القاهرة 17 سبتمبر 2019 الساعة 12:59 م
كتب: طلعت رضوان
الدكتورة عائشة عبدالرحمن (1913- 1998) التى اختارت لنفسها اسم (بنت الشاطئ) لأنها كانت تعشق السير على (شاطئ دمياط) موطنها الأساسي ..وظهر نبوغها منذ كان عمرها18سنة، حيث كتبتْ فى (مجلة النهضة النسائية) وبعد عاميْن بدأتْ تنشر مقالاتها فى صحيفة الأهرام، ولأنها كانت تخشى غضب والدها، لو ذكرتْ اسمها واسم عائلتها، تذكــّـرتْ عشقها لشاطئ دمياط وهى صبية، لذلك اختارتْ أنْ تنشر باسم (بنت الشاطئ)..وفعلتْ ذلك لوعيها بأنّ جدها لأمها كان (شيخـًا للأزهر) وأنّ أباها كان محافظــًـا مثل جدها.
تخصـّـصتْ بنت الشاطئ فى الدراسات الإسلامية. وشغلتْ منصب أستاذ التفسير والدراسات العليا بكلية الشريعة- جامعة القرويين بالمغرب، وأستاذ كرسى اللغة العربية وآدابها بجامعة عين شمس، وأستاذ زائر بجامعات أم درمان عام1967، والخرطوم والجزائرعام86..وبيروت عام72..وجامعة الإمارات عام81..وكلية التربية للبنات بالرياض من عام1975- 83..وصدرلها 40كتاب ما بين الفقه الإسلامى..والتفسير البيانى للقرآن، والقرآن وقضايا الإنسان، وتراجم سيدات بيت النبوة..ومن أعمالها الأدبية (بطلة كربلاء) عن السيدة زينب بنت على بن أبى طالب ولها دراسة عن (رسالة الغفران) للمعرى..إلخ..وكرّمتها مصر بمنحها جائزة الدولة التقديرية فى الأدب عام1978..وكرّمتها أكثر من دولة عربية.
وبالرغم من تخصصها فى الدراسات الإسلامية..ودفاعها عن الإسلام، فإنها لم تنخدع..ولم تنبهر مثل غيرها، بكتابات الأدعياء الذين يخلطون بين الدين والعلوم الطبيعية Science ..ولذلك استفزها هؤلاء الأدعياء، مثل زغلول النجار ومصطفى محمود..إلخ..ورأتْ أنّ كتاباتهم تضر بالإسلام..وبالتالى أخذتْ على عاتقها توضيح موقفها، خاصة بعد أنْ نشر مصطفى محمود سلسلة مقالاته عن التفسير العصرى للقرآن..وجمعها فى كتاب بعنوان (القرآن: محاولة لفهم عصرى) فردّتْ عليه بنت الشاطىء فى سلسلة مقالات جمعتها فى كتاب بعنوان (القرآن والتفسيرالعصرى- وعنوان جانبي: هذا بلاغ للناس) وصدر عن دار المعارف المصرية- سلسلة اقرأ.
ومن بين ما جاء فى كتابها قولها: لابد أنْ يكون فهمنا للإسلام متحررًا من الشوائب المُـقحمة..والبدع المدسوسة..ونبتعد عن ((فتنة التمويه..وسكرة التخدير)) وأضافتْ أنّ الكلام عن التفسير العصرى للقرآن، يبدو فى ظاهره منطقيـًـا ومقنعـًا فى نظر الناس، دون أنْ يلتفتوا إلى مزالقه الخطرة، التى تؤدى إلى الضلال، لأنّ الخلط بين الدين والعلم ضد الدين..وضد العلم..وأنّ دعوة التفسير العصرى، تــُـرسّـخ فى أذهان الناس أنّ القرآن، إذا لم يـُـقدم لهم علوم الطب والتشريح..وأسرار البيولوجيا وعلم الفلك..إلخ فليس صالحًا لزماننا..ولا تستسيغه عقولنا..وأضافتْ: وأنا لن أتخلى عن منطق العصر الحديث..ولاعن كرامة عقلى..ومن غير المنطقى أنْ آخذ بضاعة مضى عليها ألف سنة..وأبيعها فى عصر العلم الحديث..وأفعل ما يفعله الباعة الجوالون..وللأسف فإنّ هذا يحدث مثله فى الضجيج الإعلامى بالطبل والزمر لبيع كل شيء، عن أى شيء، أو(بتاع كله) كما فى التعبير الشعبى الساخرعن الأدعياء.
