القاهرة 27 اغسطس 2019 الساعة 02:00 م
عاطف محمد عبد المجيد
يتشكل وَعْيُنا الإنساني كتراكمٍ لتطور التفاعل بين الإمكانات الموروثة في دماغنا البشري وبين بيئتها الاجتماعية، ويتجلى هذا الوعي عبر وسيط يتمثل في اللغة.فبدون اللغة ما كان لنا مراكمة هذا الوعي الذي بدأ بالسِّحْر ولم ينته بأعقد النظريات العلمية مروراً بالفلسفة والدين. ويبقى السؤال المُرَكب ( كيف بدأ الكون والحياة وكيف سينتهيان؟ ) مطروحاً حتى اللحظة التي سينتهي فيها وجودنا كمخلوقات واعية على هذا الكوكب المنزوي في مجرة ضمن ملايين المجرات في هذه الأكوان اللامتناهية.ويبقى العلم وحده هو المسبار الموضوعي للإجابة عن هذا السؤال خلال رحلتنا لتفسير الظواهر الطبيعية من انشطار الذرة حتى انقسام الخلية وتَشكّل الكائنات الحية.هذا ما يقوله أيمن أحمد عياد في مقدمته لترجمته لكتاب تشارلز سايف " فك شفرة الكون: كيف يفسر علم المعلومات الجديد كل شيء في الكون من أدمغتنا إلى الثقوب السوداء "، الصادر عن دار التنوير للنشر والتوزيع.في هذا الكتاب يحاول تشارلز سايف الإجابة عن مجموعة من الأسئلة منها: كيف بدأ الكون؟ وكيف تشكّل؟ ولماذا سارت الأمور وتسير على هذا النحو؟ وما هي القوانين التي تتحكم في حركة أجزائه؟ وما المصير الذي ينتظره؟ وهل توجد أكوان أخرى غير هذا الكون الذي نعيش فيه؟ ما طبيعة الحياة؟ وكيف يمكننا كبشر تفسير ما لا يُفسر حيث تتحطم أدواتنا المعرفية من المعادلات الرياضية إلى القوانين الفيزيائية حتى المباديء والأسس التي يقوم عليه العلم نفسه، كما يحدث في الثقوب السوداء أو في اللحظة التي سبقت الانفجار العظيم؟..
رؤيا بانورامية
يحاول أن يجيب على هذه الأسئلة اعتماداً على أحدث نظريات المعرفة الإنسانية المتمثلة في نظرية المعلومات وهي النظرية المعنية بتقديم تفسير بشري لمظاهر هذا الكون المرئي وظواهره كافة بل وللأكوان غير المرئية.هنا يقدم هذا الكتاب رؤية بانورامية لسعي الإنسان إلى تفسير الظواهر الطبيعية التي يقابلها ويصحبنا بإمتاع إلى حل العديد من ألغاز الكون. يقول المؤلف إنه اتضح أن المعلومات تشكل كوننا بالمعنى الحرفي للكلمة وربما تحدد حركة المعلومات التركيب المادي للكون إلى حد بعيد.ويبدو أن هذه المعلومات تقع في قلب أعمق تناقضات العلم الظاهرية - كأحجية النسبية وميكانيكا الكم - مثل نشوء ومصير الحياة في الكون، أو طبيعة القوة التدميرية الهائلة للثقوب السوداء أو الترتيب الخفي لما يبدو أنه كون عشوائي.لقد بدأت قوانين المعلومات في إماطة اللثام عن إجابات لأكثر أسئلة العلم عمقاً، لكن هذه الإجابات بدت بطريقة ما أكثر غرابة وإرباكاً من تلك التناقضات الظاهرية التي سعت إلى حلها.فالمعلومات تقودنا لتكوين صورة عن كون يسرع خطاه باتجاه هلاك مخلوقاته الحية كما لو كانت عالة متطفلة عليه، وتؤدي بنا إلى تصور لا يمكن تصديقه عن كون بيزنطي يتألف من تجمع هائل من الأكوان المتوازية.إن قوانين المعلومات تمنح علماء الفيزياء طريقاً لفهم الألغاز الأكثر إبهاماً والتي لم تخطر على بال بشر من قبل إلا أنها ترسم لنا صورة أكثر تجهماً كما لو كانت لوحة سريالية.أما عن نظرية المعلومات فيقول تشارلز سايف: بالرغم من أن الكائنات الحية تبدو كما لو كانت مختلفة بشكل فطري عن الكمبيوترات وصناديق الغازات إلا أن قوانين المعلومات لا يزال ممكناً تطبيقها.فنحن - الكائنات البشرية – نخزن المعلومات في عقولنا وجيناتنا كما لو كنا مجرد كمبيوترات تخزن المعلومات على أقراص صلبة، وفي الحقيقة يبدو من الممكن رؤية الحياة على أنها تكاثر المعلومات وحفظها بالرغم من محاولات الطبيعة لتشتيتها وتدميرها.إن نظرية المعلومات تكشف الإجابة عن السؤال الأزلي: ما الحياة؟..والإجابة فعلاً مربكة.وفي فصل بعنوان الحياة يقتبس المؤلف من مارشال ماكلوهان مقولته: بدلاً من أن نسأل مَنْ أتى أولاً، الكتكوت أم البيضة، يبدو فجأة كما لو كان الكتكوت هو فكرة البيضة للحصول على مزيد من البيض.ثم يتساءل ما الذي يجعل الجرذ أو البكتيريا مختلفين عن الصخرة أو قطرة الماء؟..ويجيب بأنه رغم قرون من المحاولات إلا أن الفلاسفة والعلماء قد فشلوا في المجيء بإجابة مقنعة.غير أن عالم الفيزياء شرودنجر قد حاول أن يعالج هذا السؤال في محاضراته، إذ رأى ارتباطاً عميقاً بين نظرية الكم وفلسفة طبيعة الحياة. وقد لاحظ شرودنجر بنظرة عالمِ فيزياء أن الكائن الحي يصارع دوماً ضد التحلل.إنه يبقى على نظامه الداخلي رغم تزايد انتروبية الكون.وقد فسر شرودنجر الحياة على أنها رقصة رشيقة للطاقة والانتروبيا والمعلومات.
