القاهرة 15 اكتوبر 2019 الساعة 11:16 ص
شهد اتحاد كتاب مصر فرع الإسكندرية مناقشة أدبية لديوان الشاعر محمد الشحات "سيعود من بلد بعيد" والذى صدر مؤخرا عن دار الأدهم، حيث قام الشاعر والناقد الدكتور أحمد صلاح كامل بتقديم دراسة علمية مفصلة عن الديوان إلى جانب قيام الشاعر والروائى أحمد فضل شبلول أحد أبناء جيل الشحات تقديم شهادة مهمة عن تجربة شعراء السبعينيات، وقدم الشاعر والناقد أشرف قاسم قراءة معمقة عن الديوان، ولم يكتف الشاعر أشرف دسوقي علي بإدارة الندوة بل قدم هو أيضا بعض اللمحات النقدية تمهيدا لإعداد دراسة مفصلة عن الديوان.
شهدت الندوة حضورا مكثفا من نقاد وشعراء الثغر تقدمهم الدكتور محمد زكريا عنانى رئيس الاتحاد وعدد كبير من الشعراء والنقاد: الشاعر عبد المنعم سالم والشاعر محمود الديدمونى.
قال د.أحمد صلاح كامل، خلال قراءته النقدية: يحمل ديوان محمد الشحات عنوانًا يوحي باستشراف حدثٍ مأمول في صورة بشرى تتمناها النفس "نفس الشاعر" فمن الذي سيعود؟ هل هو ابنه المسافر لبلاد الغربة؟ أم ذاته المنهزمة بالاغتراب المقهورة بذكريات لا تؤجج إلا الوحدة والذبول الروحي؟ هذه الذات المؤرقة بالرحيل والفقد تدخلك عالمًا زاخرًا بالتفاصيل الصغيرة الموحية والمؤثرة على بؤرة إحساسك لتعيش معها أزمتها ومأساتها ولتكتشف في النهاية أنها مأساتك أنت أيضًا غير أنك تلهيت عنها وواجهت الشاعر بها. قرأت الديوان وأنا أحسبني أمام تجربة شعرية تكرس لأثر غربة الأبناء.
وأضاف: ورحيلهم عن الآباء، فإذا بي أمام تجربة شعرية ثرية تؤصل لمعنى الغربة بمفهومها الإنساني الكبير، كلنا راحل ومغترب وكلنا فاقد ومفقود، والشاعر لا ينطلق في ديوانه من قضايا فلسفية عقلية بقدر ما ينطلق من وجدان مأزوم وقلب مفجوع بالغربة والاغتراب، هو لا يدعي الحكمة ولا يتحلى بها أمام مأساته لكنه دون أن يشعر يضع أيدينا على الحقائق الكبيرة حينما تصبح تفاصيل الذكريات الصغيرة وقودًا تسير به الحياة وتشتعل به في آن واحد، هذه الذكريات التي تستحضر الأمل وتفسد الواقع، ما أسوأ أن يتحول المحبوب إلى صورة في إطار على الحائط، وما أسوأ أن نبكي بين يدي طفلة صغيرة ألم الفراق، أي وطن هذا الذي يجبرنا على الغربة منفيين عن أحبتنا أو يسلمنا للاغتراب بين الناس؟!
قرأت الديوان وأحسبني في حاجة ملحة لقراءته ثانية فقد فاجأني الشاعر الكبير بهذا السرد الشعري المتدفق والساحر في قدرته على استحضار الحالة، إننا أمام شاعر كبير ظلمته الساحة الثقافية والمتابعات النقدية فلم يعط بعضًا من حقه برغم غزارة إنتاجه الشعري وتبنيه لهم قومي كبير ومشروع شعري نبيل قلما نجد من يماثله فيه. تحية تقدير ومحبه لهذا الشاعر الكبير صديقي محمد الشحات الذي لم ألتق به من قبل .
وكانت شهادة الشاعر والروائى أحمد فضل شبلول أحد المجايلين للشاعر والذى استعرض فيها الصعوبات التى تعرض لها بعض من أبناء جيله وتهميشهم من قبل بعض الجماعات التى ظهرت فى ذلك الوقت ومحاولة إقصائهم ، إلا أنهم واصلوا إبداعاهم، وفرد لهم الدكتور عبد القادر القط صفحات مجلة إبداع، وإنهم استمروا من منطلق إيمانهم بموهبتهم بالإبداع، حيث اختفى الكثير من أسماء تلك الجماعات، وتحولوا بعد ذلك إلى قصيدة النثر، مع استمرار محمد الشحات متماسكا ومقاتلا بشكل قصيدة التفعيلة، وإن الغريب أن محمد الشحات وهو يعمل بالصحافة لم يشتغل بأخبار الأدب واشتغل بأخبار الرياضة وربما كان ذلك موقفا هروبيا مما يحدث فى الوسط الأدبى فى مصر، ومع ذلك قدم لنا تجربة فريدة فى ديوانه الذى نحتفى به اليوم بالإسكندرية، وهى تجربة مهمة لابد من الوقوف أمامها طويلا حيث تتناول قضية الغربة والاغتراب، وكلنا نعانى منها بشكل أو بأخر .