وردًا على إدّعاء مصطفى محمود أنّ العلم الحديث كشف أنّ أنثى العنكبوت هى التى تنسج البيت..وليس الذكر..وأضاف (بثقة يحسد عليها)..وإنها ((حقيقة بيولوجية لم تكن معلومة أيام نزول القرآن)) فردّت بنت الشاطىء عليه بسخريتها المهذبة: أنه وقع فى خطأ لايقع فيه المبتدئون، لأنّ القرآن فى هذه الآية ((يجرى على لغة العرب الذين أنــّــثوا لفظ العنكبوت، منذ قديم (جاهليتهم الوثنية)..كما أنــّــثوا مفرد النمل والنحل..وهو تأنيث لغوى لا علاقة له بالتأنيث البيولوجى..كما توهم المُفسر العصرى. فأين الاعجاز العلمى فى هذا الكلام؟ وأضافت: والمصيبة أنّ المُـفسر العصرى أوقع نفسه فى (فخ) لأنه يشجع على الكفر..وليس على الإيمان..وذلك نتيجة البلبلة و(اللخبطة) التى اندفع نحوها..ولتوضيح ذلك قالت: إنّ القرآن وصف بيت العنكبوت بالوهن والضعف..ولكن المُـفسر العصرى (تحت شهوة موضة الإعجاز العلمى) جاء ليهدم المعبد على ساكنيه..وذلك حين كتب أنّ ((خيط العنكبوت أقوى من مثيله من الصلب ثلاث مرات..وأقوى من بيت الحرير..وأكثرمرونة)) (كما جاء فى كتاب مصطفى محمود: التفسير العصرى للقرآن- ص211)
وقالت د. بنت الشاطئ: لا يوجد اعجاز علمى فى القرآن..والقرآن كتاب دين وهداية..وتعامل مع معارف وعلوم عصره (فقط) ولذلك عاهدتُ نفسى بأنْ تكون هذه معركتى الشخصية، نظرًا لخطورة الربط ((بين النسبى وهوالعلم، بالمطلق وهوالدين)) وكتبتْ أنّ القرآن ليس كتاب فيزياء..ولابيولوجيا..وليس مطلوبـًـا منه ذلك..ولكنه كتاب ((دينى وضع الضوابط والخطوط العامة، للأخلاق والسلوك والمعاملات)) وكتبتْ أنّ المُفسرالعصرى أباح لنفسه بأنْ يصف الله بما لم يصف به نفسه..((حيث قال إنّ الله هو المعمارى العظيم..والمهندس الأعظم للكون. والله هو سائق القطار الذى تفوق قدرته جميع السائقين))..وكان تعقيب بنت الشاطىء: وهذا لايجوز..وفق علم أصول الدين، أنْ يوصف الله بغيرما وصف به نفسه (من كتاب بنت الشاطئ: القرآن والتفسير العصرى..هذا بلاع للناس- دارالمعارف المصرية- سلسلة اقرأ) وأعتقد أنّ د. بنت الشاطئ لم تتجاوزحدود اللياقة الأسلوبية عندما وصفتْ جماعة: التفسير العصرى للقرآن، بأنهم أشبه بالحواة.
لقد تعمّـدتُ بهذه المُـقـدّمة البسيطة عن الكاتبة الإسلامية (بنت الشاطئ) لتكون المدخل المُـناسب للحديث عن كتابها (رجعة فرعون) الذى كان- بالنسبة لى- مفاجأة سارة عندما عثرتُ عليه..وبعد تأمل العنوان، توقــّـعتُ- كانطباع أولى مُـتعجل- أنْ يكون الكتاب، مثل غيره من (كتب الإسلاميين) المعادين للحضارة المصرية..ورغم علمى بتوجهات بنت الشاطئ الإسلامية، قلتُ لنفسى: سأقرأ الكتاب ولومن باب (العلم بالشيء)..كما شجــّـعنى الإهداء على القراءة، حيث كتبتْ: إلى الشخصية المصرية، فى إيمانها الراسخ بالبعث..وشعورها العتيد بالأبدية..واطمئنانها المطلق إلى الخلود..وعلى هذا الأساس اختفى توجسى..وبدأتُ القراءة..ولفت نظرى أنّ الكتاب صدرعام1947عن دار المعارف المصرية.
