القاهرة 18 يونيو 2019 الساعة 11:27 ص
كتب: أشرف سعد
للخط العربى مذاق رفيع جعل الحروف العربية وقواعدها الخطية ليس مجرد نقل للشكل، يقتضى مراعاة الفروق الدقيقة لنسب الحروف ووزنها الشكلى، والخطاط العبقرى المجود أخذ يتلمس أنماطًا جديدة غير معروفة طرح من حروفها الموزونة تعبيرًا روحيًا جعل الخطاط صوفيًّا متمرسًا يفيض قلبه ولسانه بحب الله؛ فأكثر من كتابة لفظ الجلالة فى خط مميزجميل ليتقرب به من المولى عز وجل .
ويتميز الخط العربى بين الكثير من الفنون العريقة التى عرفتها حضارات العالم بكونه فنًا متأكدًا فى أصالته التى شب عليها ونما فيها وتشعبت عنها ضروبه الرائعة وإذا مسته بعض المؤثرات الخارجية الطارئة فإنه لم يخرج مطلقًا عن أصالته التى انبثق منها واستقام له أن يكون حرفًا عربيًّا واتسع مجال الحرف العربى وأصبح يقيم فى كل مجال توفر له , سواء فى لوحه أو فى صفحة كتاب أو لوحه جداريه أو مقطع حائط مبنى أو آنيه معدنيه أو زجاجية أو قطعة قماش , وبرز توهجه وجماله المتألق فى أبهى صوره فى آية كريمة أو حديث شريف أو حكمه أوبيت شعر .
الأصل التاريخى للخط العربى
يرى الكثير من الباحثين أن الخط العربى الحالى منحدر من أصول سريانية (1)
( آرامية ) عن طريق الأنباط ويرى ( سيد فرج ) أن أصول الكتابه العربية على ضوء النقوش (2) المكتشفة وبين بدايات الخط العربى اعتمادًا على ذلك مفسرًا ما جاء فى نقوش مدائن صالح وحران إلى أن الكتابة العربية هى نتاج تطور الكتابة النبطية وأنها تحمل الكثير من مقوماتها وخصائصها فى الأصوات والقواعد والمفردات وعمومًا فإن الخط العربى نشأ ونبت فى شمال الجزيرة العربية ومن المرجح أن تكون الكتابة النبطية انتقلت إلى الكتابة العربية فى القرن الخامس الميلادى (3) .
وإذا كان الخط المسند أكثر صلابة وقساوة من الخط النبطى فقد تراجعت الكتابة به وخاصة أن الخط النبطى أكثر ليونة وأسهل فى استخدامه ومنه استفاد عرب شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام فى تطور كتابتهم ومن القساوة إلى اللين ظهر الخط الكوفى المشوب بلمسات من زوايا الجزم , وفى عهد بنى أمية ظهر بعض الخطاطين منهم خشنام وخالد الهباج وقطبه المحرر وغيرهم وجودوا فى كتابه النسخى القديم وظهرت أربعة أنواع هى ( الخليل والطومار والثلث والنصف )(4)
وفى هذا العهد أُضيفت النقط إلى بعض الحروف على يد أبى الأسود الدؤلى استنادًا إلى بعض الترقيشات القديمة , وفى العهد العباسى الأول انتقلت جودة الخط العربى من الشام إلى العراق وأصبحت بغداد مركزًا مهمًّا لتطوير الخط العربى ثم انتقل مركز الحضارة العربية إلى القاهرة بعد سقوط الدولة العباسية فأجاد الخطاطون فى مصر وأضافوا تحسينات كثيرة وأصبح الخط العربى على أيديهم فى مستوى عالى الجودة . وجود الخط العربى فى أماكن أخرى فى المشرق والمغرب العربيين وظهر الخط المغربى فى القيروان والأندلس وإذا توقفنا عند الخط الكوفى نجد أنه غنيًّا فى مضامينه الفنية والجمالية وكثرة أنماطه وأنواعه وبدأت أشكاله البدائية فى أوائل سنوات الهجرة وقد استتب أمره ضمن نسخ زخرفى رائع بدءًا من القرن الثامن الميلادى (5) وشهد ازدهاره فى القرنين الرابع عشر والخامس عشر . وقد شهدت فترة حكم المماليك فى مصر تكريسًا لا مثيل له فى خط المصاحف والعناية بزخرفتها على أيدى خطاطين ملمين بأصول الخط كابن الوليد تلميذ الخطاط ( يعقوب المعصومى ) والزخرفى بن أبى بكر صندل وابن مبدور وغيرهم ممن أغنوا تلك الخطوط بكثير من القيم الجمالية الأصيلة (6).
الفلاسفة والخط العربى
شغل الخط العربى الفلاسفة والأدباء وكان لهم دورهم فى الحفاظ على هذا الفن الجميل وتطويره ويُرجع إخوان الصفا وخلان الوفا فى رسالتهم السابعة عشر أن الكتابة هى الخط المستقيم ويقولون ( أعلم أن أصل هذه الحروف كلها والخطوط أجمعها خطان لا ثالث لهما ومن بينهما وعنهم تركبت هذه الحروف حتى بلغت نهايتها وذلك الخط المستقيم هو قطر الدائرة والخط المقوس هو محيطها (7 ) .
