القاهرة 28 سبتمبر 2019 الساعة 02:19 م
أحمد حسن
"لا شك أنه كان رجلاً وطنياً"، تلك شهادة من عاصروه، من ناصروه ومن وقفوا ضده، من منحهم سلطات ومن منحهم جدران المعتقلات، لم تفتح شوارع وطرقات القاهرة أثناء ثورة يوليو 1952م إلا بذكر كلمة "ناصر" فهي كلمة السر المتفق عليها بين الضباط الأحرار، عاش عبد الناصر فترة فارقة في تاريخ مصر، فهي فترة تحول من الملكية إلى الجمهورية، أصبح عبد الناصر شخصية عالمية فلا يقل أهمية عن جيفارا وغاندي ومانديلا، أطلق أسمه على شوارع بإفريقيا و أمريكا اللاتينية، تبنى مشروع القومية العربية و مشروع التأميم والتمصير والتحول الاشتراكي، وبدأ بالتحالف مع سوريا، ولكنها لم تستمر طويلاً، نظراً لاختلاف المزاج الجغرافي و نظام السلطة واختلاف المنهج الاشتراكي المصري عن الرأسمالي السوري،فالشعب السوري اشتهر بالتحرر، فهو شعب أشتهر بالتجارة ولم يقبل فرض نظام وقوانين اشتراكية، وقد توفي عبد الناصر خلال حياته أثناءانفصال مصر وسوريا، ولم يتأثر بنكسة 1967م بقدر تأثره بهذا الانفصال.
خسر عبد الناصر صديق عمره المشير عبد الحكيم عامر عقب نكسة 1967م، كان عبد الناصر يثق في رفيق عمره لدرجة أن مصر أصبحت مقسمة داخلياً لقيادتين، القيادة السياسية برئاسة جمال عبد الناصر والقيادة العسكرية بقيادة عبد الحكيم عامر، ترك عبد الناصر الجيش لعبد الحكيم عامر لدرجة أنه أصبح غافلاً عن مقومات ومكونات الجيش المصري، الأمر الذي تسبب بشكل مباشر في النكسة، حيث أشار بعض القادة العسكريين بأن تعبئة الجيش المصري في حرب 1967م كانت بالجلباب، في حين أن القوات الإسرائيلية كانت معدة بشكل متقدم خططياً وتسليحياً، وخاصة سلاح الطيران، فكانت الضربة الجوية الإسرائيلية قاسمة للقوات المصرية، فالقوات المصرية لم يكن لديها رادار خاص لرصد الطيران المنخفض، والاتحاد السوفيتي لم يكن لديه تلك الرادارات في تلك الأثناء، الأمر الذي استغلته القوات الجوية الاسرائيلية عبر البحر المتوسط وباستخدام الطيران المنخفض لعدم رصده من الجانب المصري، ووجهت ضرتها للطيران المصري الغير محمي بما يسمى بالدُشم (حظائر الطيران).
وقبل ذلك في اجتماعات ما قبل حرب 1967م، قرر عبد الناصر بأن مصر لن تبدأ بالهجوم وأن مصر ستتلقى الضربة الأولى من إسرائيل ومن ثم تبدأ مصر بالرد على هذا الهجوم، وكان مبرر عبد الناصر بأن مصر إذا بدأت بالهجوم على اسرائيل فإن الولايات المتحدة الامريكية ستقوم بإعلان الحرب على مصر وان مصر ليس لديها القدرة على مواجهة امريكا، إلا أن الفريق أول صدقي محمود قائد القوات الجوية رفض هذا الاقتراح وكان رده باللغة الانجليزية ((I will be cripple اشارة إلى ان الضربة الأولى ستعجز القوات الجوية المصرية، فرد عليه عبد الناصر بمبرره (تحب تحارب أمريكا ولا تحارب اسرائيل؟)، هذا حسب شهادة شمس بدران وزير الحربية السابق.
كان عبد الناصر شخصية جدلية غير متفق عليها، فالبعض يراه بأنه زعيماً وطنياً قومياً والبعض الآخر يراه أحد الأسباب المؤدية إلى تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مصر في العقود اللاحقة، فالبعض يرى بأنه أحد أسباب الفرض الجبريللعدالة الاجتماعية في مصر، والآخر يرى بأنه أغتصب الحقوق ومنحها لمن لا يستحق، فهجر مصر العديد من الرأسماليين، وأغلق العديد من الصحف و أمم المصانع والشركات المصرية والأجنبية، ومن ثم أصبحت عبأ على كاهل الدولة المصرية من وجهة نظر أخرى، فاتجاهبعض الأنظمة العالمية نحو الرأسمالية وليست الاشتراكية، كما أن تحديد الملكية الزراعية مما له من مميزات منحت الطبقة المعدومة أراضي زراعية، بعد أن كان يتم استخدامهم بنظام السخرة، وأصبح لكل فلاح ذمة مالية خاصة به.
