القاهرة 27 اغسطس 2019 الساعة 02:18 م
تأليف: مارك توين /ترجمة صلاح صبري
كل شيء يتغير إلا الحلاقون، وأساليب الحلاقين والبيئة المحيطة بهم. هذه الأشياء لا تتغير أبدًا. ما يلاقيه المرء في صالون حلاقة للمرة الأولى، يظل يلاقيه بعد ذلك كل مرة حتى نهاية حياته. كالعادة، ذهبت إلى الحلاق هذا الصباح. كان ثمة رجل يتجه نحو الباب قادمًا من شارع چونز، بينما كنتُ قادمًا من شارع ماين "Main".. وهو أمر يحدث دائمًا. أسرعتُ ولكن بلا فائدة؛ فقد سبقني للدخول بخطوة واحدة، فدخلت في أعقابه، ورأيته وهو يحتل الكرسي الوحيد الشاغر، وهو كرسي أفضل حلاق في الصالون. هذا ما يحدث دائمًا. جلست على أمل أن أرث الكرسي الخاص بأفضل الحلاقين الباقيين، فقد بدأ بالفعل في تمشيط شعر الرجل الذي تحت يده، في حين أن زميله لم يكن قد انتهى من تدليك شعر زبونه ودهنه بالزيت. رحت أرصد الاحتمالات باهتمام شديد. عندما رأيت الحلاق رقم 2 يسبق رقم 1، تحول اهتمامي إلى نوع من التوتر. عندما توقف رقم 1 برهة ليفك نقودًا لزبون جديد خاسرًا السباق بذلك، تحول توتري إلى نوع من القلق الشديد. عندما عاد رقم 1 ليلحق بزميله مرة أخرى، وراح كل منهما يفك المنشفة عن زبونه ويزيل المسحوق عن وجهه بالفرشاة، وصار من الممكن أن يسبق أي منهما الآخر قائلاً: "التالي"، توقفت أنفاسي. ولكن عندما توقف رقم 1 ليمشط حاجبي زبونه في اللحظة الحاسمة، رأيت أنه قد خسر السباق بفارق لحظة واحدة، فوقفت ساخطًا وغادرت المحل لكي لا أقع في يد الحلاق رقم 2؛ فأنا لا أتمتع بمثقال ذرة من تلك الصلابة التي يُحسَد المرء عليها والتي تمكن صاحبها من النظر في عيني حلاق ليخبره ببرود أنه ينتظر أن يخلو كرسي زميله.
مكثت في الخارج حوالي ربع ساعة آملاً في حظ أفضل. كل الكراسي كانت بالطبع مشغولة حينئذ، وأربعة رجال كانوا يجلسون صامتين شاردين والضجر بادٍ عليهم كعادة الرجال الذين ينتظرون دورهم في صالون الحلاقة. اتخذت مقعدًا لي على الأريكة العتيقة ذات الأذرع الحديدية، ورحتُ أسلي نفسي برهة بقراءة إعلانات أنواع عديدة من المستحضرات غير الأصلية لصبغ الشعر وتلوينه. ثم رحت أقرأ أسماء أصحاب زجاجات كولونيا ما بعد الحلاقة، تلك الزجاجات المبقعة بالزيوت؛ قرأت الأسماء ولا حظت الأرقام المدونة على كؤوس الحلاقة الخاصة المرصوصة على الرف، ثم تأملت المطبوعات الرخيصة المتآكلة الملطخة المعلقة على الجدران، والتي تحكي عن المعارك، والرؤساء الأوائل، وعن السلاطين الكسالى الغارقين في الملذات، والفتاة المزعجة التي ترتدي نظارات جدها؛ لعنت في سري كلا من طائر الكناريا الذي لا يكف عن الزقزقة والببغاء المزعج، هذين الطائرين اللذين يندر أن يخلو منهما صالون للحلاقة. وأخيرًا، رحتُ أتفحص إصدارات السنة الماضية من الصحف المصورة الأقل تعرضًا للتلف والمتناثرة فوق المنضدة القميئة في وسط المحل، وأتأمل ما فعلته في الأحداث القديمة المنسية من تشويه لا مبرر له.
جاء دوري أخيرًا. ارتفع صوت قائلاً: "التالي"، واستسلمتُ لرقم 2 بالطبع. هذا ما يحدث دائمًا. قلتُ في استكانة إنني في عجلة من أمري، فتأثر كمن لم يسمع مثل هذا مطلقًا. دفع رأسي لأعلى واضعًا منديلاً تحته. دفع أصابعه عبر ياقتي وثبت فوطة بها. راح يجوس بأصابعه في شعري مقترحًا عليَّ تشذيبه. قلتُ إنني لا أريد ذلك. جاس مرة أخرى قائلاً إنه أطول مما يناسب هذه التسريحة، ومن الأفضل تقصيره قليلاً. قلتُ إنني قصرته منذ أسبوع واحد فقط. راح يتأمله برهة، ثم سألني باستهجان: من قصه؟ فأجبته بخشونة: أنت، فبُهِتَ. ثم بدأ يُقلِّب رغوته وهو ينظر إلى نفسه في المرآة، متوقفًا بين فينة وأخرى ليقترب متفحصًا ذقنه بإمعان، أو مدققًا النظر في إحدى البثور. ثم غطى جانبًا من وجهي تمامًا بالرغوة، وقبل أن يشرع في تغطية الجانب الآخر، لفت انتباهه صراع بين كلبين، فهرول ناحية النافذة ليشاهدهما، فخسر شلنين في رهانه مع الحلاق الآخر، فأحسستُ إحساسًا عظيمًا بالرضى. انتهى من فرد الرغوة، ثم بدأ يستخدم يديه لتدليك وجهي بهذه الرغوة.
