القاهرة 30 يوليو 2019 الساعة 10:18 ص
كتب : حاتم عبدالهادي السيد
يحيلنا صبحى موسى منذ الوهلة الأولى لروايته إلى حقول السيموطيقا عبر العنوان المفارق : " صلاة خاصة " ، والذى يستدعى تساؤلات قلقة حول ماهية هذه الصلاة ، وهل هناك صلاة خاصة ، وصلاة عامة ، أم أنه يحيلنا الى حقول المجاز عبر حدائق اللغة التى تنحو الى الايمان وعالم الفضيلة واليقين ، والجنة والنار ، وغير ذلك مما يستدعيه العنوان ، وعبر الرواية – ذات القطع الكبير والتى تصل صفحاتها الى ما يربو من خمسمائة وخمسين - ، ونجد الاجابة عن ماهية هذه التساؤلات فى آخر سطور الخاتمة على لسان البطل : ( لقد آمنت بما قاله بنيامين لتلميذه أنطونيوس من أن كل كتابة هى صلاة خاصة لكاتبها ) الرواية : ص 355 .
وعندئذ تتجلى المفارقة ، وتتفكك شيفرات النص السيميولوجى للعنوان الذى يحمل اندهاشية أولى للقارئ . والرواية تغوص – بعمق باذخ – فى المسألة المسيحية / القبطية ، وتطوف بنا عبر ردهات الكنائس والأديرة لتكشف عن جانب للتصوف المسيحى ( الرهبنة ) لعالم الراهبات والقساوسة ، والشمامسة ، كما تكشف عن العالم السرى للأديرة ، والخلافات والصراعات والانقسامات التى يشهدها هذا العالم المسيحى / اللاهوتى / الانجيلى ، والمتمثل – عبر رؤاه – فى رأس الكنيسة المصرية وأديرتها ، وما يحدث داخلها من صراع على السلطة : رئاسة الدير ، الكرسى الرسولى ، كرسى البابوية ، وما يتمخض عن ذلك من ظلم وتعذيب يفضى الى حد القتل ، والقاء المخالفين للتعاليم من خلف الجبل الشاهق ، حيث الذئاب والصحراء ، وحيث الحكومات التى تهاب الاقتراب ، أو التدخل فى أمور الكنيسة باعتبار هذه أمور قبطية كنسية تخص المسيحيين والمجمع المقدس ، وكأنها – كما صورها – دولة داخل الدولة ، أو أنها السلطة الروحية التى لا يجب المساس بها ، أو الاقتراب منها !! .
إنه عالم الواقعية السحرية ، حيث أجاد الكاتب رسم صور أبطاله ، وتصوير الدير الأسطورى / الواقعى / التاريخى / الآنى ، وعوالمه عبر المثيولوجيا الدينية المتمثلة فى تلك السلطة المتشددة ، والتى لا تتفق كذلك مع الإيمان وعظات القساوسة الذين يفقهون الناس ، ويتصارعون فى الخفاء لأمد يصل الى حد الجريمة ، والشلح من المنصب ، وعقد المؤامرات وغير ذلك .
ولعمرى ، كيف يصلى القساوسة ، ويراهم الناس طواويس النور والأمل وهم يتبركون بالصليب وبالمسيخ وبمريم العذراء ، وبالإيمان النقى أمام العامة ، بينما نراهم – فى الرواية – يمارسون العداء فى الخفاء ، ويقومون بأعمال الخطيئة التى ربما لم تخطر على بال الشرير ( الشيطان ) ، وهذا التطرف والصراع يظهر كمّ التشدد ، لا التسامح ، والخطيئة وليس الاعتراف ، ويظهر للقارئ الجانب المظلم / التاريخى للأديرة عبر العصور ، والاضطهاد والتصارع بين كنيسة الإسكندرية فى مصر ، والكنائس الأوروبية فى أنطاكيا وروما وغيرها من الكنائس القديمة ، كما تظهر بجلاء كذلك وجود إيمان حقيقى لدى بعض القساوسة والرهبان ورفضهم للأمور الدنيوية ، وربما كان باخميوس ، وأنطونيوس ، ودانيال ، ودميانة ، والأم تريزا ، وغيرهم من إبطال الرواية أبرز المثلة لصفاء الإيمان المسيحى ، مقابل الجلادين والقتلة أمثال : يوساب ، يؤانس ، والرجال ذوى القامات الطويلة أولئك الذين تدربوا فى معسكرات الكشافة ليقوموا بدور قتالى فيما بعد ضد السلفيين المسلمين المتطرفين أيضا، لتقع البلاد فى الفتنة الكبرى ، وصراع المذاهب والأديان العنصرى : ( لقد رغب ثاؤفيلوس فى تقوية نفوذ الكنيسة على الأديرة والرهبان ، وكانت الأديرة القائمة فى الصحارى البعيدة قد تأثرت بديانات الوثنيين الذين دخلوا المسيحية ، فاستبدلوا المسيح بآلهتهم ، وأخذوا يجسدونه على أشكال شتى ، ما بين تماثيل من صخور وأحجار ، وما بين رسومات على الأبواب والجدران ، وكان ثاؤفيلوس دارساً لكتابات العلامة أوريجانوس ومحاوراته مع الهراطقة ، فرفض تجسيد المسيح ، موقناً أن ذلك تشبّه بالوثنية ) الرواية ص : 492 .
