القاهرة 18 يونيو 2019 الساعة 11:20 ص
كتب: د. حسين عبد البصير
كان الإيمان بالبعث والحياة الأخرى بعد الموت هو الدافع الأساسي كي يُقدِم الفراعنة ملوكًا وأفرادًا على تقديم القرابين إلى موتاهم سواء أكان ذلك عبر النصوص المكتوبة أو المناظر والنقوش المصوّرة داخل مقابرهم أو من خلال وضع القرابين والعتاد الجنائزي في مقابرهم بالفعل. وكانت هناك صيغة شهيرة تعرف باسم صيغة تقدمة القرابين أو "حِتب دِي نِسو" ("قربان يقدمه الملك") باللغة المصرية القديمة. وكانت تتكون غالبًا من مجموعة محددة من الكلمات التي يمكن من خلال قراءتها تحقيق الإفادة الفعلية لروح المتوفى من خلال تفعيل القيمة السحرية للكلمة التي تتحول بالفعل إلى قرابين حقيقية بناءً على إيمان المصري القديم بقوة وفعالية الكلمة من خلال ترديد وتلاوة التعاويذ السحرية. وكانت صيغة تقدمة القرابين تُكتب عادة بالكتابة الهيروغليفية. وكان صيغة تقديم القرابين تأمل أن يتم تقديم القرابين الفعلية للموتى مثل تقديم العديد من أنواع الأطعمة والمشروبات والمؤن والاحتياجات التي يحتاجها المتوفى في العالم الآخر، أو من جلال التلاوة الشفهية لصيغة القرابين بكل ما تحويه من أنواع عديدة من القرابين بمختلف أنواعها، فضلاً عن تصوير القرابين المأمول تقديمها للمتوفى في شكل مناظر أو من خلال نقوش كان يتم التعبير عنها بالفن أو من خلال التعبير عن ذلك من خلال نصوص مكتوبة عبر استخدام الكتابة الهيروغليفية في تحقيق ذلك الغرض. وكان من المفضل أن يتم وضع القرابين الفعلية في المقابر في موضع الدفن والتي كان يتم تقديمها للمتوفى بواسطة بعض الأفراد من العائلة مثل الابن، أو من كان يقوم بدور الوريث للمتوفى، أو عن طريق بعض الأهل الذين كانوا يزورون المقبرة، أو عن طريق بعض أولئك العابرين الذين يمرون على مقبرة المتوفى، أو يرون أو يقرأون اللوحة الجنائزية الخاصة به.
وكانت صيغة تقدمة القرابين تبدأ عادة باالسطر التالي "القربان الذي يعطيه الملك وأوزير، الإله العظيم، سيد أبيدوس" ويأتي بعد ذلك ذكر اسم روح المتوفى الذي يتم تقديم القرابين وكان هو صاحب المقبرة أو اللوحة الذي كان يتطلع شوقًا وتهفو روحه لتسلم هذه القرابين في عالم الآخرة. ثم تستمر صيغة القرابين في التلاوة ذاكرة "لعله يتم تقديم قربانًا مكونًا من الخبز والجعة والثيران والطيور والألبستر والكتان وكل شيء جيد وطاهر مما يعيش عليه الإله". وكانت بعض الصيغ تذكر أسماءً أو أنواعًا غير متداولة في صيغ القرابين التقليدية مثل الزيوت أو الدهون العطرية والبخور والقرابين والمؤن والاحتياجات التي كانت تدخل أيضًا ضمن قائمة القرابين المقدّمة للمتوفى. وكانت هناك بعض الأنواع الغريبة من التقدمات في القرابين مثل تقديم القنفذ ضمن مائدة القرابين في أحد مناظر إحدى مقابر عصر الدولة القديمة.
وكانت القرابين أيضًا تُقدم إلى الآلهة. وكان يقوم بذلك الملوك أو من ينوب عنهم مثل كبير الكهنة أو من يمثله من خلال تقديم القرابين على موائد قرابين الآلهة المصرية داخل المعابد المصرية. وكان من المهام الضرورية للملك المصري القديم أن يقوم بتقديم القرابين للآلهة ومعابدها وإمدادها بها باستمرار.
وفي هذه العادات ما يذِّكرنا بزيارة الموتى في مصر المعاصرة وقراءة الفاتحة والقرآن على أرواحهم وتقديم "الرحمة والنور" على أرواحهم للفقراء والمساكين بعد الدفن وفي أيام الخميس والأربعين وفي الأعياد والمناسبات. إن مصر القديمة لم تمت، وإنما تعيش تحت جلودنا وفي عقولنا وبين أرواحنا.