القاهرة 11 يونيو 2019 الساعة 11:24 ص
كتب: طلعت رضوان
يـُـعتبرإحسان عبدالقدوس (1 يناير1919- 12يناير1990) من الشخصيات المهمة فى تاريخ مصرالحديث، لأكثرمن سبب، فهوأولا: جمع بين الكتابة الأدبية فى مجال الرواية والقصة القصيرة، وبين الكتابة فى مجال السياسة. ثانيـًـا: مزج حبه للوطن وضفــّـره (والأدق خلطه) بمعشوفتيْن: الرواية والسياسة، وأنّ هاتيْن المعشوقتيْن كانتا أشبه بزوجتيْن لرجل واحد، وكل واحدة تغريه وتشده إليها..وفى نفس الوقت هولا يـُـبغض إحداهما..والأكثرأهمية أنه مُـتيــّـم بالإثنتيْن. ثالثــًـا: أنّ إحسان نشأ فى أسرة جمعتْ التناقضات فى ضفيرة واحدة، فجده (الشيخ رضوان) أحد خريجى جامع الأزهر..وشغل منصب رئيس المحاكم الشرعية..وكان شديد التمسك بأومرالدين (من الناحية الأصولية الشرعية) وبالتالى الحرص على التقاليد التى نشأ عليها، بينما والدة إحسان ووالده على النقيض، فقد عشقا الفن لدرجة ممارسته ممارسة فعلية..وهنا يتوجــّـب التعرف عليهما كى نتعرف على شخصية الابن الذى عاش وعاصرالتناقض بين شخصية الجد من ناحية وشخصية الأم والأب من ناحية ثانية..وأرى أهمية التعرف على الأم بمراعاة أنها الأكثرتأثيرًا فى تكوين شخصية الابن.
فى عام 1925 تبنّت فاطمة اليوسف، الشهيرة بروزاليوسف (وسارة برنارالشرق) فكرة إصدارمجلة..وذلك بعد أنْ عملتْ بالتمثيل مع عزيزعيد، الذى- كما كتبتْ فى مذكراتها- كان له الفضل فى تنمية موهبتها، وفى تشجيعها على مواجهة جمهورالمسرح..وهى صغيرة وأقرب إلى الطفولة (حوالىْ سبع سنوات) وبعد أنْ انتهتْ فترة عملها بالمسرح، واتتها فكرة إصدار(مجلة فنية نقدية محترمة) وكانت قد بلغتْ الساعة والعشرين من عمرها..وفى يوم 26/10/1925 صدرالعدد الأول من مجلة (روزاليوسف) رغم أنها لم تكن تجيد كتابة المقال، وإنما كانـــــت تــُـملى أفكارها على أحد المحررين ليصيغه لها فى شكل مقال. أما كتابها الوحيد (ذكريات) فهويحتوى على سيرتها الذاتية..ومن المواقف المهمة فى حياة هذه السيدة الجليلة ما حدث عـــــــام 1945 عندما كتب ابنها إحسان عبدالقدوس مقالاضد اللورد (كيلرن) فى مجلة روزاليوســــف التى صدرقراربمصادرتها والقبض على إحسان. كتبتْ السيدة (روز) عن ظروف اعتقال ابنها إحسان، فى مشهد غاية فى الأهمية، من الناحيتْن الإنسانية والدرامية فقالت فى مذكراتها ((حاولتُ أنْ أتحمّــل المسئولية نيابة عن ابنى..وأنْ أدخل السجن بدلاعنه، ولكن إحسان ثار..وشهد مكتب وكيــــــــل النيابة مناقشة حادة، لا أعتقد أنّ تاريخ الصحافة فى العالم شهد مثلها، مناقشة بين أم وابنهــــــا، كل منهما يريد أنْ يتحمّل المسئولية، وكل منهما يريد أنْ يدخل السجن..وانتصر وكيل النيابـــة لابنى وحمّله المسئولية وأودعه السجن))
وهذه السيدة تميــّـزتْ بدرجة عالية من الصلابة والاعتزازبالنفس (وهذه السمات الشخصية انتقلتْ إلى الابن بدرجة ملحوظة فى مسيرة حياته) ومن بين المواقف التى تعرّضتْ لها السيدة (روز) هوالموقف الذى ذكرته فى مذكراتها حيث حدثتْ أزمة فى المجلة بخروج محمد التابعى ومصطفى وعلى أمين وسعيد عبده وصاروخان، فقرّرتْ (روز) التحدى، وكان تحديًا غيرمتوقّع، إذْ أصرّتْ على إصـــــدارجريدة يومية بذات الاسم (روزاليوسف) وبالفعل نجحت فى ذلك رغم كل العقبات التــــــــى وقفتْ فى طريقها، مثل معاداة حزب الوفد للجريدة، رغم أنها صدرتْ معبرة عن سياسة الحزب، ورغم الشروط المُـجحفة من بعض الكــُـتاب للكتابة فيها، مثل موقف العقاد الذى اشترط مرتبًا قدره (80 جنيهـًـا) شهريًا وعلى أنْ يستلم مرتب أربعة أشهرمقدمًا، تــُـخصم من مرتبه بواقع 20 جنيهًا شهريًا، وبالرغم من كل ذلك صدرتْ الجريدة ولاقتْ نجاحًا كبيرًا. (المصدركتاب فاطمة اليوسف (ذكريات) الصادرعــــــــــن مؤسسة روزاليوسف. أكثرمن طبعة.