وللحقيقة ، فإننا أمام ثلاث روايات – هنا – لا رواية واحدة فحسب ، ولقد استطاع صبحى موسى ببراعة شديدة أن يحكم مسيرة السرد ، ويمزج التاريخى بالواقعى والفنى ، ويسرد لنا الصراع بين الأقباط ومذاهبهم ، فالكنائس الشرقية لا تنضوي تحت تعاليم الكنائس الأوربية ، والصراع قائم – طوال الوقت – بين البطريرك فى روما ، وبطريرك الكرازة المرقسية ، وكنيسة الأسكندرية، وإن لم يذكر تسمية للكاثوليك والأرثوذكس والبروتستانت والأرمن ، إلا أنه صرح برموز وأسماء – ربما تكون معروفة مصريا وعالميا، وصولاً إلى القس ساويرس ، والأنبا شنودة ، وأحداث دير المحرق الحديثة ، وكذلك أحداث المطرية ، والصراع والتشدد المذهبى بين السلفيين والنصارى فى الصعيد ، ومحاولات نشر الفتنة الطائفية على الدوام ، وما كان من مسألة محاولة قتل دميانة ( إنجيل ) – كما أسموها لاخفائها من السلفيين الذين حاصروها وأرادوا تزويجها من أحدهم ، أو حرقها وقتلها لولا تدخل العمدة ورجال الشرطة وشباب المس لمين المعتدلين، رغم فقدها للذاكرة بعد هروبها من محاولات قتلها خارج الدير من قبل يوساب ورجاله ، والنجدة التى جاءتها عند ظهور الكلب السماوى الذى طالما تجلى لها أثناء عملها كمحققة فى دير الملاح ، حيث رفضت كتابة تقرير ضد الراهب أنطونيوس فدبر لها يوساب مؤامرة لقتلها ، وكان من قبل قد قام بشنق أستاذه باخميوس فى قلايته بعد أن زادت سلطته الروحية فى الكنيسة ، وقصده الشعب كراع وطبيب، على الرغم من اعتقاده وايمانه بتعاليم أورجانيوس – ذلك المصلح الكبير الذى أراد تخليص الكنيسة من آراء الهراطقة والوثنيين .
إنه الصراع السلطوى للكنيسة ، ليتحول الصراع بين الكفر والإيمان ، وبين الآخرة والمطالب الدنيوية مصورين للناس أنهم رسل الرب بينما بين أنفسهم يخفوا خبايا نفوسهم الشريرة .
ولقد نجح الكاتب فى مزج الأسطورى بالواقع عبر حكايات اللبؤة وأولادها تلك التى تموت وتستيقظ ، وتظهر وتختفى ، والكلب السماوى مثلها ، وتجلى المسيح ومريم العذراء لأشخاص عبر المثيولوجيا اللطيفة المبهرة التى تشيع أجواء التدين والقداسة والرهبنة ، والتصوف المسيحى وغير ذلك .