وجاءت دراسة الناقد والشاعر أشرف قاسم، التى حملت عنوان سيعود من بلد بعيد.. سيرة ذاتية لمجتمع مأزوم؛ بأن تجربة الغربة ستظل هي أقسى التجارب الحياتية التي يمر بها الإنسان في حياته، بما تذيقه من عذابات وهم وحزن، وبما تخلفه في نفسه من لوعة وشوق وحنين إلى الأهل والوطن والصحاب، وملاعب الطفولة والذكريات وتجربة الغربة في الشعر العربي بشكل عام هي رافد مهم، لما لها من خصوصية تميزها، ولارتباطها بواقع اجتماعي وسياسي مأزوم.
في تجربة جديدة من نوعها في شعرنا العربي يفرد الشاعر الكبير محمد الشحات ديوانه الجديد "سيعود من بلد بعيد" لوصف وتوصيف حالة الغربة التي يحياها ولده المهاجر، وحالة الغربة التي يحياها الأب، وما يشعر به هذا الأب تجاه ولده، من شوق، وحنين، وعذاب وألم روحي يقض مضجعه كلما نبش - الأب - في صندوق الذكريات، واستعاد طفولة ولده المهاجر بدقائقها ، وتفاصيلها، وبراءتها الأولى:
ويضيف قاسم: والحنين والغربة مترادفان، وتستتبعهما الكثير من الدوال التي تجسد هذا الصراع الذي يعتمل داخل الأب، والذي يرسمه شعرا من خلال الأفعال المضارعة التي تفيد الديمومة وتجدد الألم والشوق، والتوق إلى وجه الغائب.
يستذكر الشاعر - الأب - كل تفاصيل الماضي، في محاولات منه لمواساة روحه، في لوحات تعبيرية متتابعة عبر نصوص الديوان، ملتمسا العزاء لقلبه الذي ينازعه الشوق إلى ولده، راسمًا له صورة الوطن في كل سطر من سطور الديوان:
وخطاب محمد الشحات الشعري في هذا الديوان يعتمد على جماليات الجملة الشعرية المصطبغة بصبغة التساؤل حينًا، وبصبغة المساءلة أحيانًا أخرى، والتساؤل عن جدوى الاغتراب وإعادة طرح الأسئلة الكبرى التي أرقت غيره من الشعراء الذين تناولوا تلك الظاهرة ببعديها النفسي والمكاني، وأن مساءلة الوطن / الأم / عما آلت إليه أحواله حتى فكر أبناؤه في الهجرة، وأكرهوا على الاغتراب، فعلى الرغم من ذاتية وخصوصية التجربة الشعرية في هذا الديوان إلا أنه في ذات الوقت بمثابة سيرة ذاتية لمجتمع متشظٍّ، محاصر بين مطرقة الظرف السياسي، وسندان الظرف الاجتماعي، وكلاهما أقسى من الآخر : وطن لا نعرفه.
ويواصل الناقد إبحاره فى الديوان بقوله : تبتعد لغة الشاعر عن اللغة النمطية المكررة، وذلك من خلال شاعرية اللفظة، وإشارية المعنى، وإيحائية الصورة الشعرية، مكونة أفقا جماليا مختلفا في بعده الإنساني الذي هو أساس تجربة الشاعر في هذا الديوان.
إذن لغة الشاعر هنا لغة حية نابضة، ذات خصوصية في معناها ومبناها، تنم عن ثقافة وطول تمرس، منطبعة بطابع إنساني حتى في رصدها للتحولات الاجتماعية التي أدت إلى حالة الاغتراب الذي يحياه الأب / الشاعر / والابن / المغترب / معا، كنموذج مصغر من حالة الاغتراب المجتمعي الذي يعيشه أبناء هذا الوطن.
واختتم دراسته بقوله: وفي النهاية لا يسعني إلا أن أحيي الشاعر محمد الشحات على تلك التجربة المهمة في مسيرة القصيدة العربية، آملًا أن تفتح قراءتي هذه بابًا صغيرًا لقراءات أشمل وأعم .