كما لفت نظرى أنّ (جماعة مدرسة الأمناء) الذين كتبوا مقدمة الكتاب قالوا: إذا كان العلم تفسيرًا تجريبيـًـا للكون..وكانت الفلسفة تفسيرًا تأمليـًـا للكون، فالفن الرفيع تفسير وجدانى للكون..وفى كتاب بنت الشاطئ (رجعة فرعون) تفسير لسر البقاء. وإذا كان الفن الجميل قبسـًـا من ضوء الشمس..والفن النبيل نفحــًـا من نور القمر، فالفن الصادق مبعث أضواء وأنوار..وفى (رجعة فرعون) عاطفة من نور وإخلاص من ضوء..وإذا كانت عقيدة البعث فلسفة تاريخ مصر..وكان الإيمان بالبعث مصدر خلود شخصية مصر، فهذا البعث اليوم، سر نهوض مصر..وفى (رجعة فرعون) آيات للخلود والنهوض)) وأنهوا تلك المقدمة بجملة: أيتها الأمينة..غبطة وتحية. والتاريخ:15يناير1947.
وفى التمهيد كتبتْ بنت الشاطئ عن تجربتها فى تأليف كتابها قالت: أنّ الدخول إلى عالم الحضارة المصرية، يستوجب الحذر حيث أنّ تلك الحضارة ((سخطها ساخطون..وعابها عائبون..ولامها لائمون..وكفر بها كافرون، فى حين قـدّسها مقـدّسون..ومجدها ممجدون..وحبذها محبذون.
وذكرتْ أنّ بداية تعرفها على الإنسان، الذى ارتبطت به وتزوجته (الأستاذ أمين الخولى) عندما كانت تتابع دراستها الأدبية العليا فى الجامعة..وجلستْ لتسمع محاضرة (فى تاريخ الأدب المصرى القديم)..وبعد ذلك عرفتْ مدى اهتمام أستاذها (أمين الخولى) بالحضارة المصرية..وأنه ((مُـلم بالشخصية المصرية)) ويتحدث عنها حديثــًـا قويـًـا..وأبرزخلود تلك الشخصية..ولذلك كتبتْ: فكان شعورى بالشخصية المصرية، حين سمعتُ حديث أستاذى، يـُـحفزنى على معرفة الكثيرعنها. وبعد أنْ سمعتْ قصة العثور على مومياء الملك المصرى (توت- عنخ- آمون) قالت: كان شعورى بالشخصية المصرية، حين علمتُ بأحداث القصة، يستقرفى وجدانى، وشـدّتنى القصة إلى تراث الماضى العتيد، لحاجات الحاضر القاسى..وكذلك حملتُ قلمى لأتحدث عن الشخصية المصرية.
وذكرتْ أنّ بداية اهتمامها بالحضارة المصرية..كانت فى شهريناير1941، عندما زارتْ مصر العليا..ونحن نرى (ماضينا الحى) ونشهد آثارجدودنا العظام فى (تونا الجبل) ومقابرهم المنحوتة فى جوف الصخر على جبل (بنى حسن)..وآوينا إلى مضاجعنا..وأرواح جدودنا تطوف بنا..وقد تشوّقنا لرؤية معبدىْ الكرنك والأقصر. وعندما زرنا هذيْن المعبديْن..كانت أرواحنا قد طوتْ الزمن إلى الماضى البعيد، يوم كان المعبد عامرًا..و(يحج إليه العــُـباد)..وجاء أحد علماء (علم المصريات) وصحبنا إلى ساحة رمسيس، فوقفنا نــُـحـدّق مبهورين، أمام صورة (من صورة الآلهة فى عيد رأس السنة)..وعالم المصريات يشرح لنا كيف كانت سفنهم تخرج من الكرنك صباح يوم الاحتفال..وتسير فى النيل حتى ترسو أمام معبد الأقصر..وهذا تأكيد على أنّ جدودنا العظام كانوا أول من ابتكروا الاحتفال برأس السنة.
ونقلتْ د. بنت الشاطئ مقطعــًـا من (نشيد المعبد) وجدته ضمن مخطوطات أستاذها أمين الخولى..وهذا المقطع جاء به: رفــّـتْ أجنحة المعبد على وجوه البشر، وملأتْ روح الإله إهاب الإنسان..وارتفع القمر قبسا ربانيـًـا، يهدى السبيل إلى السماء..واختتمتْ هذا الفصل قائلة: وآن لنا أنْ نعود إلى ديارنا، بعد أنْ عشنا أربعة عشر يوما فى وادى السحر.