كما أصاب الكاتب فى تصوير العشق الروحى لعلاقة أنطونيوس الراهب بالمحققة دميانة وما كان من أمر الحب الخالص بينهما ، فبعد أن صلى وصام وتأهب للنوم يراها فى الحلم /عارية / يتشهاها ، وتتجلى الخطيئة عبر الشرير فى الحلم ، لكن السرد البديع لقصة العشق والهيام قد أكسب تعاطفاً للقارىء وتشاركية روحية مع قصتهما ، كما تتجلى جماليات الوصف والتصوير لتجعلاك فى قلب الأحداث مباشرة ، يقول : ( ألقى بجسده الطويل على السرير المبنى من أحجار الهضبة ، واستسلم لرطوبة الهواء القادم من فرج النافذة الوحيدة فى قلايته ، ما أن غمس عينه فى بئر النوم اللذيذ حتى رأى المحققة دميانة متجسدة أمامه ، رآها واقفة بقدها الممشوق كرمح منتصب فى وجه الريح ، لم يستطع أن يمنع نفسه من تمرير عينيه على هذا الفرع من الجاذورين الواقف فى مواجهته ، تمهل قليلاً أمام صدرها المكور كثمرتى باذنجان شهيتين أسفل فتحة صدر تنبئ بمنحدر عظيم ، لوهلة قاومت عينه رؤية الانحدار ، لكن الشرير أقنعة بإلقاء نظرة واحدة للتعرف على ما قد تخفيه الملابس الصوف السميكة فرفض بورع واباء ، رفض بقوة ، وهو مغلق عينيه حتى سمع صوت جرَار السوستة ينطلق من مكانه ، حين فتحهما وجد دميانة تخرج من ملابسها كيوم ولدتها أمها ، وجد عينه تستقر على بطن كطشت الخمير الفائر ، مغطية على دلتا ذات مستنقع ملىء بالعشب الأسود الكثيف ، فى تلك اللحظة كان جسده قد انفرط من هول المفاجأة ، وشعر أن ملابسه الداخلية انغمرت بفيض سائل لزج كثيف ، انتفض من نومه واضعاً يده على سرواله وأعضائه موقنا غير مؤمن : كان غضبه من نفسه يزداد كلما شعر أن لديه رغبة فى اعادة استحضار المشهد ، لم يكن نافراً مما رأى ، وشعر لوهلة أنه كان يتمنى أن يمتد الحلم ساعة أخرى ، شعر أنه شخص عاشق للرذيلة ، ولن يصيبه خبز الرب ببركته ) الرواية : ص : 21-22 .
إنها العشق الأشهى ، عبر الحلم الذى راوده منذ رؤيتها وهى تحقق معه ، فهو إنسان فى كل الأحوال ، وإن ترهبن أو تنسك ، يحس ويشعر رغم كونه عابد فى محراب الله ، يهرب من رغبات الجسد إلى ملذات الروح ، ولكنها إنسانيته ، المرأة ، حواء التى يحتاجها آدم فيترك الجنة ويأكل التفاحة ، فكيف ينكرون عليه الحب والعشق ، والمسيحية أتت لنشر الحب ، وكأنه يذكرنا بقول الشاعر العربى الجميل :
قالوا أحب القس سلامة وهو التقى الورع
فالحب ليس جريمة ، والعشق والهيام وتمنى امرأة فى الحلم والواقع ، ولكنها تقاليد الرهبنة ، والكنيسة التى ترفض ذلك ، وكأن الرهبنة نقيض الإنسانية ، ولكنه اختار الرهبنة طواعية لا كراهة وعليه أن يتخلص من الخطيئة بالاعتراف والعودة لطريق الروح بعيدا عن متطلبات الجسد الشاقة والشائقة أيضا.
ولقد قسم الكاتب روايته – فيما أحسب – إلى ثلاثة أقسام متساوية ، وجعلها تسير فى خط متواز ، تخالفى ، متسلسل ، دون أن تتقاطع ، وكأننا أمام ثلاث روايات لا رواية واحدة – فحسب - ، وقد خالف هارمونى التسلسل التشويقى للسرد المألوف وأحالنا الى رواية متشظية ، تركبية ، تغايرية لمسيرة السرد وهارمونيته التزامنية، فهنا يتقاطع التاريخى مع الواقعى الآنى ، ويختلف الزمنى النسبى التغايرى ، وكأنه تحقيب للزمنية عبر الأجزاء المتتابعة / المتقاطعة ، وكأننا نقف أمام ثلاث روايات منفصلة / غير متتابعة هارمونياً ، لكن يجمع خيط الموضوع :
الرواية الأولى : تجسد حكاية أنطونيوس ودميانة فى دير الملاح .
الرواية الثانية : رسائل ، وهى فى تسلسلها تمثل رواية بذاتها ، وتتقاطع فى متن الرواية الأم ، لكنها تحمل التاريخ والتعاليم الايمانية لتاريخ الكنائس القبطية فى العالم .