تكاثر المعلومات
وبعد دراسة الجينات طبقاً لنظرية المعلومات توصل العلماء إلى أن الفرد ليس هو المدفوع لأن يتكاثر، إنها المعلومات التي في داخله هي التي تتكاثر.إن معلومات الكائن الحي يمكنها أحياناً أن تتكاثر بذاتها دون أن يتكاثر الكائن الحي الذي يحملها، والمثال على ذلك هو مستعمرة مثالية للنمل حيث لا تتكاثر إلا الملكة ووحدها هي التي تضع البيض، فيما ترعى الآلاف المؤلَّفة من النمل العقيم بيض الملكة حتى يفقس.ويصل تشارلز سايف إلى القول: لقد غيرت نظرية النسبية ونظرية الكم من طريقة إدراك علماء الفيزياء للكون، إذ طرحتا الكون البسيط البديهي الميكانيكي واستبدلتاه بواحد أكثر تعقيداً وإرباكاً من الناحية الفلسفية.وفي الوقت نفسه بدلتا من قواعد نظرية المعرفة كما بدلتا بقية الفيزياء.وبالنظر إلى النسبية ونظرية الكم بمصطلحات نظرية المعلومات حصل علماء الفيزياء على مفاتيح حل أكثر مشكلات العلم أهمية.لكن للحصول على هذه الإجابات، علينا أن ننقب في كل من النظرية الكمية والنسبية وكل منهما بالأساس نظريةٌ للمعلومات.وفي فصل بعنوان معلومات الكم يقول تشارلز سايف إن عالم الفيزياء بيتر شور قد أثبت عام 1995 أن الكمبيوترات الكمية يمكنها ضرب الأرقام بشكل أسرع بشكل مهول مما يستطيعه أي كمبيوتر كلاسيكي آخر، وهذا بدوره سيجعل أعظم جهاز لفك الشفرات قد عفا عليه الزمن.ثم يكمل: إن المفتاح العام لفك التشفير والذي يعد من أسس تفكيك الشفرة على الإنترنت هو طريق أحادي الاتجاه، إنه كإلقاء خطاب في صندوق بريد.وبذا يمكن قيد المعلومات لكن لا يمكن استرجاعها إلا إذا عُرف المفتاح السري.إن المفتاح العام لأنظمة فك التشفير هو أداة باتجاه واحد لأنها تعوّل على الدالات الرياضية التي يسهل وضعها ويصعب فكها مثل الضرب.
الثقب الأسود
هذا ويذكر تشارلز سايف أن معظم العلماء يعتقدون أن قوانين نظرية الكم ينبغي أن تنطبق على كل شيء إلا أن الأشياء الكبيرة لا تُظهر بوضوح سلوكاً كمياً كما تظهره الأشياء الدقيقة. كذلك يرى أن غرابة النظرية الكمية - كل سلوك الذرات والإلكترونات والضوء - لها علاقة بالمعلومات: كيف تُخزّن، كيف تنتقل من مكان لآخر، وكيف تتشتت.وبمجرد أن يفهم العلماءُ القوانينَ التي تحكم تلك الأشياء، سيفهمون لماذا يتصرف العالم تحت الذرّي بطريقة تختلف جداً عن طريقة العالم المرئي.أما القانون الذي يغلف قوانين الديناميكا الحرارية ويفسر عجائبية ميكانيكا الكم والنسبية فهو: ” المعلومات لا تفنى ولا تُخلق من العدم.“ وهو يصف كيفية تفاعل الأشياء الفيزيائية بعضها ببعض والطريقة التي يكتسب بها العلماء فهمهم عن العالم الطبيعي. إنه القانون الجديد.وعند مواجهة نظرية النسبية بقانون المعلومات، يبدو أنه سيفوز.وربما كانت المعلومات قادرة على البقاء بأكثر مما يستطيع أي شيء آخر في الكون.حتى لو تعثرت مباشرة داخل حوصلةِ أكثر قوة مدمرة في الكون، الثقب الأسود.