القاهرة 25 يونيو 2019 الساعة 11:23 ص
كتب: د. محمد السيد إسماعيل
يعد كتاب "الإمتاع المؤانسة " أكثر كتب أبي حيان علي بن محمد بن عباس التوحيدي ذيوعا وأكثرها ثراء و أهمية كما يعد أبو حيان نفسه علما كبيرا من أعلام القرن الرابع الهجري العاشر الميلادي ويصفه ياقوت الحموي في "معجم الأدباء "بأنه "كان متفننا في جميع العلوم من النحو و اللغة والشعر والأدب و الفقه و الكلام " وأنه كان "واسع الدراية والرواية " لهذا استحق أن يصفه بأنه "فرد الدنيا الذي لا نظير له ذكاء وفطنة وفصاحة".
وتعجب الحموي من أن أحدا لم يذكره في كتاب ويرجع ذلك إلى خصومته مع الوزيرين ابن العميد و الصاحب ابن عباد وتأليف "مثالب الوزيرين" ويقال إن لقب التوحيدي "راجع إلى مهنة أبيه الذي كان يبيع "التوحيد" وهو نوع من التمر وقد يكون راجعا إلي تسخير أبي حيان كل علم من أجل "التوحيد" على نحو ما يبدو من قوله في "الإمتاع والمؤانسة ": "إنا نعوذ بالله من صناعة لا تحقق التوحيد ولا تدل على الواحد و لا تدعو إلى عبادته".
وكان يفخر - مثل أستاذه الجاحظ - بانتسابه للعرب ويفضلهم على غيرهم من الأمم في عصر لا يجلب فيه هذا الانتساب أي منفعة بسبب غلبة الترك و الديلم على مقاليد الحكم . و قد امتهن التوحيدى –مثل بعض أساتذته –مهنة "الوراقة" ورغم وصفه لها بأنها "مهنة الشؤم فيها ذهب العمر والبصر"فقد كانت سببا فى ثقافته الواسعة المتنوعة هذا بالإضافة إلى تلميذته على يد أساتذة فى مجالات مختلفة حيث أخذ الفلسفة من يحيى بن عدي مترجم أرسطو و تلميذ الفارابى و هو بذلك –أي التوحيدي – ينتمي إلى مدرسة أبي سليمان محمد بن بهرام السجستاني المعروف بأبي سليمان المنطقي هذه المدرسة التي أنشأها ابن عدي وكانت ترى ضرورة الفصل بين الدين والفلسفة ولاترضى بالجمع بينهما وتعتقد أن لكل مجاله الخاص فى النفس الإنسانية كما كان تلميذ أبى سعيد السيرافي فى اللغة والنحو وكان الجاحظ شيخه الكبير حتى أنه ألف كتابا فى تقريظه ونسخ كتابه " الحيوان " كما أخذ عن المبرد وقدامة بن جعفر وغيرهما.
ورغم سعة علمه وثقافته فقد ظل يعانى الفقر وضيق ذات اليد كما يبدو فى قوله " لقد أذلنى السفر من بلد إلى بلد وخذلنى الوقوف على باب وباب ونكرنى العارف بى وتباعد عنى القريب منى " وقد وصل به الحال إلى أن أحرق كتبه فى آخر عمره لقلة جدواها وضنا بها على من لا يعرف قدرها بعد موته " والغريب أن يتهم أبو حيان التوحيدى فى عقيدته فقد ذهب أحمد بن فارس إلى أنه " كان قليل الدين والورع عن القذف والمجاهرة بالبهتان " وقال أبو الفرج بن الجوزى إن " زنادقة الإسلام ثلاثة : ابن الراوندى وأبو حيان التوحيدى وأبو العلاء المعرى " وهو اتهام باطل لمؤلف " الإشارات الإلهية " وهذا ما أكده ابن النجار حين قال " كان أبو حيان فقيرا صابرا متدينا وكان صحيح العقيدة "
قصة كتاب " الإمتاع والمؤانسة " :
كان أبو حيان مقربا من أبى الوفاء المهندس الذى كان سببا فى اتصال التوحيدى بأبى عبد الله العارض المعروف بابن سعدان وزير صمصام الدولة ابن عضد الله البويهى فكان الوزير يسأل التوحيدى باعتباره أحد جلسائه سؤالا كل ليلة ويستطرد التوحيدى فى الإجابة وظل ذلك على مدار أربعين ليلة ثم طلب أبو الوفاء المهندس كتابتها فكتبها التوحيدى فى سبع وثلاثين ليلة.
