلو متر الذهبي مجتمع النصف في المائة
من المتعارف عليه أن مصر ما قبل ثورة يوليو 1952 كانت تضم أطيافا بشرية وأجناسا عديدة من أول اليونانيين والأرمن? مرورا بالفرنسيين والإيطاليين الشوام والمغاربة.. إلخ، هذه الجنسيات? وأن الشعب المصري كان معروفا بالتسامح والانفتاح على الآخر وقبوله، إلا أن السؤال الذي يطرح نفسه: أين كان يقع المواطن المصري صاحب الأرض من ثروات البلاد? التي احتكرها ونهبها هؤلاء الأجانب. تمتع الأجنبي في مصر بكل المزايا التي حرم منها المصري صاحب البلد? سواء في التمتع بالثروات والمناصب السياسية والقيادي؛ بل هناك من هؤلاء الأجانب من أسهم بشكل مباشر وكبير في إفقار الفلاح المصري من خلال إغراقه في الديون ومن ثم الاستيلاء على ما يملكه من أراض قليلة? كما سبق وأشرنا إليه من حديث خليل حسن خليل.
يشير مؤلف الكتاب إلي أن حي الفلكي بوسط القاهرة كان مركز تجمع الإيطاليين في مصر: كانت عائلة موسيري تعيش في شارع الفلكي? وكان الشارع جزءا صغيرا مما يطلق عليه الكيلو متر الذهبي? هو جزء صغير من القاهرة كان مركز إنتاج وإدارة كل ثروات البلد? والذي فيه أيضا يتمركز كل الأجانب والمصريين من طبقة معينة? مقاما وثقافة.
وبينما كانت أميرات أسرة محمد علي وسيدات الطبقات الثرية? يقمن بجمع التبرعات للفقراء فيما عرف بمشروع "القرش لمحاربة الحفاء"? وبينما كان الفلاح المصري يختار اللون الأزرق لجلبابه حتي لا تظهر قذارته فلا يضطر لغسله فلم يكن يملك غيره? كان الأجانب في مصر يعيشون ببذخ فاحش سواء في المسكن أو الملبس والعمل وحتي أوقات اللهو والفراغ وكيفية قضائها. يقول "فيشمان" راسما شكل الحياة اليومية لعائلة جده:" كان مدخل منزلهم كفناء صغير به نافورة في الوسط? في الدور الأرضي كانت توجد حجرات الاستقبال بالأرائك والمقاعد من الطراز الفرنسي موضوعة بطول الأروقة والممرات الملتوية. كان يوجد درج صغير يؤدي إلى الدور الأعلي حيث توجد مجموعة من الحجرات مبنية بلا منطق معين ولا تخطيط? مع عتبات صغيرة تفصل الممرات التي تقود لكل حجرة من الحجرات.
كان هذا هو عالم "الكيلو متر الذهبي" هنا كانوا يعملون من الثامنة والنصف صباحا حتى الواحدة ظهرا? كان الرجال يتقابلون بعد ذلك في القهوة ليتبادلوا حكاياتهم أمام مشروب بارد? قبل العودة إلى المنزل? والذي عادة لا يبعد كثيرا عن المكتب. كانوا يعودون مرة أخرى إلى العمل في الساعة الرابعة عصرا? ويمكثون هناك إلى الساعة السابعة مساء. لكن كان البعض يفضل? أثناء فترة الراحة? الذهاب إلى حمام السباحة? أو نادي الجزيرة الرياضي? أو نادي الروضة أو نادي التوفيقية للتنس? بدلا من العودة إلي المنزل.
ــ سعد زغلول يطالب القنصل البريطاني بالاستقلال في رأس البر
يرسم مؤلف الكتاب ملامح للجغرافيا المصرية? وكيف أثرت على من عاشوا فيها من الأجانب? إلا أنهم رويدا رويدا استطاعوا التأقلم مع حرارة الجو صيفا? أو حتى رياح الخماسين وكيفية مواجهتها. مائة يوم في رأس البر كانت تقضيها عائلة موسيري هربا من صيف القاهرة اللاهب:" في كل عام وفي نهاية شهر يونيو? عندما تصبح الحرارة غير محتملة? كانت عبارة: هيا لنذهب إلى الإسكندرية مثلا. كانت السيارة تسير في الطريق الزراعي الذي يمر بطنطا? وأحيانا الطريق الصحراوي? الذي كان عبارة عن شريط طويل مسطح? يصل بين طرفي الدلتا. كانت رأس البر جزيرة من الحجارة والرمال? بين النيل والبحر المتوسط? وكانت تغطيها المياه في شهور السنة المتنوعة? كانت مقسمة إلى ستة صفوف من الكبائن والأكشاك? وتفصل كل منها عن الأخرى بطريق طويل وعريض. كان يوجد في أهم تلك الشوارع فندق كازينو سبورتنج? بينما توجد المقاهي في الصف الثاني? ومكاتب البريد والتلغراف. وخلفها كانت توجد السوق? وفي الجهة الأخرى كانت توجد منازل السكان المحليين? حيث خزانات المياه والتي كانت تصل من دمياط داخل عربات المياه. في شهر أغسطس كان يفتح سد فارسكور وكان النيل يكسب بذلك كميات من المياه. وتصبح المياه مرة أخرى عذبة ويمكن شربها بعد غليها. كانت عائلة موسيري تسكن أعشاشا متينة من الخوص? كان يتم تركيبها وفكها كل عام? لم يكن بناء قويا ولكنه طموح? به العديد من الدرجات والشرفات? وأحيانا كان يتم تركيبه على طابقين? بكابينة تطل مباشرة على الشاطئ.
يتطرق "فيشمان" إلى واقعة طريفة كان جده شاهد عيان عليها? بطلها زعيم ثورة 19 سعد زغلول. بينما كان موندو يتجول على الشاطئ ممتطيا حمارا? جاء في الاتجاه المقابل له? تتبعه جماعة تحييه? رجل نحيف ممتطيا بدوره ظهر حمار? تهتز قدماه الطويلتان? ممسكا باللجام وشمسية من القطن في يد وفي اليد الأخرى كان يحرك ببطء طاردة الناموس ذات المقبض العاجي? كان يضع فوق رأسه منديلا بسيطا من الحرير الأبيض وهكذا وبالأسلوب نفسه الذي ظهر به على الشاطئ? تقدم سعد زغلول في أحد الأيام? وذهب بلا ميعاد سابق إلى القنصل العام البريطاني? وبنبرة هادئة ولكن حاسمة? قدم له طلبه البسيط: الاستقلال التام لبلده. كان لدى سعد زغلول الكثير من الوقت ليفكر مرة أخري في اقتراحه؛ لأن ما منحه له الإنجليز أن ينفي أولا إلى مالطة ثم لربما ليزيدوا من تطلعاته إلى مكان أبعد، إلى جزر سيشيل.