وهناك من يرى بأن تفتيت الرقعة الزراعية كان أحد أهم أسباب تدهور النظام الزراعي والصناعي والتجاري في مصر، فبعد جودة المنتج الزراعي المستخرج من الاقطاعيات التيتخضع لنظام ري واحد ومبيدات وأسمدة واحدة ودورات زراعية محددة وإنتاج ضخم يتم من خلاله مراحل تجارية وصناعية لاحقة، إلى تفتيت الرقعة الزراعية ليصبح في الوقت الحالي إنتاج زراعي لا يتجاوز 6 قيراط لكل فلاح .
لا شك أن الملك فاروق لم يهتم بتطوير الجيش المصري بقدر ولاء قادة الجيش له، فالجيش المصري الملكي سُمي بـ (جيش المحمل) نظراً لاهتمام الجيش فقط بالعرض الخاص بالمحمل الشريف، لذا عندما قامت الثورة وتم عرض منصب رئيس الجمهورية على الأستاذ أحمد لطفي السيد، لم يقبلها، وأقر بأن أحد قادة الجيش هو من يستطيع أن يكمل مسيرة الثورة ويقود البلاد، من هنا جاء اللواء محمد نجيب رئيساً للجمهورية، ذو الرتبة الأعلى في الجيش، الذي وضع حياته رهن نجاح الثورة من عدمها، ومن بعده الراحل جمال عبد الناصر، الذي أهتم بتكوين وبناء الجيش من جديد، إلا أن الحراك السياسي والعسكري في المنطقة أدخل مصر في دوامة من الحروب أرهقت مصر بشرياً وعسكرياً ومادياً، فمن حريق القاهرة يناير 1952م، إلى قيام ثورة يوليو، إلى عدوان 1956م، إلى حرب اليمن 1962م، التي بدأت بما يقارب 55 جندي وانتهت بـ 70 ألف جندي وقائد مصري، وأرهقت الخزانة المصرية بنحو مائتين مليون دولار خلال الحرب، ونكسة 1967م، وحرب الاستنزاف، التي لم تعتمد على خبرات حربية بقدر روتينية الحرب وعدد العتاد والذخيرة المتاحة، هذا بالإضافة إلى حرب فلسطين التي شارك بها عبد الناصر، كل هذا منح عبد الناصر حنكة سياسية وعسكرية كبيرة أهلته لأن يصبح زعيماً وطنياً، ثم جاء نصر أكتوبر 1973م المجيد بعد وفاة عبد الناصر بنحو ثلاث سنوات.
هذا الحراك السياسي الذي أحاط بحياة الزعيم عبد الناصر شكّل شخصيته وأثر بها، فعاش عبد الناصر خلال حياته 52 عاماً فلم يدرك أحد إلى أي الأحزاب ينتمي، فهو بالطبع رجل وطني عسكري، وكان رئيساً لشعبة حركة مصر الفتاة بباب الشعرية، وتبنى مشروع التحول الاشتراكي بمصر، وقبل قيام ثورة يوليو 1952م نسق الضباط الأحرار مع جماعة الإخوان المسلمين بمباركة المستشار حسن الهضيبي المرشد العام آنذاك.
ومما لا يدع مجالاً للشك في وطنية الراحل جمال عبد الناصر، أنه قبل ثورة يوليو انتشر بالجيش المصري اتجاهات مختلفة وأصبح هناك ضباط ينتمون إلى جماعة الاخوان المسلمين وآخرون شيوعيين وانتماءات أخرى، وكان جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين والصاغ محمود نبيل وعبد المنعم عبد الرؤوف (ضابط طيار منتمي لجماعة الاخوان المسلمين) وآخرون يحضرون اجتماعات الإخوان المسلمين أحياناً في منزل جمال عبد الناصر وأحياناً اخرى في مقر جماعة الإخوان في الحلمية أو بمنزل أحد الضباط الآخرين، وكانت الاجتماعات تعقد على أساس وطني للتحدث في أمور الجيش والوطنية والتخلص من الانجليز، ولما شاع هذا الأمر في الجيش، وشعر عبد الناصر بأن الوضع سيتحول داخل الجيش وسيأخذ اتجاه آخر هو الاتجاه الديني، أقترح عبد الناصر مع تلك المجموعة بإنهاء تلك الاجتماعات وأن يكون الجيش للجيش فقط، وتم قطع علاقات الاخوان داخل الجيش وإنهاء الارتباط بين الضباط المنتمين إلى جماعة الإخوان، إلا أن بعضهم أستمر في هذا النهج والانتماء، كعبد المنعم عبد الرؤوف.
كان اتجاه عبد الناصر قومياً عربياً، وأراد مشروعاً عربياً موحداً بين الدول العربية لتصبح كتلة واحدة، فوقف بجانب الحركات التحررية للدول العربية، وظهر هذا جلياً عندما فتح المدارس العسكرية المصرية للقادة الجزائريين، ووقوفه بجانب اليمن ومن ثم توحيد شطريه الشمالي والجنوبي وتحرير عدن من الاستعمار البريطاني، ورغم النقض الذي وجه إلى عبد الناصر بشأن اليمن، إلا أن الفريق سعد الدين الشاذلي، أقر بأن لمصر دوراً كبيراً في استقلال دول الخليج من خلال حرب اليمن، فلم تحصل دول الخليج على استقلالها إلا من خلال تحرير اليمن، بعد السيطرة التي فرضتها بريطانيا على الخليج والطرق البحرية لحماية مستعمراتها.
عبد الناصر كان مثقفاً من طراز فريد، فقد كان شغوف بالقراءة، وقته كله لعمله وللقراءة، فعند دخوله المنزل في العاشرة أو الحادية عشر، يظل يقرأ الصحف والكتب والمراسلات حتى الثالثة أو الرابعة صباحاً، كان محباً للسينما، لذا عند توسيع منزله قام حارسه الشخصي (محمود فهيم) بتجهيز قاعة كبيرة لكبار الزوار والاجتماعات الهامة والسينما، فقد كان يعاني عند ذهابه إلى دور السينما أو يذهب في الفترات الصباحية المبكرة، كان عبد الناصر مصراً على تحقيق أهدافه، فقد تعرض للغرق في الاسكندرية أثناء السباحة إلى جزيرة بالقرب من قصر المنتزه، إلا أنه أبى أن يصعد إلى المركب المرافق له رغم علو الأمواج، كان عبد الناصر شخصية خيرة، فلم يجمع طائل الأموال كغيره من الرؤساء، وخلال حياته منح حارسه الخاص سيارة كان قد أهداها له الرئيس اليوغسلافي تيتو، الذي كانت تجمعه صداقة كبيرة بعبد الناصر.
ومن المواقف الطريفه التي ذكرها السيد/ حسن عباس زكي وزير الاقتصاد السابق، حينما وجه سؤال لعبد الناصر: لماذا اتجهت وتبنيت فكرة التحول الاشتراكي لمصر وما هو السبب المباشر لذلك؟، كان رد عبد الناصر له: كلما أحضر حفلة للسيدة أم كلثوم وأسمع وهي تغني (الاشتراكيون أنت إمامهم) الشعب كله يسقف، فاعتقدت بأن الشعب كله يريد الاشتراكية، ومن المؤكد أن هذا ليس السبب المباشر في التحول الاشتراكي ولكن أعتقد بأنها كانت خفة ظل من عبد الناصر، ومن المواقف التي أعقبت النكسة، وبالتحديد في عام 1969م ومع ظهور فيلم (شيء من الخوف) أوعز السيد ثروت عكاشة وزير الثقافة السابق إلى الرئيس عبد الناصر بأن هذا الفيلم هو إسقاط على علاقة عبد الناصر بمصر، فقد شبهه بأن عتريس هو الرئيس وأن فؤاده هي مصر، فأمر عبد الناصر بتشكيل لجنة للنظر في هذا الأمر، وتشكلت اللجنة من السيد سامي شرف سكرتير الرئيس للمعلومات، وأمين هويدي رئيس جهاز المخابرات السابق، والسيد عبد القادر حاتم وزير الإعلام السابق، والنائب العام السابق علي نور الدين، والسيد شعراوي جمعه وزير الداخلية السابق، وبعد مشاهدة الفيلم كان رأي عبد الناصر بأن الفيلم يناقش مشكلة مجتمعية وليس لها علاقة فيما تردد بأنه إسقاط على علاقة عبد الناصر بمصر، وقرر عدم إيقاف الفيلم والاستمرار في إذاعته.
يُعد بعد الناصر أحد أهم الشخصيات المصرية والعربية والدولية تأثيراً في التاريخ، ففي العام الماضي احتفلت العديد من المؤسسات المصرية بمحافظات مصر والكُتّاب والروائيين بمئوية ميلاد الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، فنُظمت العديد من الأمسيات الثقافية والندوات وورش العمل والحفلات والأفلام الوثائقية عن حياة عبد الناصر في مقرات الهيئة العامة لقصور الثقافة ومكتبة الاسكندرية والمكتبات العامة والمجلس الأعلى للثقافة ودار الأوبرا وغيرها، وصدر العديد من المؤلفات الخاصة بتلك المناسبة.
يظل عبد الناصر شخصية مؤثرة له ملايين المحبين رغم مغادرته الحياة لما يقرب من نصف قرن من الزمان، فقد توفي عبد الناصر في 28 سبتمبر 1970م، أي منذ حوالي 49 عاماً، وله أدوار جليلة من تحول مصر إلى الجمهورية برفقة أصدقاءه من الضباط الأحرار، ودوره البارز في منح كل مصري غير قادر فرصة للتعليم من خلال مشروعه بمجانية التعليم، كما كان صاحب الفضل في إنشاء ماسبيرو "مبنى الاذاعة والتلفزيون"، واهتم عبد الناصر بالنشاط الرياضي، فأسس ستاد القاهرة في عهده، والعديد من الأعمال التي خلدها عبد الناصر، لذا فإن احتفال مصر والعالم العربي بذكرى ميلاده أو تأبينه فهو لواجب لما قدمه الرئيس الراحل سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي.