القاهرة 13 اغسطس 2019 الساعة 09:44 ص
كتب: عبد الحافظ بخيت متولي
يأتي ديوان " وفاء في زمن الغدر " للشاعرة ريم سليمان الخش تأكيدا على أن الشاعرة استطاعت أن تؤسس عالمها الشعري بوعي من خلال توظيفها المهم لتقنية السرد الشعري؛ التي يميل إليها الشعر في الزمن الحالي وإن اتخذت الشاعرة من الشكل التقليدي للقصيدة وعاء لخطابها الشعري، وهذا يدحض الزعم القائل بأن الشكل التقليدي للقصيدة العربية يتقاطع مع معطيات الحداثة ، فالحداثة الشعرية أكثر ميلا إلى توظيف الشكل السردي، بسبب ما يوفره هذا اللون من الكتابة من رحابة تخيلية، وبنية حكائية لها مدلولها الخاص، وإمكاناتها الأسلوبية المختلفة ، الأمر الذي يستدعي التساؤل عن مناطق الوعي الجمالي في العلاقة بين اللغة والشعر، وبينهما وبين السرد، وعن العلاقات السرية التي يُنتجها توظيف الطاقة السردية في بنية الخطاب الشعري
وهذا الوعي يتأتى للذات الشاعرة من خلال قدرتها علي قراءة العالم وتنوع تجاربها الشعرية الخاصة والعامة، وتزداد أهميته في الكشف عن تغير علاقتها بالعالم، والكشف عن تغير العالم ذاته. وهذا ما يبدو واضحا من خلال هذا الديوان، وذلك حين تأتي قصائده يتنامى فيها الشكل القصصي مرتبطا بالحدث والحدث المغاير مما يخلق مفارقة تلعب دورا مهما في توجيه خطاب النص الشعري لديها، وينتقل المعنى من مكان خارجي إلى مكان داخلي، وربما إلي مكان افتراضي أيضا ، وكأننا إزاء حالة جمالية تتعدد صور واقعيتها، حيث تتداخل الأمكنة والأزمنةُ ومستويات السرد وتوظيف اللغة، وأبنية التشكيل الدرامية التي يتنامى بناؤها ما بين النصوص والمتلقي في حال تفاعل المتلقي مع النص وإعادة إنتاجه، والقصائدُ المعنونة ب"رسولة عشتار"، "تنفس الصبح"، "وهبت له قلبي" تقدم لنا دليلا فنيا على ذلك، خاصة وأن وحدة النص في هذا السياق المتنامي لا تكمن في مقصد الشاعرة، بل في بنية النص نفسها. ولأنها ـ على الرغم من اكتفائها بذاتها ـ ذاتُ صلات خفية بالشاعرة، بسبب كونها تمثُّلا لأيقونات لغوية معقدة، أو "أيقونة لغوية" تُنَاظِر حدوسَ الشاعرة عن العالم، و حدوسها عن تغيرها الداخلي، ورؤياها الخاصة للوجود.
وبهذا التصور نكون قد قبضنا على التبرير الفني للعنوان "وفاء في زمن الغدر"، فالعنوان يحمل دلالة سردية مبنية علي تلك المسافة بين معطيات الوفاء وتناقضات الغدر ، وكلاهما يصب دلاليا في بوتقة السرد كذلك تأتي القصائد في هذا الديوان فضاء لغويا تخيليا تتنافذ فيه علاقات التغير الجوَّاني والخارجي، ويأتي السرد في هذا الفضاء على شكل ألياف حكائية توظف بوعي مختلف لغتها لتوسيع ما يستحيل توسيعه ويتضح ذلك في محورين هما :
1- اللغة المتمردة :
تأتي لغة الشاعرة ـ الحاملة للتغير والمنسكبةُ في أليافٍ سردية ـ لا تسيرُ وفق نظام نمطي رتيب ، بل هي صورة العالم نفسه الذي لا تنتهي غرائبه، حيث ينبت في كل اتجاه وبصورة فوضوية حية. وهذا ما يجعلها لغة ماكرة تتخفَّى دلالاتها تحت أقنعة شتى، وتتشابك مستوياتها خارج تخوم المواضعات والأنظمة المحددة لعلاقاتها بالفكر والوجود والخيال.