أبوحيان التوحيدى هو مؤسس علم الجمال عند العرب وكان يلقب بفيلسوف الأدباء وأديب الفلاسفة وكان فيلسوفًا مبدعًا وخطاطا بارعًا ولشدة حبه للخط العربى ألف فيه رسالة ربما تكون من أقدم ما ألف فى العربية عن الخط العربى وتقع رسالته فى علم الخط فى ست وثلاثين صفحة وهى من أوائل المراجع التى وضعت قواعد الخط ووصفًا دقيقًا لخطوط بعض معاصريه وقسم التوحيدى أنواع الخطوط العربية وأقسامها فى زمانه وقال ( كانت العبرة فى زمانهم قواعد الخط الكوفى بأنواعه وهى أثنتا عشر قاعدة ( الإسماعيلى والمكى والمدنى والأندلسى والشامى والعراقى والعباسى والبغدادى والمشعب والريحانى والمجرد والمصرى ) وجاءت رسالة التوحيدى متضمنة كل ما يتصل بهذا الفن من مقولات ونصائح وتوجيهات فى كل ما يتعلق بأسرار فن الخط من أدوات وطرق للكتابة ولم ينس التوحيدى أن يُحدثنا فى رسالته عن أنواع الأقلام وطرق بريها ويقول على لسان أحد أرباب المهنة ( خير الأقلام ما استمكن نضجه فى جرمه وجف مائه فى قشره وقطع بعد إلقاء بذرة وصلب شحمه وثقل حجمه ) (8) .
ومن مبادئ تعليم الخط يُحدثنا التوحيدى على لسان إبراهيم بن العباس مخاطبًا غلامه ( ليكن قلمك صلبًا بين الرقة والغلظة ولا تبره عند عقده فإن فيه تعقيد للأمور ولا تكتب بقلم ملتو ولا ذى شق غير مستو واجعل سكينتك أحد من الموسى) ولم ينس التوحيدى فضل السابقين كابن مقلة ( 272 – 339 هـ ) فهو أول من كتب الخط البديع الذى تطور بعد ذلك إلى خط النسخ الذى قال عنه ( مستقيم زاده ) فى تحفة الخطاطين (ابن مقلة حدقة الزمان وهو ذلك الأكاديمى الذى منهج لنا الخطوط العربية وضبط نسب حروفها وحدد شكلها وأحكم العلاقة الهندسية التى بينها حتى أصبحت علمًا له مناهج مدرسية محكمة ) .
ولعل أقدم الخطوط العربية هى تلك الخطوط التى تفاعلت فى جزيرة العرب من شمالها إلى جنوبها حتى ظهر الخط العربى القديم الذى وجُد قبل الإسلام ثم انتشر بعده وأخذ فى التطور والتنوع حتى صارت له أسماء عديدة وأقلام عديدة وأصبح يطلق عليه أسماء المدن التى كانت تسود فيه مثل المكى والمدنى والشامى والكوفى وغيرها .
قالوا عن الخط العربى
لا زال الخط العربى حتى يومنا هذا يستقطب اهتمامات متزايدة من قبل الباحثين والدارسين وهذا يؤكد أصالته وعبقريته .
بابادوبلو
باحث يونانى سكندرى اعتبر الخط العربى فنًا رائدًا وذلك على عكس الخطوط لدى العديد من الشعوب الأخرى وأكد على ذلك فى دراسة له باللغة الفرنسية .
بوركهارت
الخط العربى أيقونة العرب والمسلمين .
محمد سيجليماسى
الخط العربى فنًا فريدًا ليس من الجائز التأكيد على أولويته التشكيلية فجمالياته متأتية من كونه فن الخط العربى وليس شيئًا آخر غير ذلك .
وإذا كانت عبقرية العرب تمثلت فى لغتهم إلا أن الفن الإسلامى سيظل علامة فارقة وأصيلة عبر الأزمان .
الهوامش :
1- سيد فرج راشد – الكتابات القديمة – مجلة عالم الفكر – ج1 – عدد4 – الكويت 1985م .
2- سيد فرج راشد – الكتابات القديمة – مرجع سابق .
3- ابن قتيبة – عيون الأخبار – الجزء الأول – طبعة دار الكتاب العربى – القاهرة – د. ت .
4- عفيف البهنسى – الخطوط العربية – مجلة الثقافه العربية الليبيه – عدد11 – ليبيا 1975م .
5- بلندر حيدر – أثر الإسلام فى الخط العربى – مجلة العربى – إصدار وزارة الإعلام الكويتية – عدد 455 –الكويت 1996م .
6- د / بسمة سيف – الإعجاز العبقرى فى الخط العربى – مجلة جريدة الفنون – عدد 167 – الكويت 2015م .
7- إخوان الصفا – رسائل إخوان الصفا – جزء 13 – إصدار بيروت – لبنان – 1973م .
8- د / بركات محمد مراد – رؤية فلسفية لفنون إسلامية – مكتبة مدبولى – القاهرة 2008م .