حينئذ بدأ يسن شفرته على سير جلدي قديم، ولكن عطله- لفترة طويلة- جدل ثار حول حفلة تنكرية متواضعة كان قد حضرها في الليلة الماضية متنكرًا في هيئة ملك يرتدي زيًّا أحمر عليه وشاح أبيض من الفراء الرخيص. فرح فرحًا عظيمًا بمشاكسات زملائه بخصوص الفتاة التي سحرها بجماله، فراح يدعي بكل ما في جعبته من حيل أنه مستاء من هذا المشاكسات، لا لشيء إلا ليجعلها تمتد لأطول وقت ممكن. دفعه هذا الموضوع للمزيد من النظر إلى نفسه في المرآة، فراح يمشط شعره بعناية فائقة، مثبتًا خصلة منه في شكل قوس يتدلى فوق جبينه، ورافعًا بالفرشاة شعر الجانبين لينساب مغطيًا أذنيه. في هذه الأثناء، كان الصابون يجف على وجهي مسببًا لي شعورًا مستفزًّا بالحكة.
بدأ بعد ذلك في حلاقة ذقني، غارسًا أصابعه في مواضع كثيرة من بشرتي لتفتيح مسامها، وضاغطًا رأسي بكلتا يديه عدة مرات كما تقتضي أصول الحلاقة المريحة. لم أحس بالألم وهو يحلق المناطق القوية من وجهي، ولكن عندما بدأت شفرته تخدش ذقني وتجرحها، انهمرت دموعي. بعد ذلك اتخذ من أنفي متكأً لمساعدته في حلاقة زاويتي شفتي العليا، وبهذا الدليل العيني، أدركت أن من بين المهام التي يضطلع بها في المحل تنظيف مصابيح الكيروسين. طالما تساءلتُ في كسل ما إذا كان الحلاقون هم الذين يفعلون ذلك أم أنه كبيرهم.
في هذه الأثناء، رحتُ أسلي نفسي بمحاولة تخمين الموضع الذي سيجرحه هذه المرة، ولكنه لم يمهلني، وجرحني في نهاية ذقني قبل أن أخمن. راح على الفور يشحذ شفرته.. ربما لم يكون قد شحذها من قبل. لا أحب الحلاقة الناعمة، ولم أكن سأسمح له بأن يمر بشفرته على وجهي مرة ثانية. حاولت أن أجعله يترك شفرته محذرًا إياه من حساسية بشرتي؛ ولكنه قال إنه لا يريد إلا تنعيم بعض المناطق الخشنة، وراح من فوره يجوس بشفرته في المنطقة المحرمة، وسرعان ما ظهرت البثور ملتهبة نتيجة لذلك. سكب كمية من الكولونيا على فوطة وراح يصفع وجهي بها، بطريقة لا يمكن لإنسان أن يغسل وجهه بها مطلقًا. ثم راح يصفعه بالجزء الجاف من الفوطة وكأنه سمع أن هناك إنسانًا يجفف وجهه بهذا الأسلوب. ثم أغرق الجرح بالكولونيا باستخدام منشفته، وكبسه بالمسحوق، ثم بلله بالكولونيا مرة ثانية، وكان من الممكن أن يعيد هذه الكرة مرة أخرى لو أنني لم أرفض مستجديًا إياه. عفر وجهي كله بالمسحوق، ثم بدأ يجوس بأصابعه في شعري. اقترح غسله بالشامبو قائلاً إن شعري يحتاج ذلك جدًّا. تذكرت إنني غسلته بنفسي جيدًا بالشامبو في الحمام ليلة أمس. أحرجته مرة أخرى. عرض عليَّ زجاجة من ملمع للشعر لكي أشتريها. رفضتُ. امتدح نوعًا جديدًا من العطور عارضًا علي أن يبيعني إياه. رفضتُ ثانية. عرض عليَّ غسولاً للأسنان من اختراعه شخصيًّا، وعندما رفضتُ، اقترح أن يبيعني بعض السكاكين.
عاد إلى العمل بعد إجهاض مشروعه الأخير، رشني بالعطر من منبت رأسي إلى أخمص قدمي، دلك شعري بكمية كبيرة من الدهان غير عابئ باحتجاجي على ذلك، وراح يمشطه ويفرقه مثبتًا خصلة منه على شكل قوس فوق جبهني، ثم مشط حاجبيَّ الرقيقين، ثم راح يحكي قصة طويلة عن إنجازات جرو صغير إلى أن ترامت إلى أذني أصوات الصافرات عند الظهر فأدركت أنني تأخرت خمس دقائق عن موعد القطار. عندئذ، نزع الفوطة عني وهو يصيح مبتهجًا: "التالي".
هذا الحلاق سقط ميتًا بعد ذلك بساعتين إثر إصابته بسكتة دماغية، وأنا منتظر طيلة اليوم لحضور جنازته انتقامًا منه.