الرواية الثالثة : حكايات الرهبان فى كنيسة الأسكندرية ، وكنيسة أورشليم ، وكنائس روما وأنطاكيا ، وحكايات البطاركة والمهرطقين ، والأريوسيين ، ومواقف اثناسيوس مع البطريرك قسطنطين فى روما ، وما كان من ديمتريوس ، وفرمليانوس وخروجه من كيبادوكيا ، واضطهاد الإمبراطور ساويرس ، ورسائل اسطفانوس وغيرها ، حتى يصل بنا إلى البابا شنودة – الآن – بل إلى قيام الثورة المصرية فى 25 يناير 2011م .
ومع أنك تستطيع أن تقرأ كل قسم / رواية على حدة منفصلة عن سابقتها بأحداثها وشخوصها وحكاياها وقصصها وعوالمها المثيرة ، إلا أنه خالف ترتيبه السرد المعهود ليحيلنا عبر الواقعية السحرية إلى معادلات التاريخ والواقع معا فتشتبك الزمكانية بين كل قسم لتمثل جسدا ومعمارا شاهقا للمسألة المسيحية برمتها ، وهنا نلمح قصدية الراوى العليم فى مزج الماضى بالحاضر ، والتأريخ عبر أدب الرسائل والسيرة / وعبر ما هو تخييلى ، وإحالات الى الحاضر وتلك لعمرى مسيرة مرهقة للتأريخ لواقع العالم المسيحى – من منظور أدبى / فنى / واقعى وتخيلى وفانتازى أحيانا، فقد أحالنا إلى أقباط مصر من خلال جمعية الأمة القبطية التى أسسها صلاح مترى – والد دميانة – وزوج الأم تريزا ، والذى كان يطمح لتصحيح المسار داخل الكنيسة المصرية رغم اعتماده على تعاليم ورسائل أورجانوس والتى يحاربها غير المصلحين الباحثين عن منافع دنيوية ، إذ أن مترى كان ينادى بتعميق الإيمان المسيحى وتنقيته مما شابه من هرطقات عبر المناطقة ، والقساوسة والوثنيين وغيرهم .
ولعمرى – كان المؤلف ذكيا ، إذ صدر روايته بعبارة : ( أن أي تشابه بين الأسماء والأحداث المذكورة فى هذا العمل وبين الواقع ما هو إلا محض مصادفة ) ، ليخرج – فيما أحسب – من أى مسائلة لسطوة الكنيسة ، باعتبار هذا شأن قبطى ، ولا يجوز الخوض فيها أمام العامة ، أو المسلمين .
وتجدر الإشارة إلى انحيازية الكاتب لتصوير المجتمع الإسلامي / السلفى بالتشدد والعنف والظلامية ، حتى مع وجود شخصيات تؤمن بالوحدة الوطنية والتعايش كالأسرة المسلمة التى أخفت دميانة من هؤلاء المتشددين ، ودفاع العمدة والشباب المسلم عنها ، فالسلفيون هنا لا يختلفون عن طوال القامة الذين دربهم القس يؤانس فى معسكرات الكشافة للاستعداد لقتال المسلمين السلفيين حسبما تتحسن الظروف ، فبالغ فى وصف المتشددين المسلمين ، ولم يظهر عداوة أو نفور من أصحاب القامات الطويلة الذين يقومون بالقتل والبلطجة .
إنها رواية ساحرة ، تتقاطع فيها الشخصيات والأحداث لكنها تسير فى خط رأسى متتبعا تخالفية للسرد غير مدربة على الذائقة المصرية ، وإن استعملت عند كثيرين كذلك – لكنها تحتاج إلى قارىء ناقد ، خاص ، مثقف ، عليم ، متثاقف ، وتلك لعمرى جوهرة الرواية ونقيصتها فى ذات الوقت ، وكأنه أراد بهذا الخلط المتثاقف التاريخى الواقعى الفنى الخروج من المأزق الكبير تجاه المسألة المسيحية برمتها فتجىء على شكل فنى تاريخى تخييلى ، وكأنها ممسوسة يمازج فيها بين كل أولئك لنقف أمام جبل مسيحى إنجيلي قبطى شاهق ، ورواية تمزج بين الواقع والسحر عبر هارمونى السرد التخالفى ، غير التراتبى ، المهمش والمثير ، والجميل أيضا.