وبعد هذه الرحلة ذكرتْ أنها بدأتْ تقرأ كتب علماء المصريات عن (ديانة مصر)..وكان تعقيبها ((وراعنى إيمان مصر الراسخ بعودة الروح..وشعورها العتيد بالأبدية..واطمئنانها المطلق إلى الخلود)) إنّ ما كتبته بنت الشاطىء عن إيمان جدودنا بالخلود، ذكــّـرنى بما قاله الأديب (أندريه مالرو) وزيرالثقافة الفرنسى ((إنّ ما بحثتْ عنه مصرفى الموت هو تحديدا القضاء على الموت. إننى باسم فرنسا أشكر مصر لتى كانت أول من ابتكر الخلود))
وقفتْ بنت الشاطئ مبهورة بالآثار..وقالت ((ووقفتُ مأخوذة بعظمة الفن المصرى..ورأيتُ عالم الموتى..وما أعده المصريون من ((بيوتهم الأبدية)) وشاهدتُ مدى تشبثهم بحياة الروح..وأدركتُ أنّ الإنسانية لم تع كفاحهم ضد الموت والفناء..وأنّ من يقرأ (متون الأهرام) التى عثر عليها (ميريت باشا عام1889ويرجع عهدها إلى عام2625ق. م، سيكتشف أنّ المصريين لم يستخدموا لفظ (الموت) ففى تلك المتون..ولايجد المرء أثرًا لكلمة الموت..ويعبـّـرون عنه بالغروب، أوالصعود إلى السماء..ويـُـصرون إصرارًا عجيبـًـا عنيدًا على أنّ الراحل (حى لم يمت) وسافرحيـًـا ليعيش إلى الأبد..ونقلتْ عن بعض الأناشيد: تباركتَ يا رب فى سماواتك..إنك فى عرشك العالى لا تأخذك سنة ولانوم..وعندما دخلتْ مقبرة توت- عنخ- آمون قالت: لم أنشغل بالمجوهرات..ولا بالذهب والمرمر..وإنما انشغلتُ (بالباب الوهمى) الذى يكون فى المقبرة لتدخل منه الروح، عندما يحين موعد عودتها للجسد.
تدور باقى محاور الكتاب حول قصة كتبها أحد المولعين بالحضارة المصرية، فى العصر الحديث، عن الحوار مع الملك المصرى..ومحاولة تمثيل قصته من جديد ولكنه يرفض الفكرة..واختتم كاتب القصة قصته قائلا: كنتُ أرجو أنْ تتحدث روح (توت- عنخ- آمون) من عالمها الخفى غير المنظور أوعلى لسان (وسيط)..كما يحدث فى جلسات الاستحضار في العصر الحديث..ولكن جهودي فى سبيل الاتصال بالروح ذهبتْ كلها عبثــًـا.
وأعتقد أنّ تلك الحيلة الفنية التى لجأتْ إليها د. بنت الشاطئ..هدفها التعبيرعن إعجابها بالحضارة المصرية..ورأتْ توظيف اكتشاف مقبرة توت- عنخ آمون سنة 1922ليكون مدخلا لتسجيل اعجابها بحضارة جدودها (وفق نص كلماتها)
خاصة أنه بعد اكتشاف المقبرة اشتعل الهوس بمصر..وظهر نسق جديد من الملابس المصرية، حيث قام ملوك الأزياء الراقية فى باريس عام 1923 بابتكارعلبة أدوات زينة للنساء اسمها توت عنخ آمون..وفى عام 1994 استقبل متحف اللوفر204 ألف زائر..وفى عام 1993 أقام الأمريكان فندقــًا وكازينو في لاس فيجاس عبارة عن هرم من 30 طابقــًا مزودًا بتمثال لأبى الهول..ويؤكد روبيرسوليه مؤلف كتاب (مصرولع فرنسى) أنّ الفرنسيين ينغمسون فى الهوس بمصر منذ طفولتهم..وعن السينما فى أوروبا فقد تم إخراج 40 فيلمًا فى 20 سنة مستوحاة من الحضارة المصرية..وقام فرنسيان بإنشاء علم (موسيقى مصرية قديمة) واجتذبتْ الحضارة المصرية عشرات الروائيين الأوروبيين، فكتبوا روايات مستوحاة من مصرالقديمة..وحققتْ مبيعات الروايات والكتب التى تتناول الحضارة المصرية أرقامًا مرتفعة، لدرجة أنْ أصبح علم المصريات علمًا شعبيًا نتيجة عشق الشعوب الأوروبية لمصر..وليس علمًا بين العلماء المتخصصين فقط (مكتبة الأسرة- عام1999).