لذلك كانت اللغة في هذا الديوان هي ذاكرة الوجود، التي لها طاقات استيعاب المستقبل بكل تفاصيله الداخلية والخارجية، فأنت ترى الكلمة في هذه اللغة تتناسل عِشقا وحبا في علاقة مع الأشياء. وهذه العلاقة تتناسج في ثلاثة مستويات :
أ ـ مستوى الوصف
في هذا المستوي تأتي العلاقة وصفية سردية وهذا هو المستوي الغالب علي كثير من نص الديوان من مثل ما جاء في قصيدة "رؤي الشمس"
معناك سيل رؤى للشمس يف نفسي
روحــــي وتـبـعـثها خــضـراء مـــن رمــسـي
تـمشي عـلى كـبدي سـعيا إلـى حـسي
البـــعــد يـمـنـعـنـا عـــــن واحـــــة الأنس
مـعناك مـلء دمـي فـي الروح يف ملسي
فـيـهـا حــصـدت غــدي زرعــا مــن الأمس
يــا نـابـتـا بـــدمــي قــــد أيــنـعـت غــرســي
كـل الـحروف شـذى عـطر عـلى هـمسي
ب ـ مستوى التأمل
في هذا المستوي تكون العلاقة استبصارية حدسية متجذرة في العمق كاشفة عن علاقة البحر بالقاع كما في قصيدة "تنفس الصبح "
تــنــفــس الــصــبــح مــحـمـومـا بـــأوردتــي
يـهـذيـك فـــي لــغـةٍ لـــم تـروهـا شـفـيت!
لـــــم تـــروهــا شــفــةٌ بـالـعـشـقِ مـثـقـلـةٌ
مــن حــرّه ارتـجـفت فــي قـيـظ هـلوسيت
لــــــم تــحــكـهـا شـــفــةٌ حـــمــراء قــانــيـةٌ
ثــــــارت بــأحــرفـهـا مــــــن دون أســلــحـةِ
تـجـتـاحين بـهـوى فــي الـجـوف مـشـتعلٌ
جــحـافـلٌ بــدمــي والــحــربُ فـــي لـغـتـي
والـــحــرب تــأكـلـنـي الحـــــرف يــنـجـدنـي
بــعـضُ الـخـيـال أنـــا والــحـب وشـوشـتـي
مــالــت مـنـهـنـهة مــــن ثــقــل عـاطـفـتـي
تــسـعٌ وتـسـعـون نــجـوى حــبّ سـنـبلي
ج ـ مستوى التطابق
أما في الثالث فإن العلاقة تتخذ ذلك المنحى الحركي والذي يُخرج اللغة من الوجود الفارغ الذي لا شحنة فكرية فيه، ولا حلمَ ولا توهجَ ولا إيقاع، ويُدخلها في سياق حركي حي، تتطابق فيه الكلمة مع الأشياء، بحيث تغدو جسدا واحدا متوحدًا في لباس واحد، ذلك أن الشيء في أصله كلمة، والكلمة في أصلها هي شيء، كقولها في قصيدة "مروا علي النفس" :
مـرّوا عـلى الـنفس فـي عَـصْفٍ به انصرفوا
قـم اجـمع الـنفس وانـفخ روح مـن شُـغفوا
قـــــم رتـــــلِ الـــحــبَ صــوفــيـا ومـنـفـتـحـا
واجــعـل حـطـامـك خـلـف الأفق يـنـكشفُ
اصـــهــر جـــراحــك فـــــي جـــمــر تــخــزنـه
بـــقـــوة الـــحــب عـــــل الــبــعـض يــأتــلـف
نـحـالت روحــك قــد جــادت بـشـهد جــوى
فـــي واحــة الـحـب خــلّ الـنـحل يـرتـشف
وهذه المستويات الثلاثة تتعالق في الجسد النصي تعالقا سرديا دلاليا، يُتيح للمتلقي فسحة تحديد علاقةِ هذه المستويات كلها بالفكر.