ولقد استطاع صبحى موسى بحذق تطويع اللغة واستعمالاتها ليحيلنا إلى السموق الباذخ عبر معمار اللغة الشائقة / الشيقة / الشاهقة / السلسة التى تدخل إلى داخل عقل وروح القارىء لتحدث تشاركية تعاطفية مع الشخوص ، والحكايات التى تشبه مغامرات موشاة بأسطورة عبر دهاليز الحنين والحب والإيمان ، كما استطاع أن يحكم معمار وشكل روايته / رواياته الثلاث ، ويخرجها لنا بشكل متأنق عبر أسلوبية غير زاعقة ، وعبر مواقف انسانية يصفها بروعة مغايرة ، فنتمثل الجمال عبر قصة الحب بين أنطونيوس الراهب العاشق ودميانة _ المحققة – التى تذوب شوقا لروحه المتطلعة نحوها ، وحيث العشق يسقط الرهبنة ليتضام الجسدان / الروحان فى حكاية أشبه بالمستحيل ، يتقاطع فيها ماهو حالم بما هو تخيلى، ويتمازج السحرى مع الواقعى والأسطورى، وتتلاقى الحقيقة مع اليقين، والتاريخانية مع الروحانية ، ونراه بمهارة يعمد كل ذلك بلغة روحية صوفية ، ويمسح على أجسادنا وعقولنا بزيت جاذبية سرده الباذخ فلا نترك الرواية الا بعد أن نشارف نهايتها ، وكأنه يجمع هنا بين التفكيكية للأحداث ، والتركيبية للمواقف والفصول ، والتجانسية للسرد المكتنز الذى يشى بالتاريخ ، وبجماليات الوصف وانتقالاته البديعة ، فكأنك أمام بحر لا ساحل له من التفاصيل والحكايات الفرعية والجزئية التى تميز هارمونية السرد المتنامي / المتقاطع ، ولا تملك هنا – كقارىء إلا أن تتعاطف مع قاطع الطريق / أنطونيوس العاشق الذى تحول إلى راهب معروف بوساطة الإيمان، ثم عشقه لدميانة وخروجه عن تقاليد الرهبنة التى يمكن أن تعرضه للشلح والطرد من الدير .
وتتجلى النهاية الرائعة بعد هروبه من الدير وتنقله بين القاهرة والصعيد والإسماعيلية وجنوب سيناء ، ثم لقاءه بالقس دانيال وما كان من أمره وجمع القساوسة والرهبان والمحبين لتخليص دير الملاح من الظلم وإنقاذ دميانة ، وما كان من ظهور اللبؤة الأسطورية والكلب السماوى وانتصار الإيمان على الكفر والظلم والاستبداد وتحرير العالم المسيحي من أدران الخطيئة وعبث الشرير .
ويمثل دانيال معادلاً للمسيح المخلص ، وينقلهم إلى الإيمان النقى بالإله الواحد ، دون تعصب لأقنوم ، أو تثليث ، أو صراعات مذهبية وطائفية ، أو اعتقادات وثنية وهرطقات ، وكأنه يستعيد صورة المسيح / الراعى الذى يحنو على الشعب ليعيده إلى الطريق المستقيم .
كما تمتلئ الرواية بالكثير من المشهديات التشويقية عبر سيمولوجيا السرد ، رغم تاريخانيته ، وتخيلاته ، والوصف المسهب ، والتفاصيل والحكايات الكثيرة جدا، إلا أنه استطاع بمهارة ساحر أن يحكم قبضه على جمر اللغة ويتدثر بصوف المفردات العفية الرقيقة ليخرج لنا رواية شاهقة / صلاة خاصة للكاتب عبر مسيرة السرد المكتنز التى تغفل حتمية التاريخ ، بينما هى تستعيده وتتقاطع معا ، تجاوره حتى الحافة ، تستلهم خطاه وتتقاطع معه فى الكل بخصوص المسألة القبطية المسيحية فى العالم ، وكأنه يعبر بنا من الخاص إلى العام ، ومن الكلى إلى الجزئي ، ومن المركزيات إلى الجوهر ، إلى أدق تفاصيل السرد ، وبمهارة شديدة نراه ينسل من بين الجميع ليؤكد فى النهاية : إنها صلاة تخص كاتبها عبر مجريات الواقع ، وعبر آفاق المسألة المسيحية التي تجاوز التاريخي ، وتؤكد الهوية ، وتستشرف آفاقا أكثر إشراقا وتنويرا وتثويرا، وكأننا أمام رواية ما بعد حداثية تؤطر لتاريخ الفكر المسيحي الروحي عبر الكون والعالم والحياة.