وهذا يعنى أن " الإمتاع والمؤانسة " بدأ شفاهيا وانتهى كتابيا بكل ما بينهما من فروق أسلوبية وكانت الموضوعات المطروقة من اختيار وتوجيه الوزير وبالتالى لم يخضع الكتاب لترتيب محدد أو اتساق فى المواضيع بل خضع للحديث العفوى الذى جاء متنوعا بين الأخلاق والمجون والغناء وحديث السياسة وبعض الشخصيات المعاصرة للتوحيدى من الفلاسفة والعلماء والأدباء كل ذلك فى أسلوب يجمع بين الفلسفة والأدب لهذا لم يكن عجيبا أن يطلق عليه زكريا إبراهيم " أديب الفلاسفة وفيلسوف الأدباء " وأن يصف بنسالم حميش كتابته بأنها تنتمى إلى " الفلسفة الأدبية " التى برع فيها الجاحظ وابن مسكويه والمعرى وابن عربى وابن حزم وأنها تقوم على التساؤل وتسليط الفكر على المخلوقات وعقد الصلة بين الفكر واللغة والقول والبلاغة وأنها استجابت لأهم مكون فى نمط الإبداع الفكرى العربى المتجلى فى " المقطعية " و" الشذرية " على نحو ما نجد فى البيت الشعرى والآية القرآنية والحديث النبوى والفتوى الدينية والشطحة الصوفية.
ويمكن وصف جانب كبير من كتابة التوحيدى بأنها " فلسفة وجودية " وهى الفلسفة التى " تحيا الوجود " وتتجاوز مجرد " مجرد التفكير فى الوجود " ويرى كمال أبو ديب أن " الإمتاع والمؤانسة " يقوم على فكرة المسرحة من حيث توفر عنصر المكان وهو " مجلس الوزير " والزمان المتمثل فى تتابع الليالى والشخوص " جلساء الوزير " والصراع المتمثل فى صراع الأفكار ويقوم الكتاب على محورين أساسيين : الفلسفى والمعرفى العام، بالإضافة إلى المباحث البلاغية والنقدية حيث طرح ما يجب توفره فى الأديب من الطبع والسجية وهو ما يرادف ما نسميه الآن الموهبة التى لا تكفى بمفردها بل ينبغى أن تصقلها الصناعة أو الثقافة بتعبيراتنا المعاصرة، كما تحدث عن أثر البيئة على الكاتب ورأى أن البيئة العراقية فى عصره أفضل البيئات التى تساعد على تكوين الطبع الأدبى كما عالج قضية اللفظ والمعنى وأكد ضرورة تكافؤهما ورفض الحوشى والمستكره والغريب من الألفاظ كما نجد فى الكتاب حديثا عن الموسيقى والغناء وأمراض النفس والعقل والوحى حين يقول " إن العقل لو كان يكتفى به لم يكن للوحى فائدة ولا غناء " والعلاقة بين الشريعة والملك حين يقول " إن الشريعة سياسة الله فى الخلق والملك سياسة الناس للناس " والعلاقة بين العلم والعمل فى قوله إن " الزيادة من العلم داعية إلى الزيادة من العمل والزيادة من العمل جالبة الانتفاع بالعلم والانتفاع بالعلم دليل على سعادة الإنسان
هذه نظرات عامة فى هذا الكتاب الهام الذى يعد من أهم ما وصل إلينا من القرن الثالث الهجرى ولا يزال معبرا عن همومنا إلى الآن .