2- الحقيقة والخيال:
الحقيقة لدى الشاعرة ريم لا تقاس بالتشييدات الرمزية لها، وإنما بالقياس إلى الوجود، والوجود سرديٌّ في أكثر تفاصيله. من ثمة كان السرد في كل نصوص ديوانها هذا علامة فارقة مزهرة في منطقة المجاز، لأنه يقدم رؤية ذاتية وفكرية وتخيلية للشاعرة، تمارسُ التوتر الحادث بين اللغة والخيال. وهذا التوتر تنقله الوحدات السردية التي تقف وسطا بين مجازية اللغة ووجود الساردة؛ الذي يحول منطقة الرمز، ومنطقة الخيال إلى أفق تصوري وفكري، كما يتجلى ذلك في قصيدة "الناي" :
قولها من ويــــعـــزف الــــنـــاي مــلــتــاعـا إذا عـــزفـــا
فــيــنــزوي الـــظـــلّ بالأوجاع مـعـتـكـفـا
ويــهـجـرُ الــقـلـبَ نــحــو الــكـهـف وجـهـتـه
فــي ظـلـمة الـكـهف يـبـدو الـوقتُ مـختلفا
قــــم وارتــــد الـحـمـد التــرقـد عــلـى ألـــم
لــصـهـوة الــمـجـد نــالــت خـيـلـه الـشـرفـا
أقـــوى مـــن الـصـبـر أمـضـى مــن تـهـكمه
امــضـغ جــراحـك واشـــرب نـزفـهـا شـغـفـا
إنــــــي أحـــبــك ســيــفـا فـــــي صــالبــتـه
يــقـطـع الــحــزن إذْ فــــي نـفـسـه عـصـفـا
العــيـن لـلـدمـع بـــل فـــي الـقـلـب أذرفــه
عـيـنـي عــلـى الــدرب ال أرجــوك أن تـقـفا
فالمعنى هنا يستحيل حضوره بين الدال والمدلول لأن ثمة انزلاقا إرجائيا أو تأجيليا لا ينتهي بين لا نهائية الدال ولا نهائية المدلول، خلافا لما هو متصور. وبهذا تكون اللغة المشدودة إلى حبل التوتر قد عملت على توسيع الدوال ومعها المداليل وتضمينها مفهوماً آخر جديدا للوجود؛ لذلك فلغة الديوان تحاول توسيع حدود الشعرية التشكيلية والمعرفية، بحيث تنقل حدود الشعرية من نسقية العناصر إلى تداخلية الأنواع التي تبتكر نوعا من الخيال الموسوعي التشعُّبي؛ الذي لا يكتفي بفكرة العلائق الجمالية والمعرفية الكامنة، بل يتجاوز ذلك التصور للخيال، ناقلا حدَّه الجمالي والمعرفي الجديد من التركيز على فكرة العناصر المكونة للمنظومة الجمالية الواحدة، إلى فكرة الأنساق العلائقية التي تربط بين وفرة من الأنظمة الجمالية والمعرفية المتعددة والمتباينة ، حيث ينهار مبدأ الإيهام بالواقع، فالواقع نفسه صار مكونا من قوة احتمالية النسق، وقوة جسارة اللانسق معا كما في قصائد "بدر الروح / نار بقلبي / مسيح بآلامي"، إنه واقع جمالي متناسل عضويا ولا عضويا، يتضامُّ ليتناثر، ويتناثر ليتضامَّ من جديد في إطار إدراكي أكثر وعيا ومعرفة وتخييلا، وبهذه المثابة التخيلية الجديدة والمدهشة من التركيب الخيالي المبتكرَ تكون فسحة الوجود قد اتسعت وتضوعت .
هذا فضلا عن الحضور المدهش للحس الصوفي الذي يجعل المسافة بين الحقيقة والخيال مسافة شفافة ويمنح النص طاقة نورانية يدفعها إلي اختراق وجدان المتلقي وسهولة إعادة تفكيك النص لديه ليعيد انتاجه من جديد بفعل طاقة السرد فيه وتوهج الشعرية ومركزية اللغة الفاعلة والتي تعتبر البطل الحقيقي في السرد الشعري لدى الشاعرة ريم سليمان الخش.