القاهرة 08 اكتوبر 2019 الساعة 01:52 م
بقلم: فِيلِپ ك. دِك "Philip K. Dick"
العنوان الأصلي للقصة: The Eyes Have It
ترجمة: صلاح صبري
الصدفة وحدها هي التي قادتني إلى اكتشاف ذلك الغزو المذهل من قِبَل كائنات فضائية لكوكب الأرض. حتى الآن، لم أفعل أي شيء؛ لا أعرف كيف أتصرف. خاطبت الحكومة، فأرسلوا لي كتيبًا عن كيفية إصلاح المنازل الخشبية وصيانتها. على أية حال، الأمر كله معروف؛ فلستُ أول من اكتشف هذا. ربما أيضًا كان كل شيء تحت السيطرة.
كنت جالسًا في مقعدي الوثير، أقلِّب صفحات كتاب تركه شخص ما في الحافلة، عندما عثرتُ بالصدفة على العلامة التي دلتني إلى أول الخيط. لوهلةٍ، ظللتُ مشدوهًا. مرت فترة قبل أن أتدبر الأمر برمته. بعد أن استوعبته، بدا لي غريبًا أنني لم أنتبه منذ اللحظة الأولى.
كان واضحًا أن العلامة تخص كائنات غير آدمية ذات صفات خارقة، ولا تنتمي لكوكب الأرض. دعوني أبادر فأقول إنها تتنكر عادة في هيئة بشر. غير أن تنكرها صار مكشوفًا بسبب ملاحظات المؤلف اللاحقة. كان واضحًا منذ اللحظة الأولى أن المؤلف يعرف كل شيء. كان يعرف كل شيء.. ويحتويه. كان السطر- الذي ما زلتُ حتى الآن أرتجف كلما تذكرته- يقول:
... كانت عيناه تدوران ببطء في أرجاء الغرفة.
داهمتني قشعريرة مبهمة. حاولتُ أن أتخيل العينين. هل كانتا تدوران مثل قطعة نقود في الهواء؟ الفقرة بينت غير ذلك؛ يبدو أنهما كانتا تتحركان في الهواء، وتتوغلان. بسرعة كبيرة نسبيًّا، كما هو واضح. لم يندهش أحد من شخصيات الحكاية. هذا ما لفت نظري. ليس ثمة بادرة اندهاش من مثل هذا الأمر الشديد الغرابة. فيما بعد، تم إيضاح هذه المسألة.
... انتقلت عيناه من شخص لآخر.
هذا ما حدث باختصار. من الواضح أن عينيه انفصلتا تمامًا عن بقية جسده. راح قلبي يدق بعنف، وانحبست أنفاسي. فقد وقعتُ بالصدفة على فقرة تحكي بلا قصد عن نوع غير مألوف على الإطلاق. ولكن، بالنسبة لشخصيات هذا الكتاب، كان نوعًا طبيعيًّا تمامًا.. الأمر الذي يدل على أنهم من نفس الفصيلة.
والمؤلف؟ بطيئًا، بدأ الشك يثور في عقلي. كان الكاتب يتعامل مع الموضوع ببساطة أكثر مما ينبغي. بوضوح شديد، كان يشعر أنه شيء عادي تمامًا. لم يحاول مطلقًا أن يخفي هذا الأمر. تواصلت الحكاية:
... حاليًّا عيناه مثبتتان على چوليا.
چوليا، كونها امرأةً، فإن لديها على الأقل ميزة أن تشعر بالغضب. يصفها المؤلف: محمرة الوجه، عاقدة حاجبيها غضبًا. عندئذ، تنفستُ الصعداء. لم يكونوا جميعًا كائنات غير أرضية. يتواصل السرد:
بهدوء، وببطء شديد، راحت عيناه تتفحصان كل تفاصيلها.
يا للهول! ولكن الفتاة استدارت حينئذ خارجة في غضب، وانتهى الأمر. استلقيتُ في الكرسي، وقد تسارعت أنفاسي في رعب. لاحظتني زوجتي وأفراد عائلتي متعجبين.
تساءلت زوجتي: "ماذا بكَ يا عزيزي؟"
لم أستطِع إخبارها. فأمر مثل هذا يفوق كثيرًا قدرة أي شخص عادي على الاستيعاب. رأيتُ أن من الواجب أن أحتفظ به لنفسي. أجبتها شاهقًا: "لا شيء". قفزتُ من مكاني، وخطفتُ الكتاب، ثم خرجتُ مسرعًا من الغرفة.
