القاهرة 22 اكتوبر 2019 الساعة 10:09 ص
قصة: ناصر إجو ـ المغرب
على طاولة صنعت من خشب قديم، ضربنا موعدا للحكاية، وجدته ينتظرني بين كثافة دخان السجائر، ربما لم يفارق هذا المكان مند زمن بعيد، اللون الرمادي يخفي الكثير من أنوار المصباح التقليدي، ونور لهب الشموع المشتعلة في شكل دائري، محيطة بالمصباح الكبير، كعبيد وسيدهم، يحرق سيجارة وراء أخرى، يرمي بالدخان في السماء، كقطار الفحم الحجري، يستمر في رشفات متقطعة من كوب قهوة سوداء، كأنها ريش غراب معصور في طاس بيضاء.
بقامته المتوسطة يجلس على كرسي من نفس خشب الطاولة، يتكأ بيديه على جانبيه، ممددا القدمين تحت الطاولة، كأنه يرتاح من عبء أزيل من على ظهره للتو، شعره أشعث بالزمن، وتأخر حلاقته، بشرته كلون القمح الأطلسي، تعلو محياه لحية بشعيرات متفرقة، بجانبه الأيسر جريدة وصل بها القدم منتهاه، وتناثرت زوايا أوراقها كأن فأرا درب أسنانه فيها، واهما معدته بالأكل في ليال عجاف، نقيض المسيح، لصاحب المطرقة الجينالوجية نيتشه على جانبه الأيمن، ، قد يكون هو الأخر يود قلب كل القيم، على غلاف الكتاب الأمامي قطرات جامدة من الشمع الذائب بنار تتغذى على خيط يسكن قلبه، تماما فوق شارب نيتشه تجمدت القطرات، وبقايا التبغ المستهلك تحيط بجوانبه.
لا يؤثر على جلسته لا الداخل ولا المغادر لجحره، أقصد الحشرات الزائرة لهذه التحفة الآدمية، أما الإنسان فقد مات مند زمن بعيد، لم يبق منه سوى هيكل تسكنه الذئاب الماكرة في غالب الأحيان، حسب تعبيره.
لم أحيِه، ولم يفعل، إلا بابتسامة صامتة، نحتت في جوانب عينيه خطوطا غير متوازية، تجتمع عند العين وتفترق عند ملتقى الشعر واللحية، لتنغلق عيناه الصغيرتان في الأصل، كأنه يتحقق من أن ثمة زائرا أتى إليه.
في ذاك البيت، لا وجود لحاسوب، لا هاتف خلوي، لا رائحة للتكنولوجيا نهائيا، عاد بي منظر الحجرة إلى بداية الثورة الصناعية، لولا قلم جاف أسود، وضع على مفكرة صغيرة ذات لون أزرق داكن، أثار اللون الأسود الذي تحمله معظم أشيائه فضولي، فقمت بتصويب عيني إلى كل ركن وكل زاوية، أردت معرفة قصة هذا الكائن الغريب.
في ريف بعيد عن ضجيج الأرواح البشرية، في منزل موغل في القدم، يعلو شعر العنكبوت أركان أغلب غرفه، يكتري حجرته، ربما يستمد وجوده من لا وجود أحد قربه، يعرف نفسه بواسطة العزلة، يقول دائما إنه ليس وحيدا، مادام هو ونفسه معا، فالعزلة ليست هي الوحدة، فالوحدة مفروضة والعزلة اختيار، لقد جعله الألم يغوص في الذات البشرية، من خلال ذاته.
يشير بيده، بعد أن تأمل في وجودي، إلى كرسي صغير بركن الغرفة، عليه صحن من الطين، مزخرف بنقوش من حروف "تيفيناغ" الأمازيغية، ظننت أن الصحن مليء بالطعام، كوني جائعا، بعد ترددي قال لي: بصوت غامض، كأنه يصرخ وسط بئر عميق.
_ ألن تجلس؟
فهمت أنه يريدني أن آخذ الكرسي... هززت رأسي.. ثم أجبت:
_ حسنا.
رمقت عيناي باخرة شراعية صغيرة، وضعت على أرضية البيت، كأنها حلم كان يراوده في صغره، ولم يتحقق، لذلك يحققه في مخيلته كلما ركب على ظهر المركب بذاكرته، عدت بمقلتي إلى الطاولة، بعد أن وضعت الكرسي في مكان قبالته، اتكأت على الخلفية القابلة للانكسار في أية لحظة، وذلك لقدم المادة التي صنع منها الكرسي.
كتلة غامضة أمامي، تحاكي واقع مستقبل البلاد، جسد يبدو عليه فقدان الروح، يقول نيتشه، "هناك أناس يزدادون بعد مماتهم" وفي المقابل "هناك أناس ماتوا قبل ازديادهم" وفي الغالب هؤلاء قتلوا في مهد حياتهم، أعدموا حتى من وهم الحياة، إن قتل الإنسان، ليس فقط إخراج الروح من جسد الفرد، ثم دفنه تحت التراب، بل إن أخطر موت هو اختفاء الأمل من كيان الشعوب والأمم.
سألته: بعد أن وضعت بعض الأوراق البيضاء أمامي، ثم عليها قلم جاف، وعبأت كوبا من الماء، فرميته في بالوعة حلقي.
_ كيف لي أن أعرف قصتك؟
تسمر قليلا، وذهب بسيجارته نحو فمه، مص ما تبقى منها، حتى كاد أن يلتهم تلك القطعة الصفراء في مؤخرة السيجارة، ثم أدار عينيه نحو الجريدة الموضوعة على الطاولة، ثم قال:
_ لست أدري إن كانت ستروقك؟ لكن إن كنت مصرا، فدعني أعكر مزاجك بها، لكن لابد من أن تقابل شخصيات أخرى، صنعت أجزاء من حياتي...
عدلت في جلستي، كأني أستعد لمشاهدة فيلم مرعب على شاشة كبيرة، متحمسا ومترقبا... ثم قلت:
_لست أدري إن كانت هذه الشخصيات ستقابلني، لكن سأحاول أن أبني قصتك كليا، إن استطعت..
أشعل الولاعة بيده اليمنى، ممسكا الضحية رقم... من السجائر بيسراه، واضعا مؤخرتها في فمه، ثم انطلق في حكيه.