هذه هى الأم التى تأثربها الابن وتغلغلتْ داخل وجدانه..ويذهب ظنى (من خلال قراءتى لإبداعاته الأدبية، أومقالاته السياسية أومواقفه مع الحـُـكام) أنّ شخصية والدته انعسكتْ بشكل ملحوظ (بصفة خاصة) على بطلات رواياته اللائى تحـدّينَ ظروف المجتمع القاسية..ونجحنَ فى المواجهة، مثل الأم التى حاولتْ زرع قيمة الديمقراطية داخل عقول أولادها فى (امبراطورية ميم) والفتاة التى أحبتْ المناضل الفدائى ضد الإنجليزفى (بيتنا رجل) ومثل الفتاة التى جاهدتْ لتحصل على حريتها..وتثورضد تقاليد المجتمع، فنجحتْ فى مواقف وتعثرتْ فى مواقف أخرى، كما فى قصة (أنا حرة) ولم يكن هدف إحسان الانتصارأوالانحيازلأحد الموقفيْن، بقدرإثارة (مشكلة الحرية) كى يتفاعل القارىء مع تلك المشكلة.
أما عن الظروف التى ألهمتْ إحسان بفكرة كتابة روايته الشهيرة (فى بيتنا رجل) فإنّ بذرة الفكرة فى هذه الرواية سببها أنّ حسين توفيق، وهو الشخص الذى قتل أمين عثمان (وزيرالمالية المصرى، فى حكومة حزب الوفد – من 4 فبراير 1942 – 8 أكتوبر 1944– وكان يشغل رئيس جمعية الصداقة المصرية – البريطانية – وكان حسين توفيق عضوًا فى جمعية سرية والزميل المُـقرّب لعضو آخر هو محمد أنور السادات (الذى أصبح رئيس الجمهورية بعد وفاة جمال عبدالناصر) وهذه الجمعية السرية، كانت تتبنى أسلوب الاغتيالات والتصفية الجسدية، لكل من يتعاونون مع الإنجليز.
وبعد أنْ نفــّـذ حسين توفيق المهمة وقتل الوزيرأمين عثمان، إذا بصديقه (سعد كامل– أحد أعضاء الحزب الوطنى) يتصل بإحسان، ويـُـخبره بأنّ حسين توفيق، بعد أنْ قتل أمين عثمان هرب..والبوليس يبحث عنه..والمطلوب البحث عن مكان آمن (لايخطرعلى بال ضباط الشرطة) ليختبئ فيه..إلخ.
وجد إحسان نفسه أمام امتحان عسير..وتساءل: كما أدلى فى تصريحاته الصحفية، ماذا أفعل؟ هل أتركه ليقع فى قبضة البوليس السياسى؟ وازدادتْ الحيرة داخل وجدان وعقل إحسان، لأنه كان من أشد أعداء أسلوب الاغتيالات والتصفيات الجسديه (وهوما قاله لأحد الضباط – قبل يوليو1952- عندما أخذ رأيه فى اغتيال الملك فاروق) لذلك عندما سمع صديقه سعد كامل، يطلب منه البحث عن مكان يختبىء فيه حسين توفيق، قال لنفسه: صحيح أننى ضد أسلوب الاغتيالات والتصفيات الجسدية، ولكن حسين توفيق قتل شخصــًـا كان يتعامل مع أعداء مصر، ولذلك يجب حمايته والبحث عن مكان يختبئ فيه، ولايخطرعلى بال رجال البوليس السياسى، خاصة وأنّ الراديوكان يذيع خبراغتيال الوزيرأمين عثمان (كل نصف ساعة) والأخطرأنّ المذيع كان يقرأ أوصاف المتهم القاتل (حسين توفيق) حسب النشرة التى أرسلتها وزارة الداخلية للإذاعة وللصحف.