في الجراچ، واصلتُ القراءة. كان هناك المزيد. مرتعدًا، قرأتُ الفقرة الكاشفة التالية:
لف ذراعه حول چوليا. طلبت منه عندئذ أن ينزع ذراعه. على الفور، فعل ذلك وهو يبتسم. لا يقول الكتاب ماذا فعل الرفيق بالذراع بعد أن نزعها. ربما تركها منتصبة في الركن. ربما ألقى بها بعيدًا. لا يهمني. على أية حال، الحقيقة كاملة كانت هناك، تحدق في عينيَّ مباشرة.
هذا نوع من مخلوقات قادرة على نزع بعض أعضائها كيفما شاءت. العينين، الذراعين، وربما أكثر من ذلك. دون أن يهتز لها جفن. معرفتي بالبيولوچيا أفادنتي في هذه النقطة. واضح أنها كائنات بسيطة، وحيدة الخلية، نوع من الكائنات البدائية ذات الخلية الواحدة. كائنات ليست أكثر تطورًا من نجمة البحر. كما تعلم، تستطيع نجمة البحر أن تفعل الشيء نفسه.
تابعتُ القراءة. ووصلتُ إلى هذا الكشف المذهل، ألقاه المؤلف بهدوء ومن غير أن يرف له جفن:
... أمام دار السينما، انشطرنا. اتجه بعضنا للداخل، وبعضنا للـ"كافيه" لتناول العشاء.
انقسام ثنائي، أمر واضح جدًّا. تنقسم الخلية نصفين منتجة خليتين. ربما ذهبت الأنصاف السفلى إلى الـ"كافيه"، كونها الأبعد، بينما اتجهت الأنصاف العليا إلى السينما. واصلتُ القراءة ويداي ترتعشان. شيء ما هنا باغتني. راح عقلي يدور بسرعة وأنا أقرأ هذه الفقرة:
أخشى أن يكون ذلك أمرًا لا شك فيه. لقد فقد المسكين بِبني "Bibney" رأسه ثانية.
تلتها هذه الجملة:
... ومن الواضح أن بوب "Bob" ليس لديه أحشاء. ولكن ببني راح يتجول هنا وهناك، وكذلك فعل الشخص التالي. غير أن الشخص التالي كان غريبًا جدًّا. سرعان ما وصفه المؤلف:
... ليس لديه مخ على الإطلاق.
ليس ثمة شك فيما تقوله الفقرة التالية. چوليا، التي ظننتها الوحيدة الطبيعية، تبين لي أنها مخلوقة فضائية كالآخرين:
... بمنتهى الحرص والتأني، أعطت چوليا قلبها للشاب.
لم تذكر الفقرة ما صار إليه القلب في النهاية، ولكنني لم أهتم في واقع الأمر. كان واضحًا أن چوليا واصلت حياتها كالمعتاد، مثل غيرها من شخصيات في هذا الكتاب. بلا قلب، ولا ذراعين، ولا مخ، ولا أحشاء، ينقسمون ثنائيًّا عندما يتطلب الأمر ذلك.
... وهكذا أعطته يدها.
أحسست بالغثيان. ذلك الوغد أخذ يدها وكذلك قلبها. يقشعر بدني كلما تذكرت ما فعله بهما في ذلك الوقت.
... أخذ ذراعها.
غير قانع بالانتظار، كان عليه أن يفككها بمعرفته. مكفهرًّا، أغلقت الكتاب بعنف، وانتفضت واقفًا على قدميَّ. ولكنني لم أستطع في الوقت المناسب أن أفلت من الإشارة الأخيرة لتلك الأعضاء التشريحية الصغيرة الهانئة البال، التي ألقت بي إلى أول الطريق:
... راحت عيناها تتبعانه أينما ذهب، طوال الطريق، وعبر المروج.
اندفعت خارجًا من الجراچ، وعائدًا إلى داخل البيت الدافئ، وكأن تلك الأشياء اللعينة تطاردني. زوجتي وأطفالي كانوا يلعبون "بنك الحظ" في المطبخ. شاركتهم اللعب بحماسة محمومة، وجبين مكفهر، وأسنان مصطكة.
كنت سئمتُ من هذا الموضوع. لا أريد أن أسمع المزيد عنه. دعهم يأتون. دعهم يغزون الأرض. لا أريد أن أتورط فيه.
لا طاقة عندي لمثل هذا الأمر.