القاهرة 24 سبتمبر 2019 الساعة 09:30 ص
كتب: شعبان ناجي
قبل أن نشرع في قراءة هذا النص المسرحي الذي بين أيدينا، والصادر عن سلسلة نصوص مسرحية، بالهيئة العامة لقصور الثقافة، نود أولا أن نحدد مصطلحين مهمين وشائكين يترابطان مع فن المسرح بروابط عميقة ومؤثرة، المصطلح الأول هو مصطلح العبث الذي يعد مصطلحا مسرحيا بالأساس، وهو – كما يعلم الكثيرون- قد نشأ نتاج ظروف سياسية أدت بالفلاسفة والمثقفين المحدثين إلى التفكير في الثوابت التي تحتاج إلى إعادة نظر. والعبثيون هم هؤلاء الأدباء الذين تأثروا بالحرب العالمية التي خلقت بدورها شخصية إنسانية سيطر عليها انعدام الثقة في النفس وفي الآخرين، وكان من رواد هذه المدرسة صمويل بيكيت وألبير كامو وهارولد بنتر ويوجين يونيسكو.
وأما المصطلح الثاني، فهو مصطلح الاستدعاء الحر، وهو من المصطلحات الشهيرة في علم النفس التجريبي، ويعتمد على قيام الشخص المريض بسرد الحوادث من دون أي ترتيب محدد، وكثيرا ما يستخدم كعلاج داخل العيادات النفسية والصحية.
وعماد مطاوع صاحب هذا النص "أرض الدخان" صدر له من قبل نص بعنوان "المؤرقون" وقد ركن فيه إلى جانب العبث بنسبة كبيرة وإن كنا قد لمسنا أحيانا ظهور الاستدعاء الحر لدى بعض الشخصيات العدمية المؤرقة والقابعة في الشارع تحت الضباب والبرد القارس، وربما رأيناه متأثرا ببعض النصوص القصيرة، وبخاصة لدى كل من هارولد بنتر وصمويل بيكت.
أما في هذا النص، فقد كان كاتبنا أكثر وعيا وتمكنا، لكن أقل إمتاعا، فقد مزج هنا بين العبث والاستدعاء الحر، حيث نجح في تقديم نص متماسك، له لغته الحادة المكثفة التي تخلو من أي ترهل أو زيادات، وتحمل في الوقت نفسه الكثير من المضامين المنطوية على إيقاع شعري في كثير من المواضع، وكان من شأن هذا الإيقاع أن دفعنا دفعا إلى الشجن النبيل، كما دفعنا إلى السخرية في كثير من الأحيان.
والنص الذي بين أيدينا لا يناصر أبدا الشكل المسرحي التقليدي، فهو لا يعتمد إطلاقا على الحوار الصريح القاطع، وإنما هو يعتمد في المقام الأول على الفضفضة الحرة التي لا يحدها سقف ولا يجلس عند رأسها رقيب، وهذه الفضفضة يستدعيها شخص مفرد (البطل الأوحد) يراجع شريط حياته، وذلك عندما يحس بدنو الأجل المحتوم، حيث نراه وقد راح يعلم الجميع بعزمه على الذهاب إلى هذه الرحلة الأبدية الخالدة.
وهو إذ يعلن عن رحلته ويعلم الجميع بها، نراه يقر إقرارا تاما بأن حياته الدنيا لم تكن إلا سقطات متوالية، فكان الفشل يسلمه إلى الفشل، والضياع يدخله في متاهات أكبر وأكبر من الضياع، فهو دائما ما كان يخطئ في حق الآخرين، بل كان يخطئ في حق أقرب المقربين إليه، وقبل هذا وذاك كان يخطئ في حق نفسه، فقد اختلس وقامر وشرب الخمر وهتك أعراض الصغيرات وقتل الزرع والنسل وفعل الأفاعيل.
لكن الفعل المشين الأبرز والأكثر تأثيرا وترويعا في نفس المتلقي كان علاقته المفككة بوالديه، حيث اعتبر أباه السبب الرئيس في شقائه وشقاء أمه وشقاء الأسرة كلها، وهو ما انعكس بالسلب على علاقته بالمجتمع ككل.
وهو إذ يفعل كل ما يفعل من تلك الأفعال المشينة، نراه لا يرغب أبدا في أن تحدث له انفراجة حياتية؛ لأنه يرى هذه الانفراجة بلا جدوى حقيقية، ويري في الوقت ذاته أنه زائل لا محالة.. هو لا يريد أن تنزاح الصخرة الحجرية التي يقبع خلفها المؤمنون كما هو وارد في القصة الدينية المعروفة للجميع، بل هو يفضل أن يأخذ عقابه كاملا وأن يمارس المعاناة في أجلى صورها، وأن يظل قابعا مستريح الضمير في قاع أرض الدخان.
هذه باختصار الرؤية التي يريد عماد مطاوع أن يقدمها للمتلقي من خلال هذا النص، وهذه الرؤية وإن كان قد قدمها من خلال نص متماسك وامتلاك لأدوات الكتابة والوعي بالتجربة المسرحية وتفاعلها مع أزمة الذات، فإن ما ينقصه وربما ينقص الكثير من المبدعين المسرحيين المهووسين بالعبث هو حسن اختيار الفكرة البراقة الفارقة والمثيرة للجدل.
وبناء عن هذا، فقد اجتهد مطاوع في عبثه واجتهد في استدعائه الحر، واجتهد أيضا في تجريبه، صحيح أنه تأثر كثيرا بالعبثيين العظماء ممن ذكرناهم، لكنّ كتابا مصرين أكبر منه كانوا قد تأثروا من قبله بهؤلاء المجانين، وليس يوسف إدريس وألفريد فرج وسعد الله ونوس وصلاح عبد الصبور ومحمود دياب وإميل حبيبي، عنا ببعيد؛ لكن كل هؤلاء العظماء سرعان من نفضوا عن نصوصهم عباءة التأثر والتقليد، فراحوا يقدمون أعمالا خارجة من طين الأرض المصرية والعربية، وهذا ما أتمناه من مطاوع وأتمناه عليه.
وقد يلحظ القارئ الكريم أنني لم أتعمق في تفاصيل ومضمون النص، وهي ملحوظة ذكية، ومرد ذلك هو أنني لو تعمقت في أغوار هذا العمل فسوف أظلم العمل وسوف أظلم صاحبه، فالحكم هنا لن يكون موضوعيا، ذلك لأن النص لم يصعد إلى الخشبة، حتي يتسنى لنا أن نلم بكل أطرافه وجوانبه، والنص المسرحي ما هو إلا خشبة؛ لكن النصوص المسرحية العبثية ومنها هذا النص مظلومة في بلادنا، فالقائمون على المسارح ينفرون منها والجمهور يتململ عند رؤيتها، وتعرض ليلا فقط ويجب أن تعرض نهارا أيضا حتى يكتمل العبث وينجلي. ورغم ذلك كله أقول لعماد مطاوع: استمر في عبثك وأوسع رقعته واستمتع به ما وسعك الجهد وما أعيتك الحيلة.