عند هذا الحد اتخذ إحسان القرارالحاسم والنهائى، وهوالاتصال بسعد كامل ليعرف منه مكان حسين توفيق، وعندما تقابلا أجلسه إحسان بجواره فى سيارته، وذهب به إلى منزله، وقال لزوجته (بمجرد دخوله الشقة): معى ضيف..وإذا بالزوجة الوطنية والمخلصة لوطنها ولزوجها، تمد يدها وتصافح الضيف (وقد عرفت من هو) وقالت له: أهلا يا حسين، أرجوك أنْ تعتبرنفسك فى بيتك .
من هذه التجربة الواقعية استمـدّ إحسان الفكرة الأساسية لرواية (فى بيتنا رجل) ولكنه (مثل أى مُـبدع أصيل) صاغ رؤيته الخاصة، عندما جعل بطل روايته عضوًا فى أحد التنظيمات السرية، التى تشن الهجوم على معسكرات الإنجليزفى صحراء منطقة العباسية، أى أنّ إحسان تجاوزأسلوب الاغتيال، للتركيزعلى المقاومة الشعبية المُـسلحة ضد الإنجليز..والأهم هوالتفاعل الذى حدث بين الفدائى..وبين الأسرة التى احتضنته ورحـّـبتْ به..وتعاطفتْ معه (من منظورإنسانى ووطنى) بالرغم من حالة الرعب والخوف والتوتر..طوال فترة إقامته..وحتى مغادرته شقة تلك الأسرة..كما أنّ إحسان– كعادته– لم يغفل تضفيرقصة البطل الهارب والمُـطارد من البوليس السياسى، بقصة حب عاطفية رومانسية، نسجتْ خيوطها إحدى بنتىْ رب الأسرة التى استضافتْ البطل الهارب..ومن هنا حازتْ الرواية..وحازالفيلم تلك الشهرة الجماهيرية الواسعة، (الفيلم من إخراج هنرى بركات، سيناريووحواريوسف عيسى) من واقعة حقيقية لها أصل من الواقع السياسى المصرى (فترة الأربعينيات من القرن العشرين) وتحوّلتْ بمهارة وموهبة إحسان والمخرج والسيناريست إلى عمل روائى وسينمائى به كل عناصرالدراما والكفاح الوطنى والتشويق.
وإذا أضفنا إلى ذلك سلسلة مقالات إحسان السياسية، والتى أثارتْ الكثيرمن الجدل..وتسبّـبتْ فى اعتقاله أكثرمن مرة (سنة1945بسبب مقاله الذى طالب فيه برحيل المندوب السامى البريطانى من مصر) ومرة ثانية (سنة1954بسبب مقاله: الجمعية السرية التى تحكم مصر) فأمرالرئيس عبدالناصربإعتقاله فى السجن الحربى (بالرغم من الصداقة العميقة التى ربطتْ بينها) وبعد قضاء تسعين يومًـا فى زنزانة انفرادية، اتصل عبدالناصربقائد السجن الحربى (أحمد أنور) وأمره بالافراج عن إحسان..كما طلب التكلم مع إحسان والاعتذارله..وهوالأمرالذى أدهش قائد السجن الحربى، بل وأزعجه، خاصة بعد معاملته السيئة والقاسية لإحسان..وإتهامه بأنه ((شكــّـل تنظيمًـا سريـًـا لقلب نظام الحكم) ومعلومات أخرى كثيرة عن (درامات حياة إحسان عبدالقدوس) كفيلة بأنْ تجذب المؤلفين الذين يكتبون سيناريوهات الأفلام السينمائية والمسلسلات التليفزيونية، لإنتاج عمل درامى سينمائى أوتليفزيونى، ليعرف الجيل الجديد من شعبنا المصرى (قيمة وأهمية) إحسان